الأيديّ المفتوحة:
كانت كلّ حياة يسوع عبارة عن دعوة مستمرّة وبدون حدود: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والرّازحين تحت أثقالكم وأنا أريحكم". (متى:11، 28). كلّ حياته، كانت ذراعيه مفتوحة لاستقبال النّاس بدون تمييز، الرِّجال والنساء، وخاصّةً من يرزح تحت ثقل الحياة.
فإذا كانت صورة الله التي تبقى لنا هي صورة المصلوب بذراعيه المفتوحتين فهو أنّ يسوع يستمرّ في دعوتنا لننزل إلى حضنه، كوالد الإبن الضّال، يستقبلنا بدون شرطٍ أو عتاب. هل من التيقّظ أن نعيش مع يدين مفتوحتين؟ أليس هذا خطر؟ أليس من الأفضل تعليم أولادنا -منذ الصفوف الأولى- الكراتيه؟ الهجوم والدّفاع وتغطية الوجه؟ أليسوا أفضل من فتح اليدين والذراعين؟
إنّنا نعرف مَثل موسى الذي يصلّي بذراعيه المفتوحتين، في وقت كان يشوع يقود الفرقة في صراعه ضدّ العماليق (خروج17: 8-14). فبقوّة ذراعيّ موسى المفتوحتين-المسنودتين من قبل هارون وحور- انتصر شعبه.
عيشوا حياتكم بأيدي مفتوحة، كما أقام يسوع إبنة يائيرس وابن نائين، كما لمس عينيّ الأعمى وأذنيّ الأصمّ، كما غمر الأولاد وجعل بطرس يمشي على الأمواج. لتكن أيدينا دائمًا مفتوحة، لأنّ "مباركٌ هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع 20: 35).
لا يجب أن نكون كالوالد الذي يمدّ يديه لولده طالبًا منه الجلوس بين ذراعيه وتاركًا إيّاه يسقط قائلاً له: إذا أردت أن تحيا لا تثق بأحد حتى بوالدك. الله يثق بنا، حتى لو جعلناه يولد في مغارة أو يموت على الصّليب. فهو في كلّ يوم، يفتح ذراعيه لي وينزل بين يديّ، قائلاً: تناول جسدي، إشرب دمي. أنا أثق بك.
القلب المفتوح:
الأخطر من اليدين المفتوحتين، هو القلب المفتوح. هناك صور للقلب الأقدس حيث يسوع لا يدلّ فقط على قلبه المفتوح، بل يحمله بيديه ليعطينا إيّاه. هل هذا تصرّف واعٍ؟ ألسنا على وشك أن نُجرح حينما نُعرّض أنفسنا هكذا؟ فالأمّ تحذّر ابنتها لتكون متنبّهة ولعدم فتح قلبها بسرعة وسهولة.
هناك الكثير من النّاس الذين يستغلّون الثقة الّتي أُعطيت لهم. من المستحبّ جعل القلب مُغلقـًا وقاسيًا بعض الشيء.
لكنّ ذلك ليس من حكمة الله أو وعيه فإنّ يسوع، في آخر أيّام العيد، توسّط الحشد قائلاً: "إن عطش أحدٌ، فليجئ إليّ ليشرب" (يو7: 37). ويوحنّا يفسّر ذلك بالقول: "من آمن بالمسيح تفيض من صدره أنهار ماء حيّ" (يو7: 38). في الوقت الذي طُعن فيه قلب يسوع: "أحد الجنود طعنه بحربة في جنبه، فخرج منه دمٌ وماء" (يو19: 34) كنبع لا يجفّ وكما قد تمّ الوعد: "أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانًا" (رؤيا21: 6).
من خلال طعن قلب يسوع، أصبح الجنديّ الرومانيّ (لونجينوس) فاعل خير للإنسانيّة وقد ترك لنا الصُّورة الأكثر سموًّا لله بقلبه المفتوح، من بعد مماته وللدّوام. لأنّ يسوع القائم بالمجد حافظ دائمًا على جرح قلبه المطعون بعد عودته من الموت. وهذه إشارة، بأنّ لا قيامة لنا إلّا بعد ذهابنا إلى أقصى حدود العطاء، إلى درجة بذل الذات.
وهكذا شاهد يوحنّا، في رؤيته، حملاً بقلب مطعون جالسًا على عرش والذين حوله يبتهلون: "لإلهنا الحمد والمجد والحكمة والشكر والإكرام والقوّة والقدرة إلى أبد الدّهور" (رؤ7: 12)؛ "لأنّ الحمل الذي في وسط العرش يرعاهم ويهديهم إلى ينابيع ماء الحياة، والله يمسح كلّ دمعة من عيونهم" (رؤ7: 17).
عندما أتى يسوع بعد قيامته، لم يكن قلبه فقط مفتوحًا، بل دعانا جميعًا نحن الشكّاكون والخائبون كتوما الرّسول قائلاً: "هاتِ إصبعك إلى هنا وانظر يديّ، وهات يدك وضعها في جنبي. ولا تشكّ بعد الآن، بل آمن" (يو20: 27).
في الأمس واليوم، إنّ الخبر السَّار لذاك القائم من الموت، هو أنّ الحبّ يغلب الموت. وبأنّ مسيرة الحياة ليست لذوي القلوب المنغلقة، الذين يخشون العذاب، بل لنا جميعًا كي نتقدّم ونضع جراحات قلوبنا في قلب يسوع المفتوح. فهو بلا ريب، سيحوّل مرارتنا وخيبتنا في الحبّ إلى نبع حياة.
إنّ جرح قلب يسوع المفتوح، حتى بعد قيامته ووصولاً إلى عرش الحمل، يعلّمنا بأن ليس من الحرج أن يكون لنا جراح حبّ. ربما العكس: الذي لم يكن لديه قلبًا مجروحًا، هل أحبّ بالفعل؟ عندما نحبّ ونفتح قلوبنا، سوف نُجرح بالتأكيد. وبالتالي، عندما نصل إلى عرش الحمل بقلب نظيف خال من الجراح، من البديهيّ أنّنا سنعود مجدَّدًا لنواجه تحدّيات الحياة لأنّ... "في نهاية حياتنا سنُحاسب على الحبّ".
وديع ومتواضع:
"إحملوا نيري وتعلّموا منّي تجدوا الرّاحة لنفوسكم فأنا وديع متواضع القلب" (متى11: 29).
إذا طرحنا أسئلة حول إمكانية العيش بأيد مفتوحة والأكثر من ذلك بقلب مفتوح، فها إن معلّم المحبّة يمهّد لنا هذا الطريق الخطير من خلال دعوته لنكون مثله، وديعين ومتواضعين. وبعد ذلك المسار الشاق، هو يؤكّد لنا بأنّنا سنصل حتمًا إلى الرّاحة، والعزاء، والسّلام الداخليّ الدّائم.
هل الوداعة والتواضع هما الفضيلتان الرَّاسختان في ظلّ عالم تسوده القوّة والسَّيطرة؟ هل سيمكننا الحصول على العزاء إذا سرنا عكس التيار...، عندما نكون حملان وسط عالم مليء بالذئاب؟ إنّ الحمل يؤكّد لنا بأن الوداعة ستسيطر وبأن التواضع سيسود، ولكن...عندما ندفع ثمن حياتنا للمرّة الواحدة. أليس من بعد موته، قدّ تأكدنا بأن الحمل هو أقوى من الذئب؟!
"هنيئاً للودعاء لأنّهم يرثون الأرض" (متى5:5)، الأرض التي يسكن فيها الذئب مع الخروف (آشعيا11: 6) والأخ يقبل بأن يكون حارسًا لأخيه (تك:4: 9) وحيث يكون الأكبر فيكم كالأصغر والرئيس كالخادم (لوقا 22: 26) وحيث يغسل السيّد أرجل تلاميذه (يو13: 14).
فليكن قلب يسوع مصدر بركةٍ للجميع. "حتى إذا تأصلتم ورسختم في المحبّة... وتعرفوا محبّة المسيح التي تفوق كلّ معرفة" (أفسس3: 17-19).
الأب هانس بوتمان اليسوعيّ