يرتبط التجلّي ارتباطاً حميماً بالجلجلة. وغيمة طابور وليل الجلجلة ينتميان إلى الحقيقة نفسها. فإذا لم نرَ مجد الله يشّع من وجه إبن الإنسان لن نتمكّن من النظر إلى الوجه المشوّه المجلود المكلّل بالشّوك الذي أظهره بيلاطس للناس وهو يقول: "هوذا الرّجل" (يو 19: 5).
فأمام يسوع ورسالته يقف الإنسان أمام اختيار: قبول المرور بطريق المجد والحرّيّة من خلال الإهتداء، أو تقسّية القلب ورفض الإنسان للتعرّي والموت.
إنّ تمجيد إبن الإنسان هو مجد الموت والقيامة، مثل حبّة القمح التي يجب أن تقع على الأرض وتموت لتُعطي ثمرًا. ففي قلب العالم الذي يشوّه هناك قوّة الحبّ التي تستطيع أن تحوّلنا. لو لم نكن على جبل طابور، حيث يمكننا أن نفهم ما قاله يسوع لفيليبُّس: "مَن رآني رأى الآب" (يو 14: 9)، هل يمكننا أن نرافق المعلِّم إلى بستان الجتسمانيّة وإلى جبل الجلجلة؟ النعمة التي نطلبها من الرّبّ هي أن نتمكّن من رؤية وجهه الحقيقيّ بكلّ جماله ونقائه.
دعاهم يسوع إلى أن يصعدوا الجبل معه، لا من أجل نزهةٍ اعتياديّة، بل للصّلاة (لو9/ 28). يكتب بطرس الرّسول "لأَنَّنا عايَنَّا جَلالَه. فقَد نالَ مِنَ اللهِ الآبِ إِكرامًا ومَجْدًا، إِذ جاءَه مِنَ المَجْدِ - جَلَّ جَلالُه - صَوتٌ يَقول: هذا هو ابنِيَ الحَبيبُ الذي عَنه رَضيت. وذاكَ الصَّوتُ قد سَمِعناه آتِيًا مِنَ السَّماء، إِذ كُنَّا معَه على الجَبَلِ المُقدَّس" (2 بط 1: 16-18).
ما من أحدٍ يستطيع أن يشهد على بهاء الله غير الذي عاش خبرة القدّيس بطرس، فقد رأى المجد وسمع الصّوت. إنّ العالم لا يحتاج إلى معلّمين يدرِّسون بل إلى شهودٍ عاشوا خبرةً روحيّة، شهود عيان وسامعين.
النعمة التي نطلبها أيضاً أن نتحوّل بهذه الخبرة، حينها نستطيع أن ننزل من الجبل المقدّس، لا لننقل خبرتنا الصوفيّة وحسب، بل لنجعل العالم يتجلّى ويتحوّل، ولنجلب نور مجد الله إلى إخوتنا وأخواتنا الذين لا يزالون جالسين في الظلمة. ماذا نفعل كي نكون أكثر من شهودٍ سلبيِّين لمجد الله؟ ماذا نفعل لنتجلّى نحن أيضًا، ثمّ نذهب لنجعل محيطنا والعالم كلّه يتجلّى؟
"تَبَدَّلَ مَنظَرُ وَجهه، وصارَت ثِيابه بِيضًا تَتَلألأُ كَالبَرْق" (لو 9/ 29). إنّ القوّة الوحيدة التي تستطيع أن تحوّلنا وتجعلنا نتجلّى هي قوّة الصّلاة، أي القوّة التي نستسلم بها كلّيّةً لله، لأنّه هو وحده يغيّرنا.
فنحن نتغيّر بقوّة الإستسلام واليدين المفتوحتين، لا بقوّة العضلات أو الإرادة الصرفة. حين بدأ يسوع يصلّي، سلّم نفسه بكلّيّته بين يديّ الآب، فصار شفـّافـًا لكلّ الحياة ولكلّ نور الله. حين أصلّي أعبّر لله عن أنّني له، وأنّ حياتي ليست بين يديّ بل بين يديه. لا يمكنني أن أقضي ساعة تأمّلٍ وأرغب بحرارةٍ أن أرى وجه الله الذي أحبّه من دون أن أتغيّر وأتحوّل وأصير شبيهًا بمَن أحبّه.
شاهِدا التجلّي موسى وإيليّا: (لو9/ 30) ولكليهما وجهًا منيرًا بحكم التردّد إلى الله. حين نزل موسى من الجبل بعد أربعين يومًا من الحميميّة مع الله، صارت بشرة وجهه مشعّة من مخاطبة الربّ له. وحين رأى أنّ الشعب يخاف أن يقترب منه وضع حجابًا كان يرفعه حين يكلّم الرّبّ. فبحكم أُلفته مع الرّبّ صار موسى، الذي خبّأ وجهه أمام العلّيقة المشتعلة، علّيقةً مشتعلة يخبّئ الشّعب أمامها وجهه.
أمّا إيليّا، فيقدّم نفسه على أنّه "المتضرّع" ويقول: "حيٌّ الرّبّ الذي أنا واقف أمامه" (1 مل 17: 1). فمن كثرة الوقوف أمام الرّبّ ليتشفّع للشّعب صار وجهه منيرًا.
كيف يتجلّى الشّخص بالألم؟ فالألم للوهلة الأولى يشوّه ويُحزِن. إنّه قاسٍ ومرّ. ونعتقد أنّ الألم يطفئ النور. بعد النزول من جبل طابور يقول لهم يسوع: "إِنَّ ابنَ الإِنسانِ سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس" (لو 9: 44).
كما إنّ موضوع حديث موسى وإيليّا معه هو «رَحيلِه الذي سَيتِمُّ في أورشليم»، وهما يؤكّدان هذه الحقيقة. فلكليهما وجه منير لا ثمرة للصّلاة وحدها وحسب، بل لأنّ كليهما تألّم آلامًا شديدة. كان موسى يتلقـّى الضربات من شعبه والعتاب من الله، يصعد إلى الجبل ليتشفـَّع لهم أمام الله وينزل من الجبل ليدافع عن حقوق الله. أمّا إيليّا، فإنّ رسالته لم تكن سهلة. لم يكن يصعد الجبل وينزل منه مثل موسى، بل كلّما فتح فمه ليُعلن كلمة الرّبّ يُرسَلُه الملك إلى المنفى.
"لو نصبنا ثلاث خيَم": (لو 9/ 32-36) بدل أن ننصب ثلاث خيامٍ ونستقرّ في سعادةٍ إنعزاليّة، على التأمّل أن يدفعنا إلى النزول من الجبل لنشارك مع الآخرين النِعمة التي نلناها ونتابع عمل التجلّي.
لقد زالت الغمامة وانطفأ النّور المبهر وصمت الصّوت وبقي يسوع وحده. هل نشعر بأنّ رسالةً صعبة ألقيت على عاتقنا: أن نكون عناصر تجلّي في عالمنا اليوم؟ قد نشعر بالعجز تجاه رسالةٍ كهذه بدون برقٍ أو رعدٍ، وبدون غمامةٍ أو صوت الآب.
يكفينا يسوع كي ننزل من الجبل ونتابع التجلّي حولنا، إنّها رسالة يجب القيام بها. الرّسل أيضًا لم يكن معهم سوى يسوع. ولكي ننزل "ونشعّ مجد الله" ليس لدينا سوى يده التي تمسّنا. فلنتركه يمسّنا في العمق يوميًّا. فهو يأتي يوميًّا ليمسّنا بالإفخارستيّا، وبتناولنا جسد المسيح ننال كلّ القوّة اللازمة لنتجلّى ونذهب فنغيّر العالم.
خلاصة:
لا شكّ في أنّ طريق الحبّ لا يختلف عن طريق الصّلاة وطريقة التألّم بإيجابيّة، فكلاهما تعبير عن الحبّ. الصّلاة هي أن أقل لله: "أحبّك"، والألم يعني: الحبّ حتّى التخلّي عن الذات. ما إن نحبّ شخصًا بالعمق نتجلّى ونشعّ، ويتحوّل الآخر بقوّة حبّي له.
جميعنا عناصر تجلّي، فبمحبّـتنا وانتباهنا إلى الآخر يمكننا أن نساعده على الخروج من عزلته ورفع قناعه وفتح قلبه. لكنّنا نستطيع أيضًا أن نكون سبب تشويه. فعدم انتباهنا وإهمالنا، بل قساوتنا وعدم ثقتنا واحتقارنا تشوّه، وأحيانًا إلى الأبد، وجهًا منفتحًا وقلبًا حنونًا وحساسيّة ً مرهفة.
أن أعرف أنّ الله يحبّني هي حقيقة تحوّل حياتي. ولكي أكون هذا الإبن الغالي، يجب أن أنظر إلى الابن وأسمعه وأحبّه، وذلك سيحوّل حياتي ويجعلني قادرًا على أن أكون عنصرًا متواضعًا وفعّالاً لتجلّي يسوع، لا على قمّة الجبل وحسب، بل في واقع السّهل وفي الاتّصال اليوميّ مع قريبي، رجلاً كان أو امرأة، مؤمنًا أو غير مؤمن. وسيعمل الرّوح في كلّ واحدٍ منّا ليعكس مجد الله.
الأب صبحي حموي اليسوعيّ.