نحتفل بالأحد الثاني من الزمن الفصحيّ، والمُسمى أيضًا بأحد "الرَّحمة الإلهيَّة". كم هو رائع واقع الإيمان هذا في حياتنا: رحمة الله! فمحبَّة الله هي هكذا عظيمة، وهكذا عميقة تجاهنا، محبَّة لا تَنقُص، محبَّة ترافقنا يدًا بيد، وتؤازرنا، وتُنهضنا، وترشدنا.
في إنجيل يوحنّا (20/ 26 - 31)، يختبر القدِّيس توما حقيقة الرَّحمة الإلهيَّة، تلك الرَّحمة التي لها وجه ملموس، وجه يسوع، يسوع القائم من بين الأموات. لم يشأ توما أن يصدق ما قالها له التلاميذ: "لقد رأينا الربّ"؛ لم يعد يكفيه وعد يسوع، الذي سبق ونطق به: سأقوم في اليوم الثالث. أراد أن يرى، أراد أن يضع يده في أَثَر المسامير وفي الجنب. فكيف كانت ردة فعل يسوع؟ الصبر: فيسوع لم يُهمل توما العنيد في عدم إيمانه؛ يعطيه أسبوعا من الوقت، لا يغلق أمامه الباب، ينتظر. فيتعرف توما على فقره، وعلى قلّة إيمانه. "ربِّي وإلهي": بهذه الصيحة البسيطة والمفعمة بالإيمان هي جوابه على صبر يسوع. لقد ترك نفسه لتغمره الرَّحمة الإلهيَّة، لقد رآها ماثلة أمامه، في جراح اليدين والرِّجلين والجنب المفتوح، فيسترد يقينه: أصبح إنسانًا جديدًا، ليس بعد غير مؤمن، بل مؤمنا.
دعونا نتذكر أيضًا بطرس (لو 22 / 61): لقد أنكر يسوع ثلاث مرَّات، في الوقت الذي كان يجب عليه أن يظلّ قريبًا منه؛ فعندما لمس القاع، هناك التقى بنظرة يسوع التي، بصبر، وبدون كلام قالت له: "يا بطرس، لا تخف من ضعفك، ثق فيَّ"؛ وهنا يفهم بطرس، ويشعر بنظرة محبَّة يسوع ويبكي. كم هي رائعة نظرة يسوع هذه – وكم مفعمة بالعطف! إخوتي وأخواتي دعونا ألا نفقد أبدًا الثقة في رحمة الله الحليمة!.
لنتذكّر لتلميذيّ عمَّاوس (لو 24/ 13-35): أصحاب الوجه الحزين، والخطى الفارغة، بلا رجاء. لكن يسوع لا يهملهما: يسير معهما على الطريق، وليس وحيدًا! وبصبر يفسّر لهما الكُتب المقدَّسة وكلّ ما قيل عنه فيها ويتوقّف ليتقاسم معهما الأكل. هذا هو أسلوب الله: فهو لا يفقد صبره كما نفعل نحن، راغبين في الحصول كلَّ شيء سريعًا، حتى مع الأشخاص. إنّ الله صبور معنا لأنَّه يحبُّنا، ومن يُحبُّ يتفهَّم، يرجو، يثق، ولا يهمل، ولا يقطع الجسور، ويعرف أن يغفر. دعونا نتذكر هذا في حياتنا كمسيحيِّين: الله ينتظرنا دائمًا، حتى عندما نبتعد عنه! فهو قريب دائمًا، وإن عدنا إليه فهو دائمًا مستعدٌّ لاحتضاننا.
إن قراءةُ مَثَل الأب الرَّحيم (لو 15/ 11- 32) تترك فيَّ دائما تأثيرًا كبيرًا، تؤثّر فيَّ لأنَّها تمنحني دائمًا رجاءً كبيرًا. فكّروا في ذاك الابن الأصغر الذي كان يحيا في بيت الأب، كان محبوبا؛ وبرغم ذلك أراد نصيبه من الميراث؛ يذهب بعيدًا، وينفق كلّ شيء، فيصل إلى الحدّ الأقصى في البُعد عن أبيه؛ وعندما لمس القاع، شعر بالحنين لدفء البيت الأبويّ وقرَّر العودة. والأب؟ هل كان قد نسيَّ الابن؟ لا، مطلقًا. كان هناك، يراه من بعيد، كان ينتظره كلّ يوم، وكلّ لحظة: فقد بقي دائمًا في قلبه كابنٍ، حتى وإن كان قد تركه، حتى وإن كان قد بدّد كلَّ ميراثه، أي حريته؛ إن الأب لم يتوقّف للحظة في التفكير به، بصبر وبمحبَّة، برجاء وبرحمة، وعندما لمحه من بعيد ركض نحوه للقائه وعانقه بعطف، عطف الله، ولم يقل له حتى كلمة عتاب: إنّه عاد! إن هذه هي فرحة الأب. ففي عناق الابن هذا توجد كلّ فرحته: لقد عاد! فالله ينتظرنا دائمًا، ولا يتعب أبدًا. لقد أظهر لنا يسوع أناة الله الرَّحيمة هذه لكي نستعيد دائمًا الثقة، والرَّجاء. كان اللاهوتيّ الألمانيّ الكبير روماني جوارديني يقول: إنَّ الله يردُّ على ضعفنا بالصبر وفي هذا يكمن سبب ثقتنا، ورجائنا (Glaubenserkenntnis, Würzburg 1949, p. 28). إنّه كحوار بين ضعفنا وصبر الله، هو حوار، إن قمنا به، يمنحنا رجاءً.
أودُّ التوقف عند عنصر آخر: إن صبر الله يجب أن يجد فينا شجاعة العودة إليه، مهما كان الذنب، ومهما كانت الخطيئة المرتكبة في حياتنا. لقد دعا يسوع توما لأن يضع يدًا في جراح يديه ورجليه وفي طعنة جنبه. نحن أيضا بإمكاننا الدخول في جراح يسوع، يمكننا لمسه واقعيًا؛ إن هذا ما يحدث فعلينا في كلّ مرَّة ننال الأسرار بإيمان. يقول القدِّيس برناردو في عظة جميلة: "من خلال... جراح [يسوع] يمكنني أن أملج مِنَ الصَّخرِ عَسَلاً، ومِن صَوَّانِ الجُلْمودِ زَيتًا (تث 32، 13)، أي أن أتذوق وأختبر أن ما أطيب وما أجمل الرّب" (نشيد الأناشيد 61، 4). إنَّنا بالحقيقة فقط في جراح يسوع نصبح في أمان، لأنَّه هناك تتجلى محبَّة قلبه العظيمة. لقد فهمه توما. وتساءل القدِّيس برناردو: ولكن على أي شيء يمكنني الاعتماد؟ على استحقاقاتي؟ ولكن "استحقاقي هو رحمة الله. حتمًا لن اصبح محتاجًا لاستحقاقات طالما هو غنيّ بالرَّحمة. فكلَّما زادت مراحمه كلَّما فاضت استحقاقاتي" (ن.م، 5). إنَّ هذا مهمّ: شجاعة الاستسلام لرحمة يسوع، والثقة في طول أناته، والهروب دائمًا في حمى جراح محبَّته. لقد وصل القدِّيس برناردو لتأكيد: "ماذا أقول لضميري عندما يوبّخني على خطاياي الكثيرة؟ "حَيثُ كَثُرَتِ الخَطيئَةُ فاضَتِ النِّعمَة (رو 5، 20)" (ن.م).
قد يفكّر أحدٌ منّا قائلا: إنَّ خطيئتي هكذا عظيمة، وبُعدي عن الله كبعد الابن الأصغر في المثال الإنجيليّ، وعدم إيماني مماثل لشكِّ توما؛ ليس لدي شجاعة الرُّجوع، أو التفكير في أن الله يمكنه أن يقبلني أو أنّه ينتظرني أنا بالذات. ولكن الله ينتظرك أنت بالذات، ويطلب منك فقط شجاعة الذهاب إليه. فكم من مرَّة سمعت، في خدمتي الرعويَّة: "يا أبتي، أخطئتُ كثيرًا"؛ والدعوة التي قدمتُها دائمًا هي: "لا تخف، إذهب له، إنه ينتظرك، وسيقوم هو بكلِّ شيء". كم من العُروضِ الزمنيَّة التي نسمعها حولنا، لكن دعونا نسمح لعَرض الله من أن يلامسنا، فهذا العرض هو لمسة محبَّة. فبالنسبة إلى الله نحن لسنا مجرَّد أرقام، بل أنَّنا مهمُّون، بل أنَّنا أهمُّ شيء بالنسبة إليه؛ حتى وإن كنّا خطأة، فنحن أعزّ ما في قلبه.
لقد شعر آدم بعد الخطيئة بالعار، بأنَّه عريان، وشعر بثقل ما فعله؛ لكنَّ الله لم يتركه: وإن كان قد بدأ في تلك اللَّحظة الابتعاد عن الله بسبب الخطيئة، فقد وجد أيضا الوعد بالعودة، أي إمكانيَّة الرجوع له. فقد سأله الله مباشرة: "آدم، أين أنت؟"، كان يبحث عنه. لقد تعرّى يسوع من أجلنا، لقد حمل على ذاته عار آدم، وتعرّي خطيئته ليغسل خطيئتنا: إنّنا بجراحه شفينا. تذكَّروا كلمات القدِّيس بولس: بماذا يمكنني أن أفتخر سوى بضعفي، وبفقري؟ في الإحساس حقًا بخطيئتي، وبالنظر إلى خطيئتي يمكنني أن أرى وأتقابل مع رحمة الله، ومع محبَّته والذهاب له للحصول على المغفرة.
لقد رأيتُ في حياتي الشخصيَّة لمرَّات عديدة وجه الله الرَّحيم، وصبرَه: رأيتُ في أشخاص كُثر شجاعةَ الدخول في جراح يسوع وقول: يا ربّ إنّي هنا، فاقبل فقري، واخفِ في جراحك خطيئتي، واغسله بدمك. ورأيت دائمًا أنَّ الله قد فعل، قد استجاب، وعزّى وغسل وأحبَّ.
دعونا نترك رحمة الله لتغمرنا: واثقين من طولِ أناة التي تمنحنا كلّ الوقت؛ دعونا نتحلّى بشجاعة الرُّجوع لبيته، والسَّكن في جراح محبَّته، لنترك أنفسنا لمحبَّته، واللقاء برحمته في الأسرار المقدَّسة. سنشعر بعطفه، الذي ما أروعه، وسنشعر بعناقه وعندئذ سنصبح، نحن أيضًا، أكثر قدرة لتقديم الرَّحمة، والصبر، والمغفرة، والمحبَّة.
البابا فرنسيس -2013
موقع الكرسي الرسولي.