ومَن أحقّ منك بالتفاتة يا أمًّا أعطت كلّ أمّ مثال الأمومة ودرسها الأسمى؟ من أحقّ منك بالشكر، يوم عيد الأمّ هذا، أنتِ التي صرت أمّ يسوع، وأمّ إخوة يسوع؟ أمومتك نبع حبّ، منه نهلت أمّهات الكون بأسره: قبلتِ كلمة الخالق تحلّ في حشاك جنينًا، صغيرًا، ضعيفـًا، فقيرًا، ولكنّه من غنى حبّك عاد أغنى الأغنياء. لقد صار لله أمًّا، فكيف لا يكون أغنى الأغنياء؟
مريم، مثال كلّ أمّ أحبّت فقبلت، أحبّت فحملت، أحبّت فولدت، أحبّت فربّت، أحبّت ففتّشت عن إبن أضاعته يوم زارت أورشليم، أحبّت فعلّمت، وفي مدرستها كان الإبن ينمو بالقامة والحكمة والنعمة، أحبّت فأطاعت الله في ما خطّطه في حياة وحيدها، أحبّت فقبلت سيف الألم الحارق يخترق قلب الأمّ العذب، أحبّت فقبلت أن ابنها ليس ملكها، بل هو عطيّة الله، كلمة الله ومخلّص العالم.
بكِ تجد كلّ أمّ قدوتها الأجمل: بكِ تتعلّم أمّنا كيف تقبل هبة الله في حياتها جنينًا، من حنانك تتعلّم كيف تحمي إبنًا لم تشاهده بعد، لأنّه مثل يسوع في حشاك، غير منظور، ولكنّه حيّ. بك تتعلمّ الأم كيف تربّي، وكيف تعلّم، معك تفتّش كلّ أمّ عن إبن أضاعته في ظلمات هذا العالم، وتجده لأنّك بقربها.
الأم المفتّشة عن إبنها التائه في ظلام الشرّ تشبهك، وتحتاج إليك. الأمّ الباحثة عن ابن سقط في أشراك الّلذة والخطيئة تصرخ إليك، وأنت تسمعين، لأنّك الى الأبد تحملين قلب الأمّ. الأمّ القلقة على مصير ابنها تحتاجك، الأمّ التي أضاعت ولدها في حروب هذا العالم تصرخ إليك، تراك مفتّشة عن وحيدك في أزقّة أورشليم، فتعلم أنّك معها.
الأمّ المربّية تقتدي بك، تتطلع إلى بيت الناصرة، تراك قرب يسوع، وتراه ينمو بالقامة وبالحكمة والنعمة، وتتعلّم منك خدمة هذا النموّ. يا مثال كلّ أمّ، علّمي أمّهاتنا أنّ عطيّة الله لا تنمو ناقصة، لا تنمو بالقامة فقط، لا تنمو بالحكمة والمعرفة فقط، بل بنعمة الله أيضًا، علّمي أمّهاتنا أنّ لا بدّ لصورة الله في أبنائهن أن تنمو، ويسطع فيهم جمال الرّوح.
الأم المعلّمة تنظر إليكِ في مساء ذاك العرس في قانا، تقولين لابنك بثقة الأمومة وبحنانها: "لقد نفذ منهم خمر الفرح، فأعطِهم من خمرك"، وتقولين لخدّام العرس: "إفعلوا ما يقوله لكم". لقد علمت أنّ لا بدّ أن يستجيب، وكيف لا يستجيب لحاجة الفقراء من تعلّم في مدرسة العطاء، مدرسة الأمّ، مدرسة مريم؟
علّمي أمّهاتنا أنّهن مدرسة العطاء أيضًا، بهنّ يرى الأبناء قيمة الخدمة والعطاء. لا تدعي أمّهاتنا ينسين أنّهن معلّمات المجّانيّة، وقدوة أولادهنّ في الوقوف إلى جانب من هم محتاجون إلى خمر الفرح، والأمل، والعزاء. لا تسمحي أن تضحي أمّهاتنا مدارس أنانيّة وانغلاق عن صراخ الآخرين، بل كوني أنت المثال، واجعلي من كلّ أمّ مريم أخرى، فيصبح كلّ ابن مسيحًا آخر، يحمل همّ إخوته، ويشارك في الخلاص الّذي جاء ابنك يصنعه.
مريم، يا أمًّا وقفت تحت الصّليب تنظر ابنها الوحيد يموت، تقاسمه الألم، مساميره اخترقتها هي، جرح قلبه هو جرحها، عطشه زادها ألمًا. تنظر إليه يموت، وهي عاجزة عن الحراك: لكم تمنّت لو تأخذ ألمه، فقلبها قلب أمّ، وإيمانها إيمان أمّ.
علمت أنّ خلاص الكون ها هو يتمّ، ولكن الخلاص كان قاسيًا على قلب أمّ الحنان والرّحمة. مريم، كم من أمّ فقدن إبنًا أو إبنة؟ كم من أمّ تعاين أولادها يتألّمون تحت صليب المرض؟ كم من أمّ تتمنّى لو تحلّ مكان ابن يتألّم أو ابنة تنازع؟ مثلك، ذاك المساء، عند الجلجلة، يقفن باكيات، مجروحات القلب والكيان، يقاسمن فلذات قلبهنّ الألم.
أعطيهنّ أنت، يا أمّ الرّجاء، أعطيهنّ لمسة حنانك تبلسم قلبهنّ الجريح. أعطيهنّ الإيمان الّذي علّمك أن موت ابنك هو حياة للآخرين، وأنّ الموت لن ينتصر، فبعد الموت القيامة، وبعد الفراق حنان اللّقاء من جديد.
أمي مريم، أوكلّ اليك أميّ وكلّ أمّ. لا فقط الأمّهات الجيّدات بل كلّ الإمّهات: أوكل إليك كلّ أمّ رفضت قبول الجنين في حشاها، بلسمي أنت جرح ذاكرتها. أوكل إليك أمًا تركت أولادها، أعطيها الندامة، وأعطي أولادها نعمة الغفران. أوكل إليك أمّهات قدن أولادهن على دروب الضلال، فكوني أنت الهادية، والمرشدة والشافعة. أوكل إليك أمًّا رفضت عن أولادها الحنان، فكوني أنت حنان الأمّ في قلب أولادها، وكوني لها الضّارعة الشافية.
أمّي مريم، أوكل إليكِ أمّهات رحلن الى بيت الآب، هم مثلك أمّهات، يحملن عطف الأمّ، شوق الأمّ، وقلق الأمّ. صلّي لهنّ، وقولي لابنك: مثلي هم أمّهات، فكن لهنّ الرّحوم، فحبّ الأمّ يعطي الخلاص.
الأب بيار نجم ر.م.م.