كان الأنبياء أصواتاً صارخة في برِّيَّة العالم وما زالت كلماتهم تتردّد صداها عبر الأجيال وتصلنا رسالتها صافية نقيّة مليئة بالصّرامة والصّراحة لأنّهم لا يحابون الوجوه بل يعلنون الرّسالة كما هي ولو كانت قاسية مؤلمة أحياناً ولكنّها صحيحة نافعة في كلّ الأحيان.
فهم ينبئون وينذرون، يبشِّرون ويهدّدون، يعدّون ويتوعدون، يزعجون راحتنا ويقلقون ضميرنا ويشهدون للحقّ حتى لو اقتضى الأمر أن يصبحوا شهداء دافعين دماءهم ثمناً لهُ...
فها النبّي أشعيا (أشعيا 40 /1 -10) يبشّر بالفرح والتعزية والرّجاء لأورشليم: "عزّوا، عزّوا شعبي، يقول إلهكم. خاطبوا قلب أورشليم ونادوها بأن قد تمّ تجندها، غفر إثمها، واستوفت من يد الرّبّ ضعفين عن جميع خطاياها". ولكن لماذا هذه التعزية بعد طول الانتظار والعذاب؟ يأتي الجواب الصَّريح على لسان مبشّر أورشليم: "هوذا إلهكم، هوذا السيّد الرّبّ يأتي بقوّة، وذراعه متسلطة: هوذا جزاؤه معه، وعمله قدامه. يرعى قطيعه كالرّاعي، يجمع الحملان بذارعه، ويحملها في حضنه، ويستاق المرضعات رويداً".
ولكي يحدث هذا كلّه لا بدّ من صوت صارخ "في البرِّيَّة أعدّوا طريق الرَّبّ، واجعلوا سُبل إلهنا في الصّحراء قويمة. كلّ واد يمتلئ، وكلُّ جبل وتل ينخفض، والمعوّج يتقوم، ووعر الطريق يصير سهلاً" عندئذ فقط "يتجلّى مجد الربّ ويعاينه كلّ جسد" (اشعيا 40/ 3-5). من الجدير بالذكر أن هذه الكلمات كتبت أثناء السبي إلى بابل وتبشر بقرب انتهائه وعودة المسبيِّين بعد جلاء عن أورشليم دام سبعين سنة كان الشّعب فيه مستعبدًا.
كم نحن بحاجة لمثل هذه النبوءة في أيّامنا هذه؟ كم نحن بحاجة إلى تعزية بعد الألم والعذاب؟
بطرس الرَّسول (2 بطرس 3/ 13-14) يبشّر "بسموات جديدة وأرض جديدة يقيم فيها البرّ" ولكنّنا ننتظر ذلك أيضًا كما وعد الله، لذلك يطالبنا بوضوح: "فاجتهدوا أيّها الأحباء، وأنتم تنتظرون هذا الأمر، أن يجدكم الله بسلام، لا دنس فيكم ولا لوم عليكم". ويقول هذا بثقة بالغة "لأنّ الرّبّ لا يُبطئ في انجاز وعده، كما اتّهمه بعض الناس، ولكنّه يصبر عليهم، لأنّه لا يشاء أن يهلك أحد، بل أن يبلغ جميع الناس إلى التوبة".
أمّا بطل الأنبياء وزعيم الشّهداء والصوت المدويّ الصّارخ في بريّة هذا العالم، فهو يوحنّا المعمدان رغم أنّه كان إنساناً بسيطاً يلبس وبر الإبل وعلى وسطه زنّار من جلد وكان يأكل الجراد والعسل البريّ، ورغم أنّه كان يعلن: "يأتي بعدي من هو أقوى منّي، لست أهلاً لأن أنحني فأفكّ رباط حذائه" (مر 1/ 6) وكان يقول أيضًا: "ينبغي له أن يكبر ولي أن أصغر" (يو 3/ 30)، ومع ذلك، وبالرّغم من تواضعه فإن الجماهير الغفيرة كانت تخرج إليه من بلاد اليهوديّة كلّها وجميع أهل أورشليم لكي يعتمدوا عن يده في نهر الأردنّ معترفين بخطاياهم. كما أن السيّد المسيح أشاد بعظمته: "لم يخرج من بين أبناء النساء أعظم منه". (لو 7/ 28).
كانت رسالة هذا النبّي التحضير لمجيء السيّد المسيح طبقـًا للنبوءة: "هاءنذا أرسل رسولي قدّامك ليعدّ طريقك. (ملاخي 3/ 1) صوت منادٍ: في البرِّيَّة أعدّوا طريق الرَّبّ، واجعلوا سبله قويمة" (اشعيا 40/ 3). لذلك كان ينادي بمعموديّة التوبة لغفران الخطايا قائلاً: "توبوا فقد اقترب ملكوت السّموات" (متى 4/ 17). كما أنّه لم يكن يُحابي الوجوه أو يخاف من الملوك والسّلاطين والمسؤولين، لذلك فقد قاوم السّلطتين الدينيّة والمدنيّة: فقد قال للفريسيِّين والصدوقيِّين ورؤساء الكهنة: "يا أولاد الأفاعي، من علّمكم الهرب من الغضب الآتي، توبوا واثمروا ثمرًا يليق بالتوبة، ها إنّ الفأس موضوعة على أصل الشّجرة فكلّ شجرة لا تثمر تُقطع وتلقى في النار" (متى 12/ 34)؛ كما أنّه قال عن هيرودس الذي كان ملكاً على اليهود: "قولوا لذاك الثعلب، لا يحقّ لك أن تأخذ إمرأة أخيك زوجة لك" (متى 14/ 4). لذلك صبت هيروديا جام غضبها عليه وطالبت بقطع رأسه، وهذا ما فعله هيرودس حين قطعه وقدّمه لها على طبق بعد أن قبض عليه وزجها في غياهب السِّجن... حقـًا، لقد كان شاهدًا للحقِّ وشهيدًا للحقّ!
كم نحن بحاجة لمثل هؤلاء الرّسل والأنبياء الذين لا يخشون لومة لائم ولا يخافون من تهديد أو وعيد، بل يرفعون أصواتهم النبويّة في وجه قادة ورؤساء وملوك وحكّام هذا العالم، لكي يقولوا بوضوح وصراحة، بجرأة وقوّة وشجاعة، كلمة حقّ مفادها: "كفى ظلمًا، كفى حربًا ودماء، كفى قتلاً للأبرياء، كفى استغلالاً للمساكين والضعفاء، كفى تسلطـًا وتجبّرًا وتعسفـًا على الفقراء" ويطالبونهم بالتوبة والعودة إلى الطريق القويم والسِّراط المسقيم: "توبوا وعودوا عن طغيانكم وبغيكم وظلمكم، استيقظوا من سباتكم وانهضوا من نومكم وانظروا إلى مصالح شعوبكم، أنصفوا المظلوم، عزّوا الحزين والمتألّم، حاموا عن اليتيم والأرملة، وارأفوا بالفقراء والجياع والبؤساء".
كم نحن بحاجة إلى تعزية وسط الألم وفرح وسط الحزن ورجاء وسط الإحباط واليأس! كم نحن بحاجة إلى وعد بسموات جديدة وأرض جديدة يقيم فيها البِرّ! كم نحن بحاجة إلى دعوة للتوبة والغفران والتسامح والمصالحة في عالم تمزّقه الحروب وقلوب يعشعش فيها الحقد وتنهشها الكراهية؟ كم نحن بحاجة إلى أصوات نبويّة تصرخ في بريّة قلوب الشّعوب في هذا العالم؟!
موقع أبونا