إنّ سرّ الإفخارستيّة هو التّعبير الأسمى الذي من خلاله يعبّر المسيح عن رسالة حياته: بذل الذّات حتّى النهاية.
تقول الكنيسة، في النصوص القانونيّة (المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ): إنّ الإفخارستيّة هي مصدر وقمّة الحياة المسيحيّة. هي المصدر الذي ينهل منه المسيحيّ ليعيش حياته على خُطى المسيح؛ هي القمّة التي يصبو إليها: الاتّحاد الكامل بالله.
ما يُثير الدّهشة، هو أنّ يوحنّا الرَّسول، الذي كان خلال العشاء الأخير "جالسًا بقربه" (يوحنا 13 /23)، هو الوحيد من بين الإنجيليّين الذي لم يتكلّم عن سرّ الإفخارستيّة. كيف يمكننا فهم ذلك؟ نفهمه من خلال نص "يسوع خبز الحياة" الذي نجده فقط في إنجيل يوحنا (يوحنا 6: 51 – 58).
نحن مدعوّون لتكملة تأمّلنا في هذا السرّ الجميل والغامض. لذلك يصيغ اليهود السؤال التالي: "كيفَ يَقدِرُ هذا الرَّجُلُ أنْ يُعطِيَنا جسَدَهُ لِنأكُلَه؟"
أمام هذا التعجّب لم يُخفـِّف يسوع لهجته. بل على العكس، يصرّ على حقيقة ما قاله سابقـًا: "الخبز الذي أُعطيه هو جسدي أبذله من أجل حياة العالم". ويُضيف: "الحقّ الحقّ أقول لكم إن كنتم لا تأكلون جسد ابن الإنسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة... جسدي هو القوت الحقيقيّ، ودمي هو الشّراب الحقيقيّ".
نستطيع أن نفهم إنسانيًّا كيف أنّ الله يُريد إطعام شعبه، كما تُطعم المرأة الحامل جنينها من ذاتها، من جسدها ودمها. لا يستطيع الجنين أبدًا أن ينمو ويولد دون هذا الاتّصال الأساسيّ وهذا الغذاء الذي لا يتوقـَّف. لكن ثمّة أمرٌ أعمق من ذلك؛ فقبل انتقاله من هذا العالم، قال يسوع: "اشتهيت شهوة ليس فقط أن آكل الفصح معكم، ولكن أن أُعطيَ ذاتي كليًّا (جسدي ودمي) كلّ يوم من أجلكم جميعًا".
يستعمل يسوع لحظة انتقاله من هذا العالم، لغة العشّاق الذين تسكنهم الرَّغبة في الذوبان الواحد في الآخر، لكي لا يُفارق بعضهما بعضًا أبدًا، وليصبحا جسدًا واحدًا ودمًا واحدًا (تكوين 2: 24). عندما نحبّ، هل نستطيع أن نُعطي الآخر أجمل وأثمن من ذاتنا، جسدنا ودمنا؟ يقول جبران خليل جبران: "المحبّة لا تُعطي إلاّ ذاتها، ولا تأخذ إلّا من ذاتها".
اهتمّ الله في العهد القديم بشعبه المختار في الصَّحراء. كان يُعطيهم المنّ يوميًّا، ليُساعدهم على اجتياز الصَّحراء. ولكن، بالرّغم من ذلك مات آباءهم. ولكن مع الغذاء الذي يُعطينا إيّاه يسوع اليوم، يقول لنا: تكون لكم الحياة الأبديّة، وتجتازون صحراء حياتكم لتصلوا إلى الحالة والمكان الذي أكون فيكم وتكونون فيّ للأبد.
لكن لماذا نتصرّف بلامبالاة أمام سرّ الحبّ الذي يُعطى كاملًا للذين يريدونه كلّ يوم؟ لماذا لم يعُد تناول جسد المحبوب ودمه والاتّحاد بهما أساسيًّين في حياتنا كمؤمنين؟ لماذا أصبحت كنائسنا فارغة؟
أسمع المسيح يسألنا: هل أقدر أن أفعل أكثر أو أفضل لأعبّر لكم، يا شعبي، عن رغبتي في أن أكون فيكم وتكونون فيّ؟
من غير السَّهل علينا أن نفهم، أنّ الله يُحبّنا لدرجة أنّه يريد أن يعطينا جسده ليأكله محبوبه، وأنّه يسعى إلى أن يذوب فينا ونذوب فيه. لنستمع إخوتي بآذان جديدة وقلب منفتحٍ بتواضع، صرخة الحبّ هذه التي يُرسلها الله من خلال ابنه يسوع: "أنا خبز الحياة النازل من السماء؛ من أكل هذا الخبز يحيا للأبد؛ يثبت فيّ وأنا أثبت فيه". ومع منشد المزمور "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرَّبّ". ومع القدّيس بولس في رسالته إلى أهل أفسس 5: 20: "إحمدوا الله الربّ حمدًا دائمًا على كلّ شيء".
الأب هانس بوتمان اليسوعي.