قام يسوع من بين الأموات، ولمدّة أربعين يومًا تراءى لتلاميذه، ثمّ صعد إلى السّموات. ومع صعود يسوع يبدأ زمن الكنيسة بنعمة الرّوح القدس الذي نزل على التلاميذ في يوم العنصرة. اختفى يسوع عن الأبصار وتبدأ رسالة التلاميذ الذين يشهدون له، ويُعلنون إنجيل الحياة والفرح للبشر، ابتداءً من أورشليم حتى أقاصي الأرض وجميع الشّعوب (لو 24: 47)، وطوال الأيّام إلى انقضاء الدّهر (متّى 28: 20).
فماذا يعني لنا اليوم عيد العنصرة؟ يعني أنّ الله يسكن بروحه في قلوب البشر، هو لم يرَهُ أحدٌ قط، ولكنّ الابن الأوحد في حضن الآب هو الذي أخبر عنه (يو1: 18)، وأسلم يسوع الرّوح القدس على الصّليب (متّى 27: 50 ؛ مر 15: 37؛ لو 23: 46؛ يو 19: 30)، وأُفيض على التلاميذ المجتمعين للصّلاة مع مريم في يوم العنصرة (أع 2: 1-4). تلاميذ يسوع هم اليوم شهوده، مَن يعلنون عن الآب والابن بنعمة الرّوح القدس الذي يأخذ ممَّا هو ليسوع الابن، وكلّ ما هو للابن هو للآب، ويهبه للبشر (يو 16: 14-15). مات وقام يسوع، وهو اليوم حيّ في حياة تلاميذه وكنيسته.
لعالمنا المشتّت في بحثه عن معنى للحياة لن يجد سوى تلاميذ يسوع، لمجتمعنا الذي يئنُّ من قلّة العدالة وانهيار كرامة الإنسان لن يُعطى إلّا رسل الربّ، لأوطاننا الممزقة بسبب العنف والكذب والنفاق لن يُرسل إليها سوى رفقاء المسيح. وكما بذل يسوع نفسه في سبيل أحبّائه، وصار خادمًا لتلاميذه يغسل أرجلهم ويدعوهم إلى أن يغسل بعضهم أقدام بعض (يو 13: 14)، كذلك لن يعرف العالم الله إلّا من خلال تواضع تلاميذه وبساطة حياتهم وسخائهم في البذل والعطاء لكلّ الناس بدون تمييز.
وكما وعى يسوع رسالته وفهم أنّ الرُّوح القدس مسحه ليبشّر المساكين والأسرى والعميان والمظلومين، بل والشّعب كلّه (لو 4: 18-19)، كذلك على تلاميذ يسوع اليوم أن يلتقوه في هوامش مدنهم وفي الوجوه البائسة والحزينة والخائفة.
الله يسكن في قلب الإنسان ونلتقيه في حياة البشر حولنا. هذا هو السرّ العظيم الذي كان مكتومًا منذ الأزل وأعلنه يسوع (روم 16: 25)، وهذا ما يكشفه لنا الرّوح القدس ويعلّمنا إيّاه. وكما يقول لنا القدّيس بولس، فلنقتفي آثار الرّوح (غل 5: 25).
ويعني هذا لنا أنّ إتّباع يسوع هو موضع تمييز روحيّ يوميّ، لنتبيّن حِيل المجرّب الكذاب الذي يجرّ إلى الأنانيّة والغنى والكبرياء، ويأسر في أشكال المتعة المختلفة. ومن ثمَ يقود البشر إلى الحزن والقلق والاضطراب، يزرع فيهم اليأس من الحياة واللا معنى والعبثيَّة، فيصبحون كالعميان ينظرون ولا يبصرون، يسمعون ولا يفهمون "لئلا يتوبوا فتُغفر لهم خطاياهم" (مر 4: 12).
والرّوح القدس يقودنا في طريق يعاكس قيم العالم ونهجه، لأنّ "ثمر الرّوح هو المحبّة والفرح والسّلام والصبر واللطف والصَّلاح والأمانة والوداعة والعفاف" (غل 5: 22-23). وبقولٍ آخر، فإنّ إتّباع يسوع هو قرار شخصيّ واعٍ وحرّ، لا ينتج عن انفعال لحظيّ، بل هو ثمرة صلاة ينصت فيها الإنسان إلى كلمة الله، ويفهم تأثيرها فيه، والمشاعر الروحيّة التي توقظها في قلبه، وهكذا يومًا بعد يوم يكتشف طريقته الفريدة في خدمة المسيح في إخوته البشر.
إتّباع يسوع هو اختبار لقوَّة الرّوح القدس السّاكن في القلب والعامل في البشر، ومن ثمَ فهو اختيار وقرار يقول "لا" لأساليب العالم وطرقه، وكأنّه صلب للأهواء والشّهوات (غل 5: 24)، و"نعم" للحياة الحقيقيّة التي ظهرت لنا في يسوع المسيح، وكأنّها قيامة "ليسكن المسيح في قلوبكم بالإيمان، حتى إذا تأصلتم ورسختم في المحبّة، أمكنكم في كلّ شيء أن تدركوا مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعلوّ والعمق" (أف 3: 17-18).
والحياة في الرّوح تخلقنا جماعة يسوع، كنيسته وسط العالم. لا نحيا بمفردنا، ولا نؤمن ونحبّ ونرجو بقوَّتنا الذاتيّة. حياتنا هي هبة من الله الآب في ابنه يسوع المسيح بنعمة الرُّوح القدس، وهي "ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله" (روم 12: 1).
وكما أنّ الله هو وحدة وتواصل ومشاركة، فشهادتنا في العالم هي شهادة وحدة وتعاون وتضامن، وهي نعمة أيضًا من يسوع يطلبها لنا من أبيه: "إجعلهم كلّهم واحدًا ليكونوا واحدًا فينا، أيّها الآب مثلما أنت فيَّ وأنا فيك، فيؤمن العالم أنّك أرسلتني" (يو 17: 21).
عيد العنصرة هو عيد تلاميذ يسوع، عيد ولادة الكنيسة، هو ابتهاج وشكر لله الذي أودع ذاته ومصيره بين يديّ البشر، واثقًا بهم، راجيًا فيهم، معتمدًا عليهم ليعلنوا أنّه محبّة، رحمة ومغفرة، حنان ورقّة، أبوّة وأمومة، حياة فيّاضة لكلّ إنسان. لنفرح بإلهنا ونمجّد اسمه من خلال حياتنا والتزاماتنا وأعمالنا.
الأب نادر ميشيل اليسوعيّ