منذ أن طرقَ القدِّيس شربل باب الدير للترهّب، وضعَ نُصبَ عينيه هدفـًا واحدًا هو بلوغ السَّعادة الأبديَّة. وظلِّ هذا الهدف يشغل باله في كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ حياته، حتّى غدا همّه الأوحد. فتجرَّدَ عن ذاتِهِ تجرُّدًا كاملاً، ونزَعَ من قلبِهِ كُلَّ تعلّقٍ بالأشخاصِ والأشياء، واتّجَهَ إلى خالِقِهِ بكُلِّ جوانِحِهِ وجوارِحِه.
وقد ظلّتْ رغبةُ بلوغِ السَّعادَةِ الأبديّة، وفكرةُ حُسنِ المُجازاةِ في الدنيا الآخرة، تُراوِدُ مُخيّلته، وتُسيطرُ على جَميع مشاعِرهِ وطموحاتِهِ منذ خطواتِهِ الأولى في اعتناقِ الحالةِ الرّهبانيَّة إلى نهايةِ حياته. فعندما جاءت والدته بريجيتا الشدياق إلى دير مار مارون – عنّايا، تطلبُ مواجهته بعد إبرازِهِ النذور الرّهبانيَّة المؤبَّدة، خاطبها، دون أن تراهُ أو يراها، من داخِلِ جُدرانِ الدَّير، إذ قال: "إنشالله، سوف نرى بعضنا في السّماء مدى الأبديَّة".
قد يكونُ في جوابِهِ هذا جفاءٌ وخشونة، إذ كيفَ يمنعُ من رؤيتِهِ مَن هيَ أقربُ الناس وأحبَّهُم إليه؟ وقد جاءت من مكانٍ بعيدٍ لزيارته، بعد أن تجشَّمتْ صعوبات السَّفرِ ومخاطِرِه. إنّهُ لم يفعل ذلكَ إلّا بغية أن يحثّ والدته على التوجّه بالعقلِ والقلبِ إلى الله، غايةُ الإنسانِ في هذه الحياة، ومطمَعُ سعادته في الدنيا الآخرة. وهنا تبدو فضيلة الرَّجاءِ التي مارسها القدِّيس شربل في أبهى مظاهِرها، وقد رسخت في ذهنِه كُلَّ الرّسوخ بحيث كان يحقُّ له أن يُردِّدَ مع بولس الرّسول قوله: "إنَّ حياتي هي المسيح، والموتُ رِبحٌ لي" (فل 1/ 21).
وفضيلةُ الرَّجاءِ هذه التي كانت تنعشها فضيلة الإيمان، رافقت جميع مراحل حياته، لأنَّ الرّجاء، كفضيلةٍ إلهيَّة، وكموهِبةٍ روحيَّة، يُعتبرُ بمثابةِ امتدادٍ للإيمانِ نفسه، ولكن في المستقبل. فكان القدِّيس شربل عائِشًا بالجسَدِ على الأرض، ولكنَّ عقلهُ وقلبَهُ وأفكارَهُ كانت كلّها في السَّماء. لقد حرَمَ نفسَهُ رؤيَة َ والدتهِ ومنعَها مِن مُشاهدتِهِ، موقِنًا بهذا الرَّجاء الوطيد أنّه سيجتمعُ بها يومًا في السَّماء. وهذا دليلٌ على أنّهُ لم يرفض مُشاهدتها هنا، إلّا ليراها هناك.
وحسنُ المُجَازاةِ في الحياةِ الأخرى، بمشاهدةِ الله وجهًا لوجه، وبالحصولِ على السَّعادَةِ الأبديَّة، كانت هاجِسَهُ اليوميّ، ومُرتكزُ رجائِهِ الوطيد. والرَّجاءُ باعتبارِهِ الموهبة المنبثقة من الإيمان، أو بصفتِهِ الإيمان نفسه عندما يتطلّعُ الإنسانُ إلى مواعيد اللهِ الآتية، لا يعتمدُ على القدراتِ البشريَّة ولا على ظروفِ الحياة، ولا على ما يعمله الإنسان لنفسِه، ولا على ما يُمكنُ أنْ يعملـَهُ الآخرون، إنّما يعتمِدُ كلّيًّا على النِعمَة، على ما يقولُ بطرس الرّسول: "فألقوا رجاءَكُم بالتمام على النِعمةِ التي سيؤتى بها إليكم عند تجلّي ربّنا يسوع المسيح" (1 بط 1/ 13).
فكان القدِّيس شربل يذكّرُ إخوتَهُ الرّهبان وبعض العلمانيِّين العاملين في دير مار مارون – عنّايا، بمكافأة الله لأوليائِهِ بهذه السّعادةِ التي لا يعقبها ألم، أو مرض، أو موت. وقد وردَ في شهادَةِ الأب أنطونيوس علوان ما حرفيّته: "وكان القدِّيس شربل يردّد علينا: إعملوا لمجدِ اللهِ تعالى فتُكافأوا بالسّعادة الأبديَّة". ولم يكن ليتصوّر أن جمالات هذه الدنيا، وسناء أنوارها، وبهاء مبدعاتها، يمكنها أن توازي جمال السّماء، وسطوع أنوارِها.
إنّ فضيلة الرّجاء التي مارسها القدّيس شربل إلى حدِّ البطولة، أثمَرت في نفسِهِ اتِّكالاً بنويًّا على الله، وثقة عمياء بمراحمه الإلهيّة. والرّجاء المسيحيّ هو مبعث فرح لأنّه يمنّي المؤمن بالحصول على ما يرجوه. وهذا الرّجاء يستندُ إلى وعودِ الله لشعبِه في العهد القديم، التي تحقـَّـقت في شخصِ المسيح، كما ألمحَ إلى ذلك القدِّيس بولس في كتابِ أعمالِ الرُّسُل، عندما ألقى عظة في مجمعٍ لليهودِ في أنطاكية بيسيديّا، جاء فيها: "ونحنُ نبشِّرُكم بالوعدِ الذي كان لآبائِنا، بأنّ الله قد أتمّه لبنينا، إذ أقامَ يسوع كما كتب في المزمور الثاني، أنتَ ابني وأنا اليومَ وَلدتُكَ" (رسل 13/ 32-33). والرّجاءُ المسيحيُّ يستندُ إلى تحقيق مواعد الله لأبنائِهِ المؤمنين، ولهذا فهو رجاء لا يخيِّب لأنّه لا ينبعُ من طمأنينة بشريَّة، بل من سرِّ محبَّةِ اللهِ المُطلقة للناس.
فالمصدرُ الذي يُغذّي موهبة الرّجاءِ التي فينا، ويجعلها قادرة على مواجهةِ المفارقة الشديدة، بين مواعد المستقبل المفرحة وحقيقة واقع الحاضر المؤلمة، ليسَ مجرَّدَ أفكار عن حقائق مستقبليّة، ولكن شخص المسيح بالذات، الذي سبق وتجلّى في شبهِ مجده على الأرض، وقد حدث ذلك على طورِ طابور أمامَ ثلاثة من تلاميذه، وهم: "بطرس ويعقوب ويوحنّا، عندما صارت ثيابُهُ تلمعُ بيضاءَ جدًّا كالثلج حتّى لا يستطيعُ أحدٌ على الأرضِ أن يُبيِّضَ مثلها" (مر 9/ 1-8).
وكذلكَ عندما ظهر لشاول على طريقِ دمشق، "فأبرَقَ حولهُ بغتة ً نورٌ من السّماء، فسقطَ على الأرضِ وسمعَ صوتًا يقول له: شاول شاول، لِمَ تَضطهدُني؟" (رسل 9/ 3-5). فالمسيح المُمجَّد والآتي في مجدِهِ في آخِرِ الأزمنة، هو مصدرُ قوّةِ رجائِنا، وهو هو نفسه معنا الآن بدون استعلان للعيان وإنّما في سرّ. وبالرّغم من أنّنا لا نزالُ نترقـَّـبُ تجلّيه، فإنّهُ لا يعوزنا شيءٌ من المواهب، كما ألمح إلى ذلكَ بولس الرّسول بقوله: "حتّى إنّه لا يعوزكم من المواهب شيءٌ أنتم المنتظرين تجلّي ربّنا يسوع المسيح" (1 قور 1/ 7).
والقدِّيس شربل عَرَفَ مصدَرَ هذا الرَّجاء لأنّه أسنَدَهُ إلى ما كان يعمر به قلبه من إيمانٍ شديدٍ بالله وبمواعيده. وهذا ما أولاهُ الصبرَ على الشدائد والصعوبات، وما حمله على وضع ثقتهِ بالله واتّكاله عليه اتّكالاً بنويًّا.
ويظهر اتّكالُ القدِّيس شربل على الله وحده، من احتقارِهِ خيراتِ هذه الدنيا التي لم يكُن يعيرها أدنى اهتمام، ومِن نبذه للمال ولأسباب التنعّم والرّاحة في هذه الحياة. فلم يكن يرجو شيئًا من البشر، ولم يكن يتعلّق بشيء من حطامِ الدنيا، أو يتّكل على إنسان، بل إنَّ أفكارَهُ وعواطفَهُ وأشواقـَهُ كانت متّجهة كلّها نحو الله وإلى التمتّع بالسعادة الأبديَّة. وقد شهد معاصروه أنَّهُ، عندما كان يكلّف بتقدمة قدّاس على نيّة أحد، ما كان ليقبل الحسنة، بل كان يقول للمُعطي: "إذهب وسلّمها لرئيس الدَّير".
ولمّا ألحَّ عليه، ذات يوم، زائر، بقبول الحسنة، مدَّ يدَهُ دون أن ينظرها أو يتفحّصها، وتناولها، وذهب توًّا، ويدُهُ لا تزال مبسوطة، إلى رفيقِهِ الحبيس الأب مكاريوس المشمشاني، وقال له: "خِدلَك هادا". وهذا يدلُّ على مُمارستِه لروح الفقرِ وعلى تجرُّدِهِ عن محبَّةِ المال، بنوع ٍ بطوليّ. لقد عاش مثل أفقر الفقراء في مأكلِهِ، وملبسِهِ، ومنامِهِ، لا لأنَّهُ كان مُجبرًا على العوز والحِرمان الكلّي، بل لأنَّهُ اختارَ ألّا يجعَلَ حدًّا لحُبِّهِ للمسيح، ولاتِّكالِهِ عليه، وقد كان محط ّ إيمانِهِ ورجائِهِ في هذه الدنيا وفي الآخرة.
إنَّ هذا الرَّجاء بالسّعادَةِ الأبديَّةِ الذي كان يَغْمُرُ بهِ قلبَه، دون أن يخافَ الموت، كان يجتهدُ أن يزرعَهُ في قلوبِ إخوتِهِ الرّهبان والمؤمنين. وقد جاء على لسانِ الحبيس الأب أفرام نكد من بقاعكفرا، بلدة القدِّيس شربل، أنّ عديدين من الرّهبان عندما كانوا يصابون بمرض عضال، وتُصبحُ حالتُهم خطرة، ويُشرفون على الموت، كانوا يستدعون القدِّيس شربل ليُصلّي عليهم، ويكون بقربهم، ويشجّعهم على مغادرةِ هذه الحياة باطمئنان، ساكبًا في قلوبِهم الأملَ وموطـِّدًا الرَّجاءَ بسعادةٍ أبديَّةٍ خالدة.
واتّكاله على الله عبَّرَ عنهُ بالكلامِ والشرح، بعد أن عاشَهُ ومارسَهُ في حياتِهِ الرّهبانيَّة والنسكيَّة. فقد ذكر الخوري جبرايل مارون جبرايل في إفادته المُدرجة أعلاه، أنّه كلّ مرَّةٍ كانت تُذكر أمامه حالة مريض مُدنف على الموت، أو متضايق مُصاب بعاهة، أو محتاج بائس، كان القدِّيس شربل يردِّد ويقول: "الله بيدبِّر، فلنتّكل عليه".
وإنّ ما كان يحمله على الإرتماء في أحضانِ العنايةِ الإلهيَّة، والاعتصام بحبال الله، هو زوال الدنيا وخداع أهلِ العالم. فلطالما تأمَّلَ في كلام سفر الجامعة: "باطل الأباطيل وكلّ شيء باطل، وأيّ فائدة للبشر من جميع تعبهم الذي يعانونه تحت الشّمس" (جا 1/ 2). فالدنيا في نظرِهِ خدّاعة، لأنّها تقصي الإنسان عن غايته العُظمى التي هي الله. فالخيور الدنيويَّة هي صالحة ومفيدة أصلاً، ولكنّها تُمسي شرِّيرة عندما تصبح غاية ً بحدِّ ذاتها، وتبطل أن تكون واسطة يرقى بها الإنسان إلى الله.
والله في نظرِهِ هو أب وعناية، وإنّه يمنح النِعم والعطايا الصالحة لكلِّ مَن يلتمسُها منه بثقةٍ بنويّة. وهذا ما عبّرَ عنه للأب يوسف أبي يونس الراهب اللبناني الذي عاش معه طوال السنوات الأربع الأخيرة من حياته. وكان الأب المذكور يخدم له القدّاس الإلهيّ. فأفاد عنه: كان القدِّيس شربل يقول لي: "يا أخي إنّ الدنيا خدّاعة، وإنّ الله يعرف كلّ شيء فينا. ومَن يلتمِسُ منه النِعمة بثقة لا يخيّبه. فاطلب منه أن يمنحكَ ما تحتاج إليه".
وأخيرًا، إنّ اتِّكاله على العناية الإلهيَّة بلغ حدّ البطولة، في تسليم ذاته بالكلّيَّة إليها. فوضع ذاتهُ في تصرّف الله ورؤسائِه، وأوكلَ إليه تعالى جميع أموره. وحسب كلّ شيء بالنسبةِ إلى المسيح خسارة، وردّدَ مع بولس الرّسول قوله: "إنّ ما كان لي ربحًا قد عددتُهُ خسرانًا من أجلِ المسيح، وإنّي أعدّ جميع الأشياء أقذارًا لأربح المسيح" (فل 3/ 7-8).
فرجاؤهُ باللهِ واتّكاله عليه حملاهُ على ألّا يفرحَ ولا يتكدَّرَ مِمَّا يجري حوله، لِعلمِهِ أنَّ الله هو الذي يدبِّرُ كُلَّ شيء لخيرِ الإنسان. ولقد بلغَ ذروة اللامُبالاة المُقدّسة في اتِّكالِهِ على الله. فغدا كلّ شيء عنده سواء: الصحّة والمرض، الإكرامَ والإهانة، الرّاحة والتّعب، النصر والهزيمة، الحياة والموت. فكان كالطفل بين ذِراعيّ والديه.
ولم يكن شيء في الدنيا ليؤثّر عليه، أو ليُخرِجَهُ عن دائِرة صمتهِ وسلامِهِ الباطِنيّ: فأحداث الرهبانيّة، والحروب الإقليميّة، والمنازعات الوطنيّة، والسياسات المحليّة، وانعقاد المجامع، وتبديل الرؤساء، وتدبير الإخوة، وتعيينات الرهبانيّة، فهذه الأحداث وغيرها لم تؤثّر يومًا على حياته الرّوحيّة، أو على أشغاله اليوميّة، ولم تقلقه أو تُحزنه، أو تُفرحه. فكان القدّيس شربل على حالٍ واحدة، هادِئًا، صامتًا، وديعًا، صبورًا، مسلِّمًا شؤونهُ وشؤون رهبانيّته ووطنه لله، ومُستسلمًا لإرادته القدّوسة، معتمدًا عليه تعالى مهما تقلّبت الظروف وتوالت الحِدْثان.
من كتاب"روحانيّة القدّيس شربل"
الأب بولس صفير