رسالة رسولية
للأب الأقدس فرنسيس
Patris Corde
بقلب أبوي
بمناسبة الذكرى الماءة والخمسين
لإعلان القديس يوسف البتول
شفيعا للكنيسة جمعاء
بقلب أبويٍّ: هكذا أحبّ يوسفُ يسوعَ الذي سمّته الأناجيلُ الأربعة "ابن يوسف"[1].
إن الإنجيليَّين اللذَين سلّطا الضوء على شخصيّته، متّى ولوقا، لا يخبران إلّا القليل، ولكنه يكفي لتوضيح أيّ نوع من الأب كان، والمهمّة التي أوكلتها إليه العنايةُ الإلهية.
نعلم أنه كان نجّارًا متواضعًا (را. متى 13، 55)، خطّيبَ مريم (را. متى 1، 18؛ لو 1، 27)؛ "رجلًا بارًّا" (متى 1، 19)، مستعدًّا دائمًا لتتميم مشيئة الله التي تجلّت في شريعته (را. لو 2، 22. 27. 39) ومن خلال أربعة أحلام (را. متى 1، 20؛ 2، 13. 19. 22). بعد رحلة طويلة ومرهقة من الناصرة إلى بيت لحم، رأى ميلاد المسيح في مِذوَدٍ، لأنه "لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ" (لو 2، 7). وشهد سجود الرعاة (لو 2، 8- 20) والمجوس (را. متى 2، 1- 12)، الذين يمثّلون على التوالي شعب إسرائيل والشعوب الوثنية.
كانت لديه الشجاعة ليتحمّل مسؤوليّة أبوّة يسوع قانونيًّا، وأعطاه الاسمَ الذي كشفه له الملاك: "سَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" (متى 1، 21). وكما هو معروف، إن إعطاء اسم لشخص أو شيء عند الشعوب القديمة يعني امتلاكه، كما فعل آدم في سفر التكوين (را. 2، 19- 20).
بعد أربعين يومًا من ولادة يسوع، قدّم يوسفُ الطفلَ للربِّ، برفقة والدته، في الهيكل، وأصغى بدهشة إلى نبوءة سمعان عن يسوع ومريم (را. لو 2، 22- 35). ولكي يحمي يسوعَ من هيرودس، مَكَث غريبًا في مصر (را. متى 2، 13- 18). وعند عودته إلى وطنه، عاش بخفية في قرية الناصرة الصغيرة غير المعروفة في الجليل - التي قيل فيها، "لا يَقومُ مِنَ الجَليلِ نَبِيّ" و "أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمكِنُ أَن يَخرُجَ شَيءٌ صالِح؟" (را. يو 7، 52؛ 1، 46) - بعيدًا عن بيت لحم، مسقط رأسه، وعن القدس/أورشليم مكان وجود الهيكل. وعندما فقدوا يسوع أثناء حجّهم إلى القدس/أورشليم، وكان في الثانية عشر من عمره، بحث عنه هو ومريم بتلهّف، ووجداه في الهيكل يناقش علماء الشريعة (را. لو 2، 41- 50).
ما من قدّيس -بعد مريم، والدة الله- يحتلّ مكانة في تعليم الباباوات مثل يوسف خطّيبها. فقد تعمّق أسلافي بالرسالة التي تَحمِلها المعلومات القليلة التي تنقلها الأناجيل، لكي يبرزوا دوره الرئيسيّ في تاريخ الخلاص: وأعلنه الطوباوي بيوس التاسع "شفيعًا للكنيسة الكاثوليكية"[2]، وقدّمه المُكرَّم بيوس الثاني عشر "شفيعًا للعمّال"[3]، والقدّيس يوحنّا بولس الثاني "حارسًا للفادي"[4]. ويبتهل إليه الشعب بصفته "شفيع الميتة الصالحة"[5].
لذلك، وبمناسبة الذكرى الماءة والخمسين لإعلانه شفيعًا للكنيسة الكاثوليكية من قِبَلِ الطوباوي بيوس التاسع، في 8 كانون الأوّل/ديسمبر 1870، أودّ -كما يقول يسوع- أن "يتكلَّمُ اللِّسان مِن فَيضِ القَلْبِ" (را. متى 12، 34)، لكي أشارككم بعض الأفكار الشخصيّة حول هذه الشخصيّة الاستثنائية، القريبة جدًّا من الحالة البشرية التي يعرفها كلّ واحد منّا. لقد نمت هذه الرغبة خلال أشهر الجائحة هذه، والتي يمكننا أن نشهد فيها، في خضمّ الأزمة التي تضربنا، أن حياتنا "منسوجة ومسنودة من قِبَل أشخاص عاديّين -منسيّين بالعادة- لا يظهرون في عناوين الصحف أو المجلّات ولا في كبار مسارح أحدث العروض ولكنهم، دون شكّ، يكتبون اليوم الآن الأحداث الحاسمة في تاريخنا: الأطبّاء، والممرّضين، والممرّضات، والعاملين في متاجر البقالة، وعمّال النظافة، ومقدّمي الرعاية، والعاملين في مجال النقل، وقوّات فرض القانون، والمتطوّعين، والكهنة، والراهبات، والكثير الكثير من الأشخاص الذين فهموا أنه لا أحد ينقذ نفسه بنفسه. [...] كم من الأشخاص يمارسون الصبر وينشرون الرجاء كلّ يوم، مع الحرص على عدم بثّ الذعر إنما المسؤولية المشتركة. كم من الآباء والأمّهات والأجداد والجدّات، والمعلّمين يبيّنوا لأطفالنا، عبر أعمال صغيرة ويومّية، كيف نواجه ونتخطّى الأزمات من خلال تكييف عاداتنا ورفع نظرنا وتحفيز صلاتنا. كم من الأشخاص يصلّون ويساعدون ويتوسّطون من أجل خير الجميع"[6]. يستطيع الجميع أن يجد في القدّيس يوسف، الرجلّ الذي يمرّ دون أن يلاحظه أحد، رجلَ الحضور اليومي، المتحفّظ والخفي، والشفيع، والعضد والمرشد في أوقات الشدّة. يذكّرنا القدّيس يوسف أن الأشخاص المَخفيّين ظاهريًّا أو الذين هم في "الخطّ الثاني"، لديهم دور أساسيّ لا مثيل له في تاريخ الخلاص. لكلّ منهم تعود كلمةُ تقدير وامتنان.
1. أبٌ محبوب
تَكمُن عظمةُ القدّيس يوسف في حقيقةِ أنّه كان خطّيبَ مريم وأبا يسوع، وبالتالي "وضع نفسه في خدمة التدبير الخلاصي بأكمله"، كما يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم[7].
يلاحظ القدّيس بولس السادس أن أبوّته قد ظهرت بشكل ملموس "حين جعل حياته خدمةً وتضحيةً من أجل سرّ التجسّد ورسالة الفداء التي يتضمّنها، وحين استخدم السلطةَ المشروعة التي كان يملكها على العائلة المقدّسة من أجل أن يقدّم لها كلّ ذاته وحياته وعمله، وحين حوّل دعوته البشريّة لحبّ عائليّ إلى تضحيةٍ سامية لذاته ولقلبه ولكلّ ما يملك من قدرة على الحبّ ووضعها في خدمة المسيح الذي نما في بيته"[8].
إن القدّيس يوسف، بفضل دوره هذا في تاريخ الخلاص، كان أبًا محبوبًا على الدوام من قِبَلِ الشعب المسيحيّ، والدليل على ذلك هو أن هناك العديد من الكنائس المكرّسة له في جميع أنحاء العالم، وأن العديد من المؤسّسات الرهبانية، والأخويّات والجماعات الكنسية تستلهم روحانيّته وتحمل اسمه، وأن أعمالًا تقويّة مقدّسة مختلفة قد خُصِّصَت لإكرام شخصه لعدّة قرون. وكان يتعبّد له بشغف العديدُ من القدّيسين والقدّيسات، ومنهم تيريزا الأفيليّة التي تَبَنّتْه حاميًا وشفيعًا، وغالبًا ما طلبت شفاعته، ونالت كلّ النعم التي طلبتها منه. وقد شجّعتها خبرتها الخاصّة هذه فأقنعت الآخرين بالتعبّد له[9].
نجد في كلّ دليل للصلاة بعضَ الابتهالات إلى القدّيس يوسف. وتُرفَع له ابتهالات خاصّة يوم الأربعاء ولا سيما طيلة شهر آذار/مارس المُخصَّص له تقليديًا[10].
يمكننا أن نلخّص ثقة الناس بالقدّيس يوسف في عبارة "اِذْهَبوا إِلى يوسف" التي تشير إلى زمن المجاعة في مصر عندما كان الناس يطلبون الخبز من فرعون فيجيب: "اِذْهَبوا إلى يوسف؛ فما يَقُلْه لَكُم فاَصنَعوه" (تك 41، 55). هذا النصّ يتحدّث عن يوسف ابن يعقوب، الذي باعه إخوته حسدًا (را. تك 37، 11- 28) والذي -وفقًا للسرد الكتابي- أصبح فيما بعد نائبًا لملك مصر (را. تك 41، 41- 44).
يشكّل القدّيس يوسف المفصلَ الذي يجمع بين العهد القديم والجديد، وذلك لأنه من نسل داود (را. متى 1، 16. 20)، الذي كان على يسوع أن يبزغ من جذوره وفقًا للوعد الذي قطعه الله لداود على لسان النبيّ ناثان (را. 2 صم 7)، وأيضًا بصفته خطّيب مريم، عذراء الناصرة.
2. أبٌ رؤوف
رأى يوسفُ يسوعَ ينمو يومًا بعد يوم "في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس" (لو 2، 52). وكما فعل الربّ مع إسرائيل، هكذا صنع يوسفُ مع يسوع: درّجه وحَمَله على ذِراعه [...] وكُان لَه كمَن يَرفَعُ الرَّضيعَ إِلى وَجنَتَيه وانحَنَى علَيه وأَطعَمه (را. هو 11، 3– 4). ورأى يسوعُ في يوسف رأفة الآب: "كما يَرأَفُ الأَبُ ببَنيه يَرأَفُ الرَّبُّ بِمَن يَتَّقونَه" (مز 103، 3). من المؤكّد أن يوسف قد سمع تكرارًا في المجمع، أثناء صلاة المزامير، أن إله إسرائيل هو إله رؤوف[11]، صالح تجاه الجميع "ومَراحِمَه على كُلِّ أَعْمالِه" (مز 145، 9).
إن تاريخ الخلاص يتمّ بالرجاء "على غَيرِ رَجاء" (روم 4، 18) من خلال ضعفنا. غالبًا ما نظنّ أن الله يعتمد فقط على ما هو صالح وناجح فينا، فيما أنّ معظم تدابيره تتحقّق في الواقع من خلال ضعفنا وبالرغم منه. وهذا ما جعل القدّيس بولس يقول: "مَخافَةَ أَن أَتَكَبَّرَ بِسُمُوِّ المُكاشَفات، جُعِلَ لي شَوكَةٌ في جَسَدي: رَسولٌ لِلشَّيطانِ وُكِلَ إِلَيه بِأَن يَلطِمَني لِئَلاَّ أَتَكبر. وسأَلتُ اللهَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أَن يُبعِدَه عَنِّي، فقالَ لي: "حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف". فإِنِّي بِالأَحرى أَفتَخِرُ راضِيًا بِحالاتِ ضُعْفي لِتَحِلَّ بي قُدرَةُ المَسيح" (2 قور 12، 7- 9). وإذا كان هذا هو منظور تدبير الخلاص، فعلينا أن نتعلّم كيف نقبل ضعفنا برأفة عميقة[12].
إن الشرّير يجعلنا ندين ضعفنا، بينما الروح يلقي الضوء عليه برأفة. والرأفة هي أفضل طريقة نلمس بها ما هو هشّ فينا. فإصبع الاتّهام والأحكام التي نستخدمها إزاء الآخرين غالبًا ما تكون علامة على عدم قدرتنا في داخلنا على قبول ضعفنا وهشاشتنا. وحدها الرأفة تنقذنا من "عمل المتّهم" (را. رؤ 12، 10). لذا فمن المهمّ أن ننال رحمة الله، لا سيّما في سرّ المصالحة، ونختبر الحقيقة والرأفة. من المفارقات أن الشرّير يستطيع أيضًا أن يقول لنا الحقيقة، لكنه يفعل ذلك ليديننا. أمّا نحن فنعلم أن الحقيقة التي تأتي من الله لا تديننا، بل ترحّب بنا، وتعانقنا وتساندنا وتغفر لنا. فالحقيقة تَظَهر لنا دائمًا على غرار الآب الرحيم في المَثَل (را. لو 15، 11- 32): تأتي للقائنا، وتعيد لنا كرامتنا، وتنهضنا، وتحتفل بنا، والدافع هو أنّ "ابنِي هذا كانَ مَيتًا فعاش، وكانَ ضالًّا فوُجِد" (آية 24).
تمرّ إرادةُ الله وتاريخه ومشروعه من خلال قلق يوسف أيضًا. ويعلّمنا يوسف بهذه الطريقة أن ثقتنا بالله تشمل أيضًا الإيمان بأنه قادر على العمل حتى من خلال مخاوفنا وضعفنا. ويعلّمنا أنه يجب ألّا نخاف من أن نسلّم "دفّة قاربنا" لله في خضمّ عواصف الحياة. إننا نرغب أحيانًا في السيطرة على كلّ شيء، لكن نظرة الله هي دائمًا أكبر من نظرتنا.
3. طاعة يوسف
على غرار ما فعله الله مع مريم، عندما أظهر لها تدبيره الخلاصيّ، كذلك كشف عن تدبيره ليوسف من خلال الأحلام، التي كانت تُعتَبَر في الكتاب المقدّس، كما ولدى جميع الشعوب القديمة، إحدى الوسائل التي يُظهِر الله بها مشيئته[13].
شعر يوسف بحزن شديد إزاء حمل مريم المُستَعصي الفهم: فهو لم "يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها"[14]، بل قرّر "أنيُطلِّقَها سِرًّا" (متى 1، 19). فساعده الملاك في الحلم الأوّل على حلّ معضلة خطيرة: "لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" (متى 1، 20- 21). وكانت إجابته فوريّة: "لمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ" (متى 1، 24). تغلّب على مأساته عبر الطاعة، وأنقذ مريم.
طَلَب الله من يوسف في حلمه الثاني أن يترك أرضه: "قُم فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه واهرُبْ إِلى مِصْر وأَقِمْ هُناكَ حَتَّى أُعْلِمَك، لأَنَّ هيرودُسَ سَيَبْحَثُ عنِ الطِّفلِ لِيُهلِكَه" (متى 2، 13). فلم يتردّد يوسف في الانصياع، دون أن يطرح أسئلة حول الصعوبات التي قد يواجهها: "قامَ فأَخَذَ الطِّفْلَ وأُمَّه لَيلاً ولَجَأَ إِلى مِصر. فأَقامَ هُناكَ إِلى وَفاةِ هيرودُس" (متى 2، 14- 15).
وفي مصر انتظر يوسفُ العلامةَ الموعودة من الملاك، بثقة وصبر، حتى يعود إلى وطنه. وما إن أمره المُرسَل الإلهيّ في حلمه الثالث بأن ينهض ويأخذ الطفل وأمّه معه ويعود إلى أرض إسرائيل، بعد أن أبلغه بموت الذين كانوا يحاولون قتل الطفل، (را. متى 2، 19- 20)، حتى أطاع مجدّدًا ودون تردّد: "قامَ فأَخذَ الطِّفْلَ وأُمَّه ودَخَلَ أَرضَ إِسرائيل" (متى 2، 21).
ولكن خلال رحلة العودة: "سَمِعَ أَنَّ أَرخِلاَّوُس خلَفَ أَباهُ هيرودُسَ على اليَهودِيَّة، فخافَ أَن يَذهَبَ إِليها. فأُوحِيَ إِليه في الحُلم [وهذه المرّة الرابعة التي يحلم فيها]، فلجَأَ إِلى ناحِيَةِ الجَليل. وجاءَ مَدينةً يُقالُ لها النَّاصِرة فسَكنَ فيها، لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ الأَنبِياء: إِنَّه يُدعى ناصِريّاً" (متى 2، 22- 23).
يشير الإنجيلي لوقا من جهته أن يوسف قد واجه الرحلة الطويلة والصعبة من الناصرة إلى بيت لحم، وفقًا لأمر أصدره الإمبراطور قيصر أغسطس بإحصاء جَميعِ أَهلِ الـمَعمور، ليكتتب في مسقط رأسه. وفي هذا الظرف بالتحديد وُلِد يسوع (را. لو 2، 7)، ودُوِّنَ اسمه في سجلّ الإمبراطورية، مثل بقيّة الأطفال.
حرص القدّيس لوقا على إظهار أمانة والدَي يسوع لتعليمات الشريعة: طقوس ختان يسوع، وطهور مريم بعد الولادة، ونذر كلّ بكر لله (را. 2، 21- 24)[15].
لقد عرف يوسف، في كلّ ظروف حياته، كيف يقول "ليَكُن"، على غرار مريم يوم البشارة، ويسوع في جتسماني. وعلّم يوسفُ يسوعَ، بصفته ربّ العائلة، أن يكون خاضعًا لوالديه (را. لو 2، 51)، وفقًا لمشيئة الآب (خر 20، 12). وتعلّم يسوع، متتلمذًا على يد يوسف في خفية الناصرة، أن يتمّم مشيئة الآب. وأصبحت هذه المشيئة طعامه اليومي (را. يو 4، 34). وفضّل، حتى في أصعب لحظات حياته، التي عاشها في جتسماني، أن يتمّم مشيئة الآب لا مشيئته[16]، و"أطاع حتى الموت [...] موت الصليب" (في 2، 8). ولذا يستنتج كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن يسوع قد "تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ، [...] بما عانى مِنَ الأَلَم" (5، 8).
نستنتج من كلّ هذه الأحداث أن الله قد دعا يوسف "لكي يخدم بشكل مباشر شخص يسوع ورسالته من خلال ممارسة أبوّته: فيتعاون بهذه الطريقة في سرّ الفداء العظيم في ملء الزمان، وهو حقًا خادم الخلاص"[17].
4. قبول يوسف
قَبِلَ يوسفُ مريم دون أن يضع شروطًا وقائية، فقد وضع ثقته بكلام الملاك. "وجعله نبلُ قلبه يُخضِع للمحبّة ما تَعَلَّمه من الشريعة؛ واليوم في هذا العالم الذي يَظهر فيه بوضوح العنفُ النفسيّ والكلاميّ والجسديّ على المرأة، يَظهَر يوسف بصورة رجل موقور ورقيق، والذي بالرغم من عدم امتلاكه لجميع المعلومات، اتّخذ قرارًا يحمي سمعة مريم وكرامتها وحياتها. وحين تردّد حول الطريقة الأفضل في التصرّف، ساعده الله في خياره منيرًا أحكامه"[18].
غالبًا ما تحدث أمور في حياتنا لا نفهم معناها. وغالبًا ما يكون ردّ فعلنا الأوّل هو خيبة الأمل والتمرّد. أمّا يوسف فيضع تفكيره جانبًا حتى يفسح المجال لما يحدث. ومهما بدا الحدث غامضًا في عينيه يقبله ويتحمّل مسؤوليته ويتصالح مع تاريخه الشخصيّ. إذا لم نتصالح مع تاريخنا، فلن نتمكّن من القيام حتى بخطوة إضافية، لأننا سنظلّ دائمًا أسرى تطلّعاتنا وخيبات الأمل الناتجة عنها.
إن الحياة الروحيّة التي يقدّمها لنا يوسف ليست طريقًا تعلّمنا شرح الأحداث، بل طريقًا لقبولها. فإننا لا نستطيع أن نتحسّس قصّةً أكبر ومعنًى أعمق إلّا انطلاقًا من هذا القبول. وكأننا نسمع ترداد صدى كلمات أيّوب القويّة حين دعته زوجته للتمرّد على كلّ الشرّ الذي يحدث له، فأجاب: "أَنَقبَلُ الخَيرَ مِنَ اللهِ ولا نَقبَلُ مِنه الشَّرّ؟" (أي 2، 10).
إن يوسف ليس شخصًا مذعنًا سلبيًّا. بل له شخصيّةٌ شجاعة وقويّة. فالقبول هو الطريقة التي تتجلّى من خلالها عطيّةُ القوّة التي تأتينا من الروح القدس في حياتنا. وحده الربّ يستطيع أن يمنحنا القوّة حتى نقبل الحياة كما هي، ونفسح المجال لهذا الجانب المفاجئ من الحياة الذي يبدو متناقضًا ومخيّبًا للآمال.
ومجيء يسوع في وسطنا هو عطيّة من الآب، حتى يتصالح كلّ منّا مع تاريخه الخاصّ حتى عندما لا يفهمه بالكامل.
كما قال الله لقدّيسنا: "يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ" (متى 1، 20)، يبدو أنه يردّد لنا أيضًا: "لا تخافوا!". من الضروريّ أن نضع الغضب وخيبة الأمل جانبًا ونفسح المجال، دون أيّ استسلام دنيويّ وإنما بثبات مليء بالرجاء، لأمور لم نختَرها إلّا أنها موجودة. وقبولنا للحياة بهذه الطريقة يقودنا إلى إدراك ذاك المغزى الخفيّ. فحياة كلّ واحد منّا تستطيع أن تبدأ من جديد بطريقة إعجازيّة، إذا وجدنا الشجاعة لنعيشها وفقًا لما يقوله لنا الإنجيل. ولا يهمّ ما إذا كان كلّ شيء يبدو الآن وكأنّه اتّخذ منحى خاطئًا وما إذا كانت بعض الأشياء لا رجعة فيها. فإن الله يستطيع أن يجعل الزهور تنبت بين الصخور. حتى وإن وبّخنا قلبنا، "فإِنَّ اللهَ أَكبَرُ مِن قَلْبِنا وهو بِكُلِّ شيَءٍ عَليم" (1 يو 3، 20).
إن الواقعية المسيحيّة لا تستبعد أيّ شيء ممّا هو موجود، وها هي تعود مجدّدًا. فالواقع، الذي لا يمكن تغييره والذي هو معقّد، يحمل من خلال نوره وظلاله معنًى للحياة. وهذا ما يجعل الرسول بولس يقول: "إِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأشياءِ تَعمَلُ لِخَيْرِ الَّذينَ يُحِبُّونَ الله" (روم 8، 28). ويضيف القدّيس أوغسطينوس: "حتى ما يُسمى بالشّر (etiam illud quod malum dicitur)"[19]. وفي هذا المنظور الشامل، يُعطي الإيمانُ معنًى لكلّ حدث سعيد أو مؤسف.
حاشا لنا أن نعتقد أن الإيمان يعني إيجاد حلول مواسية سهلة. بل إن الإيمان الذي علّمنا إيّاه المسيح هو الذي نراه في القدّيس يوسف، الذي لا يبحث عن طرق مختصرة، ولكنّه يواجه "بانتباه" ما يحدث له، ويتحمّل مسؤوليّته شخصيًّا.
إن قبول يوسف يدعونا إلى قبول الآخرين، دون استثناء، كما هم، وإعطاء الأفضليّة للضعيف، لأن الله يختار الضعيف (را. 1 قور 1، 27)، فهو "أَبو اليَتامى ومُنصِفُ الأَرامل" (مز 68، 6) ويوصي بمحبّة الغرباء[20]. يروق لي أن أتخيّل أن يسوع قد استوحى من مواقف يوسف مَثَلَ الابن الضّال أو الأب الرحيم (را. لو 15، 11- 32).
5. شجاعة خلّاقة
إذا كان قبول التاريخ الشخصيّ هو أوّل مرحلة من أيّ علاج داخلي، أي أن نفسح المجال في داخلنا حتى للأمور التي لم نخترها في حياتنا، فمن الضروريّ أيضًا أن نضيف ميزة مهمّة أخرى: ميزة الشجاعة الخلّاقة. فهي تَظهَر بشكل خاصّ عند مواجهة الصعوبات. يمكن للمرء في الواقع، إزاء صعوبة ما، أن يتوقّف "ويغادر الملعب"، أو أن يبذل قصارى جهده. فالصعوبات تحديدًا هي التي تكشف فينا أحيانًا عن إمكانيّات لم نكن لنعتقد حتى أنّنا نملكها.
غالبًا ما نتساءل عندما نقرأ "أناجيل الطفولة"، لماذا لم يتدخّل الله بطريقة مباشرة وواضحة. لكن الله يتدخّل من خلال الأحداث والأشخاص. يوسف هو الرجل الذي من خلاله اعتنى الله ببدايات تاريخ الفداء. إنه "المعجزة" الحقيقيّة التي خلّص بها اللهُ الطفلَ وأمَّه. تدخّلت السماء من خلال اتّكالها على الشجاعة الخلّاقة التي تحلّى بها هذا الرجل الذي، عند وصوله إلى بيت لحم، لم يجد مكانًا تستطيع فيه مريم أن تلد، فقام بترتيب مذود وأعاد تنظيمه، بحيث أصبح، قدر الإمكان، مكانًا مضيافًا لابن الله الآتي إلى العالم. (را. لو 2، 6- 7). وإزاء خطر هيرودس الوشيك، الذي يريد قتل الطفل، نبّه الله يوسف مجدّدًا في الحلم، حتى يحمي الطفل، فنظّم الهروب إلى مصر في منتصف الليل (را. متى 2، 13- 14).
إن الانطباع الأوّل الذي نخرج به عند القراءة السطحيّة لهذه الروايات، هو دائمًا بأن العالم يرزح تحت رحمة الأقوياء وأصحاب السلطة، لكن "بشرى" الإنجيل تكمن في إظهار كيف أن الله، على الرغم من غطرسة الحكّام وعنفهم، يجد دائمًا طريقة لإتمام تدبيره الخلاصيّ. قد تبدو حياتنا أيضًا أحيانًا تحت رحمة سلطة قويّة، لكن الإنجيل يخبرنا أن الله ينجح دومًا في إنقاذ ما هو مهمّ، شرط أن نستخدم نفس الشجاعة الخلّاقة التي تحلّى بها نجّار الناصرة، الذي يعرف دائمًا كيف يحوّل المشكلة إلى فرصة، ويواجهها واضعًا ثقته في العناية الإلهيّة.
إذا بدا لنا في بعض الأحيان أن الله لا يساعدنا، فهذا لا يعني أنه تخلّى عنّا، بل أنه يثق بنا، وبما نستطيع أن نخطّط له ونخترع ونجد.
إنها نفس الشجاعة الخلّاقة التي أظهرها أصدقاء المُقعد الذين أنزلوه من السقف لكي يضعوه أمام يسوع (را. لو 5، 17- 26). فالصعوبة لم توقّف جرأة هؤلاء الأصدقاء وعنادهم. كانوا على يقين بأن يسوع يستطيع شفاء المريض، "لَم يَجِدوا سَبيلاً إِلى الدُّخولِ لِكَثَرةِ الزِّحام، فصَعِدوا بِه إِلى السَّطْحِ ودلَّوْهُ بِسَريرِه مِن بَينِ القِرْميد، إِلى وَسْطِ الـمَجلِسِ أَمامَ يَسوع. فلَمَّا رأَى إِيمانَهم قال: “يا رَجُل، غُفِرَت لَكَ خَطاياك”" (آيات 19- 20). ورأى يسوع الإيمان الخلّاق الذي حاول به هؤلاء الرجال إحضار صديقهم المريض أمامه.
لا يعطي الإنجيل معلومات عن الوقت الذي أقامت فيه مريم ويوسف والطفل في مصر. لكنهم بالتأكيد كان عليهم أن يأكلوا، ويجدوا منزلًا، وعملًا. لا يتطلّب الأمر الكثير من الخيال حتى نعوّض عن صمت الإنجيل في هذا الصدد. فكان على العائلة المقدّسة أن تواجه مشاكل ملموسة مثل بقيّة العائلات، ومثل العديد من إخوتنا المهاجرين الذين ما يزالون اليوم أيضًا يخاطرون بحياتهم بسبب المحن والجوع. بهذا المعنى، أعتقد أن القدّيس يوسف هو حقًّا شفيع خاصّ لكلّ الذين يضطرّون إلى مغادرة أرضهم بسبب الحروب والكراهية والاضطهاد والبؤس.
في نهاية كلّ رواية كان يوسف بطلها، يشير الإنجيل إلى أنه يقوم ويأخذ الطفل وأمّه معه ويفعل ما أمره به الله (را. متى 1، 24؛ 2، 14. 21). إن يسوع ومريم أمّه في الواقع، هما أثمن كنز في إيماننا[21].
في التدبير الخلاصيّ، لا يمكننا أن نفصل الابن عن أمّه، عن التي "تقدَّمَت في غُربة الإيمان مُحافظةً بكلِّ أمانةٍ على الاتّحاد مع ابنها حتى الصليب"[22].
يجب أن نسأل أنفسنا دائمًا ما إذا كنّا نحمي بكلّ قوّتنا يسوع ومريم، الموكَلين، بشكل يفوق الفهم، إلى مسؤوليّتنا ورعايتنا وحمايتنا. فقد أتى ابن الله القدير إلى العالم بصورة ضعيفة للغاية. صار يحتاج إلى يوسف حتى يحرسه ويحميه ويرعاه ويربّيه. وضع الله ثقته في هذا الرجل، كما فعلت مريم أيضًا، التي وجدت في يوسف الشخص الذي لا يريد فقط إنقاذ حياتها، بل سوف يسهر على حاجاتها أيضًا وحاجات الطفل. بهذا المعنى، لا يسع القدّيس يوسف إلّا أن يكون حارسًا للكنيسة، لأن الكنيسة هي امتداد لجسد المسيح في التاريخ، وفي الوقت عينه تُظَلِّلُ أمومةُ الكنيسة أمومةَ مريم[23]. وفيما يستمرّ يوسف في حماية الكنيسة، إنه يواصل حماية الطفل وأمّه، ونحن أيضًا، فيما نحبّ الكنيسة، نستمرّ في حبّ الطفل وأمّه.
هذا الطفل هو الذي سيقول: "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25، 40). وهكذا فإن كلّ محتاج، وكلّ فقير، وكلّ شخص يعاني، وكلّ شخص يحتضر، وكلّ غريب، وكلّ سجين، وكلّ مريض هو "الطفل" الذي ما يزال يوسف يحرسه. ولذا نبتهل إلى القدّيس يوسف بصفته حاميًا للبائسين، والمحتاجين، والمنفيّين، والمحزونين، والفقراء، والمحتضرين. ولهذا السبب أيضًا لا يمكن للكنيسة إلّا أن تحبّ الأخيرين أوّلًا، لأن يسوع أعطاهم الأفضليّة، وتماهى معهم شخصيًّا. علينا أن نتعلّم من يوسف نفس الرعاية والمسؤوليّة: أن نحبّ الطفل وأمّه؛ أن نحبّ الأسرار المقدّسة والمحبّة. أن نحبّ الكنيسة والفقراء. كلّ من هذه الحقائق هي الطفل وأمّه.
6. العامل
إن علاقة القدّيس يوسف بالعمل تشكّل أحد الجوانب التي تميّزه، وقد سُلِّط الضوءُ عليها منذ أيّام الرسالة العامّة الاجتماعية الأولى للبابا ليون الثالث عشر، الشوق للتجديد (Rerum novarum). كان القدّيس يوسف نجّارًا يعمل بأمانة لكي يؤمّن معيشة عائلته. وقد تعلّم يسوعُ منه قيمة وكرامة وفرح ما يعني أن نأكل الخبز من عرق جبيننا.
يبدو أن العمل، في عصرنا، قد عاد ليمثّل مسألة اجتماعية ملحّة، فقد بلغت البطالة أحيانًا مستويات محرجة، حتى في البلدان التي شهدت بعض الرفاهية لعقود من الزمن. من الضروريّ بالتالي أن نفهم، بوعي متجدّد، معنى العمل الذي يعطي بعض الكرامة والذي يشكلّ قدّيسُنا شفيعًا مثاليًّا له.
إن العمل يصبح مشاركة في عمل الخلاص ذاته، وفرصة لاستعجال مجيء الملكوت وتنمية إمكاناتنا الشخصيّة وحسناتنا، إذ نضعه في خدمة المجتمع والشركة الكنسية؛ ويصبحُ العملُ فرصةً لنحقّق ليس فقط ذواتنا، إنما أيضًا وقبل كلّ شيء النواةَ الأصليّة للمجتمع التي هي الأسرة. فالأسرة التي ينقص فيها العمل تكون أكثر عرضة للصعوبات والتوتّرات والصدمات وحتى الميل إلى الانحلال اليائس والمُيَئِّس. كيف يمكننا أن نتحدّث عن كرامة الإنسان دون أن نبذل جهدنا لكي نضمن للجميع ولكلّ فرد إمكانيّةَ العيش الكريم؟
إن الشخص الذي يعمل، مهما كانت مهمّته، يتعاون مع الله نفسه، ويشارك بعض الشيء بخلق العالم من حولنا. قد تمثّل أزمةُ عصرنا، التي هي أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة وروحيّة، نداءً للجميع من أجل إعادة اكتشاف قيمة العمل وأهمّيته وضرورته، بهدف خلق "حالة طبيعية" جديدة، لا يُستثنى فيها أحد. يذكّرنا عمل القدّيس يوسف أن الله نفسه الذي صار بشرًا لم يحتقر العمل. وفقدان العمل الذي يطال العديد من الإخوة والأخوات، والذي زاد في الآونة الأخيرة بسبب جائحة فيروس الكورونا، يجب أن يكون بمثابة دعوة حتى نراجع أولويّاتنا. إننا نتضرّع إلى القدّيس يوسف العامل حتى نجد طرقًا تلزمنا بالقول: لا شابّ ولا شعب ولا أسرة، بلا عمل!
7. ظلّ الآب السماوي
روى الكاتب البولندي يان دوبراشينسكي حياةَ القدّيس يوسف بشكل رواية في كتابه "ظلّ الآب"[24]. وقد استخدم صورة الظلّ الموحية لكي يصوّر يوسف، الذي هو ظلّ الآب السماوي على الأرض بالنسبة ليسوع: يحرسه ويحميه، ولا ينفصل عنه أبدًا ليتبع خطاه. هذا ما ذكّر موسى به إسرائيل: "كما رأَيتَ في البرِّيَّة كَيفَ أن الرَّبَّ إِلهَكَ حَمَلَكَ كما يَحمِلُ المَرءُ وَلَدَه في كلِّ الطَّريقِ" (تث 1، 31). هكذا مارس يوسف الأبوّة طوال حياته[25].
إنّ الآباء لا يولدون آباء، بل يصبحون آباء. ولا يصبح المرء أبًا لمجرّد أنّه وُلِدَ له ابنٌ، بل لأنّه يعتني به بمسؤوليّة. وكلّ مرّة يتحمّل شخص ما مسؤوليّة حياة شخص آخر، فإنّه بطريقة ما يمارس الأبوّة تجاهه.
والأبناء في مجتمع زمننا الحاضر، غالبًا ما يبدون أيتامَ الأب. والكنيسةُ اليوم هي أيضًا بحاجة إلى آباء. فما يزال التوبيخ الذي وجّهه القدّيس بولس إلى أهل قورنتس ينطبق على أيّامنا هذه: "قَد يَكونُ لَكم أُلوفُ الحُرَّاسِ في المسيح، ولكِن لَيسَ لَكم عِدَّةُ آباء" (1 قور 4، 15)؛ يجب على كلّ كاهن أو أسقف أن يضيف مثل الرسول: "أَنا الَّذي وَلَدَكُم بِالبِشارة، في المسيحِ يَسوع" (نفس المرجع). ويقول لأهل غلاطية: "يا بَنِيَّ، أَنتُمُ الَّذينَ أَتَمَخَّضُ بِهم مَرَّةً أُخْرى حتَّى يُصوَّرَ فيهمِ المسيح!" (4، 19).
أن يكون المرء أبًا يعني أن يقود الابن في تجربة الحياة، أي في الواقع. وهذا لا يعني كَبحه أو سَجنه أو امتِلاكه بل جَعله قادرًا على الاختيار، والحرّية، والانطلاق. ولهذا السبب ربّما قد أضاف التقليد إلى صفةِ الأب التي مُنِحَت ليسوف صفةَ "العفيف". وهذا ليس مجرّد مؤشّر عاطفي، إنما مُلَخّص تصرّف يعبّر عن عدم الامتلاك. العفّة هي التحرّر من التملّك في جميع مجالات الحياة. وحده الحبّ العفيف هو الحبّ الحقيقي. لأن الحبّ الذي يريد امتلاك الآخر يصبح دومًا خطيرًا في النهاية، ويسجن الآخر ويخنقه، ويجعله غير سعيدًا. أمّا الله فقد أحبّ الإنسانَ بمحبّة عفيفة، وتركه حرًّا حتى في ارتكاب الأخطاء وفي الوقوف ضدّه. إن منطق الحبّ هو دائمًا منطق حرّية، وقد عرف يوسف كيف يحبّ بطريقة حرّة تفوق المألوف. لم يضع نفسه في المحور أبدًا. بل عرف كيف يحوّل اهتمامه عن ذاته، فوضع مريم ويسوع في محور حياته.
لا تكمنُ سعادةُ يوسف في منطق التضحية بالذات، بل في منطق هبة الذات. ولا نلاحظ في هذا الرجل أبدًا أيّ إحباط، بل ثقة وحسب. أمّا صمته الدائم فلا يشير إلى الاستياء بل إلى عمل ثقةٍ ملموس على الدوام. إن العالم يحتاج إلى آباء، ويرفض المتسلّطين، أي الذين يريدون استملاك الآخر ليملأوا فراغهم؛ العالم يرفض الذين يخلطون بين السلطة والاستبداد، بين الخدمة والخنوع، بين المواجهة والقمع، بين المحبّة والتشجيع على الاتّكاليّة، بين القوّة والدمار. كلّ دعوة حقيقية تولد من عطيّة الذات، التي هي نضوج للتضحية البسيطة. ويُطلَب هذا النوع من النضج أيضًا في الكهنوت والحياة المكرّسة. عندما لا تبلغ الدعوةُ، سواء كانت إلى الزواج أو العزوبيّة أو البتوليّة، نضجَ هبة الذات، وتتوقّف فقط عند منطق التضحية، فبدلًا من أن تكون علامة على جمال الحبّ وفرحه، قد تعبّر عن التعاسة والحزن والإحباط.
إن الأبوّة التي لا تقع في تجربة "عيش" حياة الأبناء بدلًا عنهم، تفتح دائمًا مجالات غير مسبوقة. فإنّ كلّ ابن يأتي بسرّه الخاص الفريد ولا يمكن أن يظهر إلّا بمساعدة أب يحترم حرّيته، بمساعدة أب يدرك أنه يكمل عمله التربوي، وأنّه يعيش الأبوّة بشكل كامل فقط عندما يصبح "عديم الفائدة"، وعندما يرى أن ابنه أصبح مستقلًّا ويسير وحيدًا في دروب الحياة، وعندما يضع نفسه في موضع يوسف، الذي لطالما عرف أن ذلك الابن ليس ابنه، إنما عُهِدَ به إليه كي يرعاه. هذا هو ما اقترحه يسوع بشكل أساسيّ عندما قال: "لا تَدْعوا أَحدًا أَبًا لَكم في الأَرض، لأَنَّ لَكم أَبًا واحدًا هو الآبُ السَّماويّ" (متى 23، 9).
كلّ مرّة نمارس فيها الأبوّة، يجب أن نتذكّر دائمًا أنها ليست استملاكًا، بل "علامة" تشير إلى أبوّة أسمى. بمعنى ما، نحن جميعًا دائمًا في مقام يوسف: إننا ظلّ الآب السماوي الأوحد، الذي "يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار" (متى 5، 45)؛ وظلّ يتبع الابن.
قال الله للقدّيس يوسف: "قُم فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه" (متى 2، 13).
الغرض من هذه الرسالة الرسوليّة هو تنمية حبّنا لهذا القدّيس العظيم، حتى نطلب شفاعته ونتشبّه بفضائله واندفاعه.
في الواقع، إن مهمّة القدّيسين المحدّدة ليست القيام بالمعجزات ومنح النِعَم وحسب، بل التشفّع لنا أمام الله، كما فعل إبراهيم[26] وموسى[27]، وكما يفعل يسوع "الوَسيطَ الأوحد" (را. 1 طيم 2، 5)، هو "شَفيعٌ لَنا" عِندَ الآب (1 يو 2، 1)، "لأَنَّه حَيٌّ دائمًا أَبَدًا لِيَشفَعَ [لنا]" (عب 7، 25؛ را. روم 8، 34).
إن القدّيسين يساعدون المؤمنين "ليتّبعوا درب القداسة ويبلغوا كمالهم"[28]. وحياتهم هي الدليل الملموس لإمكانيّة عيش الإنجيل.
قال يسوع: "تَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب" (متى 11، 29)، وهم بدورهم مثال يجب الاقتداء به. وقد حذّر القدّيس بولس صراحةً: "أَحُثُّكم إِذًا أَن تَقتَدوا بي!" (1 قور 4، 16)[29]. وهذا ما يقوله القدّيس يوسف من خلال صمته البليغ.
أمام مثال العديد من القدّيسين والعديد من القدّيسات، سأل القدّيس أوغسطينوس نفسه: "هذا الذي صنعه هؤلاء الرجال وتلك النساء، ألا تستطيع أن تفعله أنت؟" وهكذا بَلَغ الارتداد النهائيّ قائلًا: "لقد أحببتك متأخّرًا، أيها الجمال القديم للغاية والحديث للغاية!"[30].
لم يبقَ لنا سوى التماس نِعمَة النِعَم من القدّيس يوسف: نعمة ارتدادنا.
نرفع إليه هذه الصلاة:
السلام عليكَ يا حامي المخلّص،
وخطّيبَ العذراء مريم.
لقد ائتمنك الله على ابنه؛
وبكَ وضعَت مريم ثقتها؛
ومعكَ صارَ يسوعُ رجلًا.
أيّها الطوباوي يوسف، كنْ أبًا لنا نحن أيضًا،
وأرشِدنا في درب الحياة.
التَمِسْ لنا النعمةَ والرحمةَ والشجاعةَ،
واحْمِنا من كلّ شرّ. آمين.
روما، قرب كاتدرائية القدّيس يوحنا اللاتيراني، 8 كانون الأوّل/ديسمبر، عيد الحبل بلا دنس، من سنة 2020، الثامنة من حبريّتي.
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2020
[1] لو 4، 22؛ يو 6، 42؛ را. متى 13، 55؛ مر 6، 3.
[2] مجمع الطقوس المقدّسة، كما صنع اللهQuemadmodum Deus (8 كانون الأول/ديسمبر 1970). أعمال الكرسي الرسولي (Acta Sanctae Sedis) 6 (1870- 1871)، 194.
[3] خطاب البابا إلى الجمعيات المسيحية للعمال الإيطاليين (ACLI) بمناسبة عيد القديس يوسف العامل (1 أيار/مايو 1955).أعمال الكرسي الرسولي 47 (1955)، 406.
[4] الإرشاد الرسولي حامي المخلّص Redemptoris custos (15 آب/أغسطس 1989): أعمال الكرسي الرسولي 82 (1990)، 5- 34.
[5] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1014.
[6] صلاة استثنائية في زمن الوباء (27 آذار/ مارس 2020). أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 31 آذار/ مارس 2020، ص. 5.
[7] عظة في إنجيل القديس متى، V، 3: الآباء اليونانيين 57، 58.
[8] عظة البابا (19 آذار/مارس 1966): تعاليم البابا بولس السادس، IV (1966)، ص. 110.
[9] را. كتاب الحياة، 6، 6- 8.
[10]منذ أكثر من أربعين عامًا، أتلو يوميًّا بعد صلاة الصباح، صلاةً للقدّيس يوسف، مأخوذة من كتاب صلاة فرنسي، من القرن التاسع عشر، أصدرته رهبنة يسوع ومريم. إنها صلاة تكريم للقدّيس يوسف وتعبّر عن ثقة كبيرة به: "أيها البطريرك العظيم، القدّيس يوسف، أنت الذي بقوّتك تجعل الأمورَ المستعصية ممكنة، ساعدني في لحظات الأسى والمصاعب هذه. خُذ في ظلّ حمايتك الظروف الخطيرة والصعبة التي أوكلها إليك، حتى تنتهي على خير. أبي الحبيب، إن ثقتي فيك كاملة. لا تسمح بأن يُقال إنّي لجأت إليك عبثًا. وبما أنك كلّي القدرة عند يسوع ومريم، أظهر لي أن عظمة صلاحك تساوي عظمة قوّتك. آمين".
[11] را. تث 4، 31؛ مز 69، 17؛ 78، 38؛ 86، 5؛ 111، 4؛ 116، 5؛ إر 31، 20.
[12] را. الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل Evangelii gaudium(24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013)، عدد 88، 288: أعمال الكرسي الرسولي 105 (2013)، ص. 1057؛ ص. 1136- 1137.
[13] را. تك 20، 3؛ 28، 12؛ 31، 11. 24؛ 40، 8؛ 41، 1- 32؛ عدد 12، 6؛ 1 صم 3، 3- 10؛ دا 2 و4؛ أي 33، 15.
[14] في هذه الحالة تنصّ الشريعة على حكم الإعدام رجمًا (را. تث 22، 20- 21).
[15] را. أح 12، 1- 8؛ خر 13، 2.
[16] را. متى 26، 39؛ مر 14، 36؛ لو 22، 42.
[17] القدّيس يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي حامي المخلّص Redemptoris custos (15 آب/أغسطس 1989): أعمال الكرسي الرسولي 82 (1990)، 14.
[18] عظة قداسة البابا فرنسيس خلال القداس الإلهي، فيلافيسينسيو-كولومبيا (8 أيلول/ سبتمبر 2017): أعمال الكرسي الرسولي 109 (2017)، 1061؛ أوسيرفاتوري رومانو باللغة الفرنسية، 14 أيلول/سبتمبر 2017، ص. 5.
[19] كتيّب في الإيمان والرجاء والمحبة، 3. 11: الآباء اللاتين 40، 236.
[20] را. تث 10، 19؛ خر 22، 20- 22؛ لو 10، 29- 37.
[21] را. مجمع الطقوس المقدّسة، كما صنع اللهQuemadmodum Deus (8 كانون الأول/ديسمبر 1970): أعمال الكرسي الرسولي (Acta Sanctae Sedis) 6 (1870- 1871)، 193. البابا بيوس التاسع. الطوباوي بيوس التاسع، الرسالة الرسولية البطريك العظيم Inclytum Patriarcham (7 تموز/يوليو 1871): نفس المرجع المذكور ص. 324- 327.
[22] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي نور الأمم Lumen gentium، 58.
[23] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 963- 970.
[24] الطبعة الأصلية ظل الآب Cień Ojcaوارسو، 1977.
[25] را. القدّيس يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي حامي المخلّص Redemptoris custos (15 آب/أغسطس 1989) 7- 8: أعمال الكرسي الرسولي 82 (1990)، 12- 16.
[26] را. تك 18، 23- 32.
[27] را. خر 17، 8- 13؛ 32، 30- 35.
[28] المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي نور الأمم Lumen gentium، 42.
[29] را. 1 قور 11، 1؛ فيل 3، 17؛ 1 تس 1، 6.
[30] اعترافات القدّيس أوغسطينوس، 8، 11، 27: الآباء اللاتين 32، 761؛ 10، 27، 38: الآباء اللاتين 32، 795.