تحت عنوان "ابسط يدك للفقير" (سيراخ ٧، ٣٢) صدرت ظهر السبت رسالة قداسة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي للفقراء ٢٠٢٠ الذي يُحتفل به هذا العام في الخامس عشر من تشرين الثاني نوفمبر المقبل. كتب البابا في رسالته: "ابسط يدك للفقير" (سيراخ ٧، ٣٢) لقد وضعت الحكمة القديمة هذه الكلمات كقاعدة مقدسة نتبعها في حياتنا. واليوم يتردّد صداها بكل ما تحمله من معاني لكي تساعدنا لكي نركّز نظرنا على الجوهري ونتخطّى حواجز اللامبالاة. يأخذ الفقر على الدوام أوجهًا عديدة تتطلّب اهتمامًا لكل حالة خاصّة: ويمكننا في كلٍّ من هذه الحالات أن نلتقي الرب يسوع الذي أظهر بأنّه حاضر في إخوته الأشدّ ضعفًا.
نأخذ بين أيدينا سفر يشوع ابن سيراخ، أحد كتب العهد القديم. نجد هنا كلمات معلّم حكمة عاش قبل مئتي سنة من المسيح. لقد كان يبحث عن الحكمة التي تجعل البشر أفضل وقادرين على تفحّص أحداث الحياة بعمق. لقد قام بذلك في مرحلة محنة قاسية لشعب إسرائيل، زمن ألم وحزن وبؤس بسبب تسلّط القوى الأجنبية. ولكونه رجل إيمان كبير متجذّر في تقاليد الآباء، توجّه فكره أولاً إلى الله لكي يطلب منه نعمة الحكمة، وجاء الرب لمساعدته. منذ الصفحات الأولى للكتاب، يعرض سفر يشوع ابن سيراخ مشورات حول العديد من أوضاع الحياة الملموسة والفقر هو أحدها. وهو يُصرّ على واقع أنّه حتى وفي خضم المصاعب، علينا أن نتحلّى بالثقة بالله: "أرشد قلبك واحتمل امل اذنك واقبل اقوال العقل ولا تعجل وقت النوائب؛ انتظر بصبر ما تنتظره من الله، لازمه ولا ترتدّ لكي تزداد حياة في أواخرك؛ مهما نابك فاقبله وكن صابرا على صروف اتضاعك؛ فان الذهب يُمَحَّص في النار والمرضيين من الناس يُمَحَّصون في أتون الاتضاع؛ آمن به فينصرك، قوِّم طُرُقك وارجو به. أيها المتقون للرب انتظروا رحمته ولا تحيدوا لئلا تسقطوا" (٢، ٢- ٧).
صفحة بعد صفحة نكتشف دليل اقتراحات ثمين حول أسلوب التصرّف في ضوء علاقة حميمة مع الله الخالق والمحب للخليقة، العادل والمثابر تجاه جميع أبنائه. ومع ذلك هذه الإشارة المستمرة إلى الله، لا تمنعنا من النظر إلى الإنسان الملموس، بل على العكس، لأنّ الأمران مرتبطان بشكل وثيق. ويتجلى ذلك بوضوح في المقطع الذي أُخذ منه عنوان رسالة هذا العام. إنَّ الصلاة إلى الله والتضامن مع الفقراء والمتألّمين هما أمران لا ينفصلان. وبالتالي للقيام بعمل عبادة مقبول لدى الرب، من الضروري أن نعترف أن كل شخص، حتى الأكثر فقرًا وازدراء، يحمل صورة الله مطبوعة في داخله. من هذا التنبُّه تأتي عطيّة البركة الإلهية التي يجذبها السخاء المعاش تجاه الفقير. وبالتالي لا يمكن للوقت المكرّس للصلاة أن يصبح أبدًا حجّة لكي نهمل القريب الذي يعيش في صعوبة. بل العكس صحيح إن بركة الله تنزل علينا وتبلغ الصلاة هدفها عندما تترافقان بخدمة الفقراء.
كم هو آني بالنسبة لنا نحن أيضًا هذا التعليم القديم! إن كلمة الله في الواقع تتخطّى الزمان والمكان، الديانات والثقافات. إن السخاء الذي يعضد الضعيف ويعزّي الحزين ويخفف الآلام ويعيد الكرامة لمن حُرم منها، هو الشرط لحياة بشريّة كاملة. إن خيار تكريس الاهتمام للفقراء ولاحتياجاتهم المتعدّدة مشروطًا بالوقت الذي لدينا أو بمصالحنا الخاصة ولا بمشاريع راعوية أو اجتماعية نظريّة. لا يمكننا أن نخنق قوّة نعمة الله من أجل النزعة النرجسية بأن نضع أنفسنا على الدوام في المركز الأول. أن نحافظ على نظرنا موجّه إلى الفقراء هو صعب ولكنّه ضروري لكي نطبع الاتجاه الصحيح في حياتنا الشخصية والاجتماعية. لا يتعلّق الأمر بأن نُكثر الكلام وإنما بأن نُلزم حياتنا بشكل ملموس تحرّكنا المحبة الإلهية. مع اليوم العالمي للفقراء أعود سنويًّا إلى هذا الواقع الأساسي لحياة الكنيسة لأن الفقراء هم وسيكونون على الدوام معنا ليساعدونا على قبول رفقة المسيح في حياتنا اليومية.
إنَّ اللقاء مع شخص فقير يحثُّنا ويُسائلنا على الدوام. كيف يمكننا أن نساهم في إزالة أو أقله في التخفيف من تهميشه وألمه؟ كيف يمكننا أن نساعده في فقره الروحي؟ إن الجماعة المسيحية مدعوة لكي تلتزم في خبرة المشاركة هذه مدركة أنّه لا يحقُّ لها أن تفوِّضها لآخرين. ولكي ندعم الفقراء من الجوهري أن نعيش الفقر الإنجيلي بدورنا. لا يمكننا أن نشعر بأننا "بخير" عندما يُترك أحد أفراد الأسرة البشرية خلفًا ويُصبح ظلاً. على الصرخة الصامتة للعديد من الفقراء أن تجد شعب الله دائمُا وفي كلِّ مكان، في الصف الأول، لكي يعطيهم صوته ويدافع عنهم ويتضامن معهم إزاء الكثير من الرياء والعديد من الوعود التي يتمُّ تجاهلها ولكي يدعوهم إلى المشاركة في حياة الجماعة. صحيح أنّ الكنيسة لا تملك حلولاً شاملة تقدّمها ولكنّها وبفضل نعمة المسيح تقدّم شهادتها وتصرّفات مشاركة، كذلك هي تشعر أنه من واجبها أن تقدّم مطالب الذين لا يملكون الضروري للعيش. أن نذكّر الجميع بقيمة الخير المشترك الكبيرة هو بالنسبة للشعب المسيحي التزام حياة يتحقق في محاولة عدم نسيان الذين تُنتهك بشريّتهم في احتياجاتهم الأساسيّة.
أن نبسُطَ يدنا للآخرين يجعلنا نكتشف قبل شيء أننا نملك في داخلنا القدرة على القيام بتصرفات تعطي معنى للحياة. كم من الأيادي الممدودة نراها يوميًّا! غالبًا ما تقودنا السرعة للأسف إلى دوّامة لامبالاة لدرجة أننا نفقد القدرة على رؤية الخير الذي يتمُّ في الصمت وبسخاء كبير. ولكن عندما تحصل أحداث تقلب مسيرة حياتنا تصبح أعيننا قادرة على رؤية صلاح القديسين "الذين يعيشون بقربنا وهم انعكاس لحضور الله" (الإرشاد الرسولي "إفرحوا وابتهجوا"، عدد ٧)، والذين لا يتحدّث أحد عنهم. إن الأخبار السيئة تنتشر بوفرة على صفحات الصحف ومواقع الانترنت وشاشات التلفزيون لدرجة قد تجعلنا نعتقد بأن الشر هو الذي يسيطر، لكن الأمر ليس هكذا. إن الشر والعنف موجودان بالتأكيد وكذلك الاستغلال والفساد ولكن الحياة منسوجة بأفعال احترام وسخاء لا تعوِّض عن الشرّ فحسب بل تدفعنا للذهاب أبعد ونكون مفعمين بالرجاء.
أن نبسُطَ يدنا للآخرين هو علامة، علامة تذكّر فورًا بالقرب والتضامن والمحبّة. خلال هذه الأشهر التي كان يسيطر فيها على العالم بأسره فيروس حمل الألم والموت القلق والضياع رأينا العديد من الأيادي الممدودة. اليد الممدودة للطبيب الذي يقلق على كل مريض ويسعى لإيجاد العلاج الملائم له. اليد الممدودة للممرضات والممرضين الذين، وبالإضافة إلى ساعات العمل، يبقون للاعتناء بالمرضى. اليد الممدودة للذين يعملون في الإدارة ويؤمنون الوسائل لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح. اليد الممدودة للصيدلي الذي يجيب على العديد من الطلبات في تواصل مع الناس يعرّض حياته للخطر. اليد الممدودة للكاهن الذي يبارك وقلبه يحترق حسرة. اليد الممدودة للمتطوّع الذي ينقذ الذين يعيشون على الطريق والذين بالرغم من أنّهم لديهم سقف ليس لديهم ما يأكلونه. اليد الممدودة للعديد من الرجال والنساء الذين يعملون لكي يقدّموا الخدمات الأساسية والأمان. وأياد ممدودة أخرى يمكننا أن نصفها لكي نكوِّن سلسلة من الأعمال الخيرية. جميع هذه الأيادي قد تحدّت العدوى والخوف لكي تمنح العضد والتعزية.
وصل هذا الوباء بغتة وفاجأنا تاركًا معنى كبيرًا من الاضطراب والعجز. لكنَّ اليد الممدودة للفقير لم تصل بشكل ارتجالي. بل هي تقدم الشهادة حول كيفية الاستعداد للتعرُّف على الفقير لكي نعضده عند الحاجة. لا يمكننا أن نرتجل أدوات الرحمة، بل نحن بحاجة لتمرين يومي ينطلق من إدراكنا لمدى حاجتنا نحن أولاً ليد تمتد إلينا. إن هذه المرحلة التي نعيشها قد سببت أمة للعديد من ضماناتنا. نشعر أننا أكثر فقرًا وضعفًا لأننا اختبرنا حس المحدودية والحدّ من الحريّة. إن فقدان العمل وأغلى المشاعر، بالإضافة إلى النقص في العلاقات الشخصية الاعتيادية، جميع هذه الأمور قد شرّعت آفاقًا لم نكن معتادين على رؤيتها. كذلك وضعنا موضع الشك غنانا الروحي والمادي واكتشفنا بأننا نشعر بالخوف؛ وإذ انغلقنا في منازلنا اكتشفنا مجدّدًا مدى أهمية البساطة والتركيز على الجوهري.
لقد نضجت لدينا الحاجة لأخوّة جديدة قادرة على المساعدة والاحترام المتبادلين. إنه الوقت الملائم لكي "نشعر مجدّدًا أننا بحاجة بعضنا إلى بعض، وأنَّ لدينا مسؤولية تجاه الآخرين وتجاه العالم... لقد عرفنا التدهور الأخلاقي لمدة طويلة، واستهزئنا بالأخلاقيات، وبالصلاح، وبالإيمان، وبالصدق... إن هذا التدمير لكل أساس للحياة الاجتماعية سوف يدفعنا للوقوف كل منّا ضد الآخر من أجل الدفاع عن المصالح الشخصية، ويتسبب بظهور أنواع جديدة من العنف ومن الوحشية، ويمنع نمو ثقافة حقيقية لحماية البيئة" (الرسالة العامة "كُن مسبّحًا"، عدد ۲۲٩). وبالتالي فالأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية الخطيرة لن تتوقف طالما أن نسمح بأن تبقى في إسبات المسؤولية التي ينبغي على كل فرد منا أن يشعر بها تجاه القريب وتجاه كلِّ شخص.
"أُبسط يدك للفقير" هي إذًا دعوة إلى المسؤولية كالتزام مباشر لكل من يشعر بانه يشارك في المصير نفسه. إنه تحفيز لكي نحمل أثقال الأشد ضعفًا كما يذكّر القديس بولس: "بِفَضلِ المَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكم بَعضًا، لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: "أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ"...لِيَحمِلْ بَعضُكم أَثْقالَ بَعض" (غلاطية ٥، ١٣- ١٤؛ ٦، ۲). يعلّمنا الرسول أنَّ الحريّة التي أُعطيت لنا بموت وقيامة يسوع المسيح هي لكلِّ فرد منا مسؤولية لكي نضع أنفسنا في خدمة الآخرين ولاسيما الأشدّ ضعفًا. إن الأمر لا يتعلّق بطلب اختياري وإنما بشرط لحقيقة الإيمان الذي نُعلنه.
يعود سفر يشوع ابن سيراخ إلى مساعدتنا ويقترح أعمالاً ملموسة لمساعدة الأشدّ ضعفًا ويستعمل بعض الصور المعبِّرة. اخذ أولاً بعين الاعتبار ضعف الحزانى: "لاَ تَتَوَارَ عَنِ البَاكِينَ". إن مرحلة الوباء قد أجبرتنا على عيش عزل قسريّ ومنعتنا حتى من أن نعزّي ونكون بقرب الأصدقاء والمعارف المحزونين بسبب فقدان أحبائهم. ويؤكِّد الكاتب أيضًا: "لاَ تَتَقَاعَد عَن عِيَادَةِ المَرضَى". لقد اختبرنا استحالة أن نكون بقرب من يتألّم وفي الوقت عينه فقدنا إدراكنا لهشاشة حياتنا. وبالتالي فكلمة الله لا تتركنا أبدًا هامدين ولا تتوقف أبدًا عن تحفيزنا على الخير.
"ابسط يدك للفقير". هذه العبارة تسلط الضوء على التناقض القائم مع الذين يضعون يدهم في جيبهم، ولا يتأثرون بتاتا أمام أوضاع الفقر، والذين هم غالباً متواطئون في التسبب به. اللامبالاة والتهكّم هما خبزهم اليومي. والفرق شاسع مع الأيادي السخية التي وصفناها. هناك أياد مبسوطة لتعمل على لوحة المفاتيح الخاصة بالحاسوب، من أجل نقل مبالغ من المال من منطقة إلى أخرى. وهكذا تقرر نمو الثروات التي تتمتع بها الأقلية الحاكمة، والبؤس الذي يعاني منه كثيرون، وصولا إلى إفلاس دول برمتها. هناك أيادٍ مبسوطة لتجمع المال من خلال بيع أسلحة تستخدمها أيادٍ أخرى، حتى الأطفال، لتزرع الموت والفقر. هناك أياد مبسوطة في الظلّ لتوزع جرعات من الموت، كي تغتني وتعيش في الإسراف والبذخ الدنيء.
هناك أياد مبسوطة في الخفاء، تتبادل خدمات غير مشروعة بهدف الأرباح السهلة والفاسدة. وهناك أياد مبسوطة تدّعي صنع الخير، وتسن قوانين لا تتقيّد بها. في هذا السياق "يستمرُّ المقصيون في الانتظار. لمساندة نمط حياة يقصي الآخرين، أو لدعم الحماس لهذا المثال الأناني، طوِّرت عولمة اللامبالاة. وبدون أن نتنبّه لذلك، نصبح غير قادرين على الشعور بالشفقة أمام صرخة ألم الآخرين، ولا نبكي أمام مأساة الآخرين؛ ولا تهمنا العناية بهم، كما لو أن كل شيء هو مسؤولية غريبة عنا وليست من اختصاصنا" (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، ٥٤). لا يمكننا أن ننعم بالسرور إن لم تتحول هذه الأيادي التي تزرع الموت إلى أدوات للعدالة والسلام من أجل العالم كله.
"فِي جَمِيعِ أَعْمَالِكَ، اذْكُرْ أَوَاخِرَكَ". بهذه العبارة يُنهي سيراخ تأمله. ويحمل النص تأويلَين. أولا إنه يُظهر أننا نحتاج لأن نتذكّر حياتنا دوما. أن نتذكّر المصير المشترك يساعدنا على عيش حياة مطبوعة بالاهتمام حيال الفقير ومن يفتقر إلى الإمكانات التي نتمتع بها. وثمة تأويل آخر، يسلط الضوء على الآخرة، الهدف الذي نسير نحوه جميعا. إنها آخرة حياتنا التي تتطلب منا أن نحقق مشروعاً ما، وأن نُنجز مسيرة دون أن نتعب. إن غاية كل عمل نقوم به يجب أن تكون المحبة. هذا هو الهدف الذي نسير باتجاهه، ويجب ألا يبعدنا شيء عنه. هذه المحبة هي مقاسمة، وتفان وخدمة، وتبدأ من اكتشافنا أننا محبوبون، وهكذا ندرك المحبة. هذه الغاية تَظهر عندما يرى طفل ابتسامة أمه، ويشعر بأنه محبوب لمجرد أنه موجود. إن الابتسامة التي نتقاسمها مع الفقير هي أيضا ينبوع للمحبة وتسمح بالعيش بفرح. إن اليد المبسوطة يمكنها أن تغتني من الابتسامة التي لا تُلقي بثقلها على الآخرين، ومن المساعدة التي تقدمها، لكنها تفرح فقط بالعيش على غرار تلاميذ المسيح.
في مسيرة لقائنا اليومي مع الفقراء ترافقنا والدة الله، التي هي أم الفقراء أكثر من أي أمّ أخرى. العذراء مريم تعرف عن كثب صعوبات وآلام الأشخاص المهمشين لأنها ولدت ابن الله في اسطبل. وقد هربت مع خطيبها يوسف والطفل يسوع إلى بلد آخر، بسبب تهديد الملك هيرودس. وظروف اللجوء طبعت حياة العائلة المقدسة لبضع سنوات. لتجمع الصلاة إلى والدة الفقراء أبناءها هؤلاء المفضلين، وجميع من يخدمونهم باسم المسيح. ولتحوّل الصلاةُ اليدَ المبسوطة إلى عناقٍ من المقاسمة والأخوّة المستعادة.
إذاعة الفاتيكان