حاول الإنسان دائمًا أن يعتني بأمواته، فكان يحاول أن يؤمّن لهم نوعًا من الحياة الثانية عبر الانتباه والرِّعاية والعطف. وكان الهدف هو، بشكلٍ ما، إبقاء خبرة حياتهم حيّةً، فنحن نكتشف، ويا للمُفارقة، ما أحبّوه وما خافوه وما كانوا يرجونه وما كانوا يكرهونه من المقابر التي تتجمّع حولها الذكريات. فهي تكاد تكون مرآة لعالمهم.
لمَ كذلك؟ لأنّه، وعلى الرُّغم من أنّ الموت غالبًا ما يمثّل موضوعًا محظورًا تقريبًا في مجتمعنا، ورغم أنّ هناك جهدًا متواصلاً لإزالة التفكير في الموت من عقولنا، إلّا أنّه يطال كلَّ فردٍ منّا، ويطال إنسان كلِّ زمان وكلّ مكان.
أمام هذا السرّ يبحث كلٌّ منّا، بشكلٍ لاشعوريّ، عن أمرٍ يدعونا إلى الأمل، عن علامة تعزّينا وتفتح أمامنا أفقـًا جديدًا وتقدّم لنا مستقبلاً جديدًا. فطريق الموت، في الواقع، ما هو إلّا وسيلةٌ للأمل والسَّير في مقابرنا، فضلاً عن قراءة النقوش على القبور، هو قيامٌ بمسيرة تتميّز برجاء الأبديّة.
لكنّنا نتساءل: لماذا نشعر بالخوف حيال الموت؟ لماذا لم تستسلم البشريّة أبدًا، في معظمها، للاعتقاد بأنّ وراء الموت ليس هناك إلّا العدمُ؟ أودّ أن أقول إنّ الأجوبة عديدة: فنحن نخشى الموت لأنّنا نخشى من العدم، من هذا الانطلاق نحو شيءٍ لا نعرفه، نحو شيءٍ نجهله. لذلك يعترينا شعورٌ من الرَّفض لأنّه لا يمكننا أن نقبل بأن يضمحلَّ فجأةً كلُّ جميل وعظيم حقّقناه خلال حياتنا، ويقعَ في هاوية العدم. قبل كلّ شيء، نرى أنّ الحبّ يدعو ويطلب الأبديّة ولا يمكن أن نقبل أن يدمّره الموتُ في لحظة.
نخشى كذلك مواجهة الموت لأنّه، عندما نقترب من نهاية وجودنا، ينتابنا تصوّرٌ بأنّ هناك محاسبة على أعمالنا، وعلى كيفيّة ممارستنا لحياتنا، ولا سيّما حول هذه الظلال التي نعرف بمهارة في كثير من الأحيان كيف نزيلها أو نحاول أن نزيلها من وعينا.
أعتقد أنّ مسألة المحاسبة تفسّر في كثير من الأحيان اعتناء امرئ كلّ العصور بأمواته، واهتمامه بالأشخاص الذين كانوا ذوي مغزى بالنسبة له والذين لم يعودوا بجانبه في طريق الحياة الدنيويّة. بمعنى ما، إنّ لفتات المودّة والمحبّة التي نحيط بها المُتوفّى، ما هي إلّا وسيلة لحمايته نعتقد أنّها لن تبقى من دون تأثير على المحاسبة. وهذا ما ندركه في معظم الثقافات التي تميّز تاريخ الإنسان.
أمّا اليوم فقد أصبح العالم، على ما يبدو ظاهريًّا، أكثر عقلانيّة، أو بالأحرى هناك ميلٌ إلى التفكير على نطاق واسع أنّه يجب معالجة كلّ حالة من الحالات بمعايير العلوم التجريبيّة، وأنّ الإجابة على مسألة الموت الكبيرة لا يجب أن يكون بالإيمان، بل انطلاقـًا من المعارف التجريبيّة الاختباريّة. فلا نُدرك بشكلٍ كاف، مع ذلك، أنّنا وقعنا عندها في أشكال من الأرواحيّة، في محاولتنا الاتّصال بعالم ما بعد الموت، متخيّلين تقريبًا بأنّ هناك واقعًا ما هو إلّا نسخة، في نهاية المطاف، من الواقع الحاليّ.
أصدقائي الأعزاء، إنّ الاحتفاء بتذكار جميع الموتى المؤمنين يخبرنا بأنّ من يعترف بأمل كبير في الموت، هو فقط يستطيع أن يعيش حياةً من الأمل. وإذا اختزلنا الإنسان ببعده الأفقيّ، بما يمكننا أن نفقهه عن طريق الاختبار، فإنّ الحياة نفسها تفقد معناها الأعمق. فالإنسان يحتاج الى الأبديّة، وكلُّ أملٍ آخر بالنسبة إليه قصيرٌ جدًّا، محدود جدًّا.
الإنسان قابل للتفسير فقط إذا كان هناك حبٌّ يتخطّى كلَّ عزلة، حتّى عزلة الموت، في شموليّة تتجاوز المكان والزمان. الإنسان قابل للتفسير، ويجد معناه الأعمق، فقط إذا كان هناك الله، ونحن نعرف أنّ الله قد خرج من ابتعاده واقترب منّا، ودخل حياتنا ويقول لنا: «أنا القيامة والحياة: من آمن بي وإن مات فسيحيا، وكلّ من يحيا ويؤمن بي لا يموت للأبد» (يوحنّا 11، 25-26).
فلنفكّر لحظةً بمشهد الجلجلة، ولنصغي مرّةً أخرى إلى الكلمات التي وجّهها يسوع من على الصّليب إلى اللصّ المصلوب عن يمينه: «الحقّ أقول لك: اليوم سوف تكون معي في الفردوس» (لوقا 23، 43). فلنفكّر بالتلميذين على الطريق إلى عمّاواس، عندما، وبعد أن قطعوا مسافةً من الطريق مع يسوع القائم من الموت، عرفوه وغادروا على الفور إلى القدس للإعلان عن قيامة الربّ (لوقا 24، 13-35).
ويعود بوضوح إلى أذهاننا قول المعلّم: «لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي أيضًا. في بيت أبي منازل كثيرة ولو لم تكن، أتُراني قلت لكم أنا ذاهب لأعدّ لكم مقامًا؟» (يوحنّا 14، 1-2). لقد أظهر الله ذاته حقًّا، وأصبح في متناولنا، وهو أحبّ العالم لدرجة أنّه «بذل ابنه الوحيد، كيلا يهلك من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة» (يوحنّا 3، 16).
وفي أقصى محبّة الصّليب، وهو يندفع إلى هاوية الموت، غلب الموت وقام وفتح لنا أيضًا أبواب الأبديّة. إنّ المسيح يدعمنا في ظلمة الموت الذي مرّ به هو بنفسه، وهو الرّاعي الصالح الذي يمكننا الاتّكال على توجيهه دون أيّ خوف، لأنّه يعرف الطريق جيّدًا، حتّى في الظلام.
كلَّ يوم أحد، عند تلاوتنا قانون الإيمان، نؤكّد على هذه الحقيقة من جديد. مرّةً أخرى، إنّنا مدعوّون، في ذهابنا إلى المقابر للصّلاة بمحبّة ومودّة على نيّة أقاربنا، إلى تجديد إيماننا بالحياة الأبديّة بشجاعة وقوّة، بل إلى العيش بهذا الأمل الكبير، حتّى نشهد عليه أمام العالم: وراء الحاضر لا يوجد العدم. إنّ الإيمان بالحياة الأبديّة هو ما يعطي للمسيحيّ الشجاعة في محبّة أرضنا هذه بشكلٍ أعمق والعمل على بناء مستقبل لها، حتى نمنحها الأمل الحقيقيّ الأكيد. وشكرًا.
البابا بنديكتس السادس عشر - 2011