مسيرة نحو الصمت الداخلي

متفرقات

مسيرة نحو الصمت الداخلي

تتكلّم القدّيسة تريزا بنديكتا للصّليب، هذه الرّاهبة الكرمليّة، عن سبعة أمور أساسيّة لعيش نوع من الصّمت الداخليّ في قلب عالم مملوء من الضجيج والصراعات.

 

  • من أجل صمت داخليّ، يجب تنظيم "اليوم العادي" من أجل تخصيص فسحة للقاء نعمة الله.

"إنّ السّاعة الأولى من النهار هي مخصّصة للرّبّ". على روح الإنسان أن تعيش هذه السّاعة الأولى من خلال المشاركة بسرّ الإفخارستيا. لماذا سرّ الإفخارستيا؟! لأنّه من خلاله، تمتلك روح الإنسان قوّة روحيّة، وعندما يتناول الإنسان - ولكي يكون إنساناً إيجابيّاً - عليه القول "ماذا تنتظر مني اليوم، سيّدي؟" أي من خلال السّاعة الأولى يدخل الإنسان في البحث عن تحقيق إرادة الله في حياته اليوميّة.

 

خلال عمله اليوميّ، يتعرّض الإنسان للكثير من الضغوطات والتعب، فتتملّكه مشاعر متناقضة، تارةً فرح وطورًا حزن، تارة غضب وطورًا سلام. وفيما هو يخدم الآخر ويسمعه، يشعر بنفسه مقبولاً من الآخر تارة ومرفوضـًا طورًا. كما ويدخل في صراعات مع الآخر، ويعيش الخطيئة في بعض الأحيان. لذلك عليه نحو الظهر، البحث عن لحظة أمام بيت القربان أو في غرفته أو في مكان حيث يستطيع الحصول على صمت خارجيّ لكي تستطيع روحه التوجّه نحو الله.

 

في هذه اللحظة يمكنه القيام بالتأمل، قراءة روحيّة، المشاركة في حدث ليتورجيّ، قراءة الكتاب المقدّس  من أجل تجديد القوّة الروحيّة فيه.

 

في المساء، وقبل الخلود إلى النوم، على الإنسان أن يقوم بممارسة "فحص الضمير" ليومه: متى كان إنسانًا على صورة الله، ومتى شوّه هذه الصورة، وأن يخطّط لخطوته الجديدة، يوم غد، نحو القداسة.

 

  • الحقيقة البسيطة الصّغيرة للصّمت الداخليّ.

 

 

 

الحقيقة الوحيدة في حياة الإنسان المسيحيّ هي صرخة "لتكن مشيئتك" (صلاة الأبانا). أي البحث على عيش إرادة الله في كلّ حدث أو عمل في قلب الحياة اليوميّة. الإنسان المسيحيّ هو الإنسان الذي يضع بثقة بين يديّ الله كلّ آمال المستقبل، ويدع الله يقوده مثل طفل، فهكذا يضمن الإنسان أن لا يحيد عن طريق الربّ.

 

هناك فرق كبير بين الاكتفاء بأن يكون الإنسان مسيحيًّا جيّدًا يقوم بكلّ واجباته، يقرأ جريدة صالحة، ينتخب ويتكلّم بتهذيب، يعيش الوصايا…، وأن تكون حياته بين يديّ الله بثقة الأطفال، وتواضع العشّار.

 

من يبحث عن عيش الصّمت الداخليّ، يبحث عن تحقيق إرادة الله في حياته، هذه الإرادة التي هي دائمًا الخير الأعظم لأولاده.

 

  • معنى الصّمت الداخليّ "المحبوب"، "هنا"، "تعال".

الله هو الحقيقة، من يبحث عن الحقيقة، يبحث عن الله. بالرّغم من إدراك الإنسان لهذا أو عدم إدراكه، تعلن معلّمة الفلسفة القدّيسة إديت شتاين. الطريقة الفضلى للبحث عن الحقيقة هي من خلال الصّلاة.

 

فبالصّلاة، تجد روح الإنسان سلامها، تفهم دعوتها، تأخذ النعمة وتتأمّل بها. تخلق تحوّلًا أساسيًّا، ولادة جديدة بالرّوح القدس. بالصّلاة، يتّحد الإيمان والحريّة، ويدخل الإنسان بكليّته في اختبار عيش الألوهيّة.

 

هذا لا يعني الهروب من العالم، بل من خلال التأمّل والصّمت يترك الإنسان المجال لكلمة الله في قلب حياته وعمله اليوميّ، لكي تحوله إلى إيقونة شاهدة لروعة وعظمة الله في الحياة اليومية.

 

  • للحصول على الصّمت الداخليّ يجب الإقامة في المسيح.

الإنسان لا يمكن أن يقيم في المسيح من دون أن يتبع المسيح ويعيش المسيح. وكما كان المسيح يبحث في حياته اليوميّة وخاصّة في الليل عن لحظات صمت ووحدة، ليدخل في حوار مع الآب. فهكذا على الصّلاة، الحوار مع أبّا، أن تكون الخبز اليوميّ للإنسان المسيحيّ.

 

لماذا الصّلاة؟ لأنّ الصّلاة هي سلّم يعقوب حيث روح الإنسان تصعد نحو الله، وحيث نعمة الله تنزل على الإنسان. ويعيش الإنسان هذه الحقيقة من خلال الصّلاة الفرديّة والجماعيّة. لا ننسى إنّ السّلاح الوحيد الذي كانت تملكه القدّيسة أثناء أسرها من قبل الألمان، هو الصّلاة ولا شيء آخر. وكانت تترجم صلاتها من خلال خدمة السّجناء الآخرين والاهتمام بهم (عيش المحبّة).

 

تقول القدّيسة لكي تكون هذه الصّلاة حقيقية وصادقة، على الإنسان أن يعيش الحبّ في حياته اليوميّة، لأنّ الإقامة في المسيح تساوي الإقامة في المحبّة. "الله محبّة، من أقام في المحبّة أقام في الله، وأقام الله فيه" (1يوحنا 4: 16).

 

  • العيش مع "حبّ المسيح" هو جوهر الصّمت الداخليّ.

"أحبب قريبك كنفسك" (مر 12: 31)، القريب هو كلّ من يأتي طالبًا مساعدة، كلّ محتاج، كلّ إنسان، فحسب القدّيسة لا يوجد "غرباء" في حياة الإنسان المسيحيّ.

 

من يؤمن بالمسيح وبكلمته (الإنجيل) ويعيش وصاياه، ويعمل على الدّخول في تاريخ الخلاص، يجب أن يكون في "اتّحاد حبّ" مع كلّ مَن هم على "صورة الله ومثاله" (كلّ الناس)، ومع جميع الخلائق صنع يديه (الكون بأسره).

 

من يحبّ حقاً وبصدق، يرى "المحبوب" (يسوع). وفي الوقت عينه يكون يديّ الرّب وحبّ الله في قلب هذا العالم "المتألّم". من خلال الحبّ يستطيع الإنسان أن يوقف الحروب، ويسدّ الجوع إلخ... والتي هي أسباب رئيسيّة لفقدان الصّمت الداخليّ.

 

إنّ القدّيسة إديت شتاين، كإنسانة يهوديّة الأصل، تعرف جيّداً أنّ أكبر وأعظم وصيّة في العهد القديم هي "أحبب الله من كلّ قلبك وقوّتك ونفسك" (تث 5: 4-5)، "وأحبب قريبك كنفسك" (لا 19: 18)، وكإنسانة مسيحيّة ومكرّسة تعرف أيضًا أنّ آخر وصيّة ليسوع المسيح "أحبّوا بعضكم البعض، كما أحببتكم" (يو 13: 34). إذاً، محوريّة الإنسان المسيحيّ حبّ الله وكما أحبّ الله.

 

  • الصّمت الداخليّ ومعنى كيان الإنسان.

ما هو معنى كيان الإنسان؟ تجيب القدّيسة قائلةً: "كيان الإنسان هو المكان حيث تتزاوج السّماء الأرض ويتّحدان معًا الله والمخلوق". فيصبح هذا الكيان مخلّص لكلّ الخليقة الأخرى. ولكن في البداية يجب أن يكون "كيان حرّ".

كيف يكون "كيان حرّ"؟ من خلال "مسيرة الإيمان"، حيث يقود الله الإنسان في دعوته الخاصّة والعامّة. فكلّ "كيان" له معنى خاصّ لحياته، ودعوة خاصّة من أجل ترجمة "صورة الله ومثاله" في الحياة اليوميّة.

معنى "كيان الإنسان" يتحقـّق عندما يبدأ الإنسان في البحث عن إرادة الله له وعيشها. (هذا ما يسمّى بالدّعوة).

 

  • الصّمت الداخليّ: العيش في الكنيسة ومع الكنيسة ولأجل الكنيسة.

"نحن في هذا العالم لإنقاذ الإنسانيّة"، وهذه الحقيقة هي دعوة الكنيسة. في الكنيسة "الواحد للكلّ والكلّ للواحد"، لأنّ كلّ إنسان هو مسؤول عن خلاصه وخلاص الآخرين.

 

في داخل وحدة الكنيسة، يعيش الإنسان دعمًا قويًّا من خلال الأشخاص الذين يحيطونه بالصّلاة والإرشاد الروحيّ والإنسانيّ والمساعدة الإجتماعيّة والماديّة والمعنويّة، إلخ...

 

الكنيسة تصلّي لأجل أبنائها يوميّاً، ومن خلال صلاتها يحقـِّق يسوع النِّعم والأعاجيب في حياتهم.

 

  • المسيرة على درب الصّليب توصل للصّمت الداخليّ.

كلّ إنسان سيتألم ويموت، لكن إن كان عضوًا في جسد المسيح السرّي، فإنّ آلامه ستكون خلاصيّة له وللآخرين وموته سيكون مدخلاً إلى "ألوهيّة المسيح".

 

من ينتمي للمسيح، عليه نكران ذاته، ولمرّة واحدة أن يقبل بحمل صليبه والمسيرة على "درب الصّليب"، من بستان الزيتون إلى الجلجلة، وهذا ما يعني "الاقتداء بالمصلوب". من خلال هذه المسيرة يعيد الإنسان المسيحيّ "إصلاح" صورة الله التي تشوّهت فيه.

 

وكلّ الآلام الخارجيّة والتحديات التي يعيشها الإنسان، هي للدخول في "الليل المُظلم"، حيث نور الله لا يلمع، وصوت الله صامت. في هذا التحدّي، تبرز حقيقة إيمان الإنسان المسيحيّ، وينقاد نحو إيمان ناضج. في هذا "الليل المظلم" يدرك الإنسان المسيحيّ من هو الأهم عنده هل هي "عطايا الله" أم "الله ذاته"، هل يحسب كلّ شيء نفاية من أجل المسيح؟ على حدّ قول القدّيس بولس في رسالته إلى أهل فيليبي (3: 8).

 

عندما يعيش الإنسان الألم والعذاب عليه التفكير في هذا السؤال دائمًا "هل حقاً أيوب يتّقي الله مجّانًا"، لكي يحدّد ما نوع علاقته مع الربّ.

 

نضوج الإيمان يحدث عندما يصل الإنسان إلى هذه المجانيّة في العلاقة مع الله. وإلى التحرّر من العطايا، حيث يبقى سلامه مرتكزًا على الله وليس على نعمه.

 

 

 

القدّيسة تريزا بنديكتا للصّليب (إديت شتاين)