من هو الله؟ وما معنى حياتنا وارتباطنا به؟ نقول أوّلاً إنّ الله ليس فكرة أو مضمون، وليس قوّة كونيّة مسيطرة على الناس والعالم، لا حوار ممكن معها أو تفاوض من أيّ شكل، وليس حاكمًا مطلقـًا يفرض شريعته وقانونه على البشر، وما عليهم سوى السَّمع والطاعة وإلّا أصابتهم الويلات العظام!
يقول لنا سِفر الأمثال (أمثال 8: 22 – 31) إنّ فرح الله يكمن في أن تكون كلمته مع بني البشر وأن تسكن بينهم. وإذا تمعنَّا في معاني هذا النصّ الرّائع من الكتاب المقدّس لأكتشفنا أنّ حياتنا الإنسانيّة هي في كيان الله منذ الأزل، وأنّ سرّ وجودنا كبشر ينبع من قلبه ومن رغبته مشاركة حياته معنا.
وهذا معنى ما يقوله لنا سفر التكوين عن أنّ الله خلقنا على صورته كمثاله (تك1: 26)، فنحن مولودون من حبّ لا يُدرك، لا بداية له ولا نهاية، لا حدود له ولا مقياس، ولا نعي في واقعنا البشريّ ووجودنا في الجسد إلّا ما يمكن لقلوبنا أن تفهمه وأن تتحمّله، ولا نفهم إلّا عبر ستار سِرِّ حضور الله وعمله في حياتنا.
ويعلّمنا سفر الأمثال أيضًا أنَّ كلّ الأشياء على وجه الأرض وفي الكون خُلقت في الكلمة، وفي الكلمة جُعلت كلّها من أجل الإنسان وحياته وفرحه. حياة الإنسان هي من كلمة الله وفيها يجد ذاته وفرحه، وما سائر الأشياء إلّا في خدمة هذه العلاقة المؤسّسة والمحيية مع كلمة الله العذبة والحلوة. نحن في الله والله فينا، هو معنا ونحن معه، بدون اختلاط ولا امتزاج، هذا هو السرّ العظيم.
الله محبّة، مصدر كلّ حياة، كلّ أبوّة وأمومة في السَّماء والأرض (أف3: 14)، وبالتالي هو آب، قلب متدفّق وفيّاض بالحياة، ومنه وفيه تسكن الكلمة التي بها خلق كلّ شيء، في السَّماء والأرض، وبغيرها لم يكن شيء ممّا كان (يو1: 3). وهي الإبن الذي صار بشرًا معنا ومن أجلنا، نور يُشرق في ظلمة حياتنا والظلمة لا تدركه (يو1: 5). والحياة هي روح ينبثق من قلب الآب والابن، يوحّد الآب والابن، ويفيض علينا نحن البشر ويملأ قلوبنا بحضوره وكلّه فرح وسلام، ويرفّ فوق كلّ موضع مظلم، خاوٍ خالٍ في حياتنا (تك1: 2)، ليملأها حياةً وبركة ونعمة، ويبعد عنّا مياه الخوف والحزن والخطيئة، ويضع حدودًا فاصلة بيننا وبينها (تك1: 9-10).
وإذا كان الله محبّة، فالعلاقة معه تقوم على الإيمان، وفي واقع حياتنا، نشعر بحضوره الذي يمنحنا فرحًا وسلامًا من خلال أبوّته الحانيّة علينا ومغفرته المتجدّدة. والإيمان يسير ضدّ تيار أصوات العالم التي تحتقر الحبّ لأنّه بساطة وعطاء ومشاركة، وفي وداعته يناقض صور السَّعادة والنجاح التي تروّج للغنى والعظمة، وتعلو قيم الإستهلاكيّة والبحث المستمرّ عن اللذّة.
وفي كلّ يوم، علينا أن نطلب النعمة لنزداد ارتباطًا بربّ حياتنا، ليمنحنا البصيرة والحرّيّة تجاه سائر المغريّات الخادعة التي تنهال من كلّ جانب. والإيمان بالله آب، محبّة، رحمة، ومغفرة، يواجه بالضرورة تلك الحناجر التي تعلن عن ألهة بعيدة، هوائيّة المزاج ومتسلّطة. وكلّ يوم علينا أن نطلب النعمة لنزداد وداعة لأنّ بالوداعة فقط يمكننا أن نصبح شهودًا لإلهنا وسط عالم يبحث عن معنى لحياته وإنسانيّته.
والسير ضدّ التيّار مُتعب، وكأنّه امتحان يوميّ لإيماننا، لا يمكننا أن ننجح فيه بقوّتنا، بل بنِعمة الله، والصعوبات هي ما تنقـِّي الإيمان وتتطهّره، وهي ما تعمّق إتحادنا بإلهنا، الله المحبّة، مصدر كلّ نعمة في حياتنا. لا حبّ بدون معاناة، ولا ثمر بدون تضحيات، ولا حياة بدون مثابرة في الإيمان. لا فرح إلا في القلب السَّاكن في الربّ، وما من أحد يستطيع أن ينزعه منه.
بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ