خطاياها الكثيرة مغفورة لأنّها أحبّت كثيرًا

متفرقات

خطاياها الكثيرة مغفورة لأنّها أحبّت كثيرًا

 

 

 

 

موضوع هذا الأحد، هو التوبة كفعل حبٍّ في جوهرها. ولنا النموذج في تصرّف المرأة الخاطئة (لوقا 7: 36-50) التي قصدت يسوع في بيت سمعان الفرّيسي وأعربت عن توبتها بفعل حبّ طاهر ونقيّ لشخص يسوع. فكان إعلان الرَّبّ: "خطاياها الكثيرة مغفورة لأنّها أحبّت كثيرًا" (لو7: 47). ثمّ منحها الغفران بقوله: "مغفورة لك خطاياك" (الآية 48).

 

 

 

1. يسوع يلبّي دعوة سمعان الفرّيسي، لا حبًّا بالوليمة، بل لكي تؤتي الزيارة ثمارها. فيسوع يريد أن يلتقي كلّ إنسان، ولاسيّما الفرّيسيّين المتشدّدين والرافضين لشخصه ولتعليمه. لم يذهب إلى بيت سمعان بأفكار مسبقة، وبالحكم على نوايا الفرّيسي، بل ذهب بنواياه الشَّخصيّة المُحبّة، التي تحترم كلّ إنسان، وتبحث عن خلاصه. في الواقع، حدثَ ما لم يكنْ في الحسبان، وهو مجيء المرأة الخاطئة، وإعلان توبتها في الأفعال. وكان تعليم يسوع أنّ التوبة فعلُ حبٍّ كبير لله، وكانت ممارسته أمام الجمع الحاضر لسلطانه الإلهيّ على مغفرة الخطايا.

 

 

هذه الحادثة تعلّمنا أهميّة اللقاء المُحبّ والمنفتح وسليم النوايا مع أيّ شخص. فغالبًا ما نتجنّب لقاءات، ضنًّا منّا بالوقت والانشغال والراحة. ذلك أنّنا نقيس الأمور اعتياديًّا على نظرتنا وأفكارنا المسبقة.

 

 

 

2. "أتت المرأة الخاطئة المعروفة في المدينة حاملة قارورة طيب" (الآية 37).

شجاعتها وندامتها وحبّها للمسيح، كلّها مجتمعةً قادتها إلى بيت سمعان أمام المسيح. خطاياها الكثيرة لم تتمكّن من منعها من الاقتراب بإيمانٍ من يسوع الذي رأت فيه الخلاص والرّحمة. ما يعني أنّ شعلة الإيمان، وهو عطيّة مجّانية من الله لكلّ إنسان، لم تنطفئ في قلبها بالرّغم من تراكم خطاياها. هذا الإيمان-الثقة بيسوع هو في جوهره فعل حبّ كبير لشخصه. لم تخف ممّا سيكون حكم الفرّيسي والمدعوّين عليها. وهي تعلم أنّهم في مجملهم مذنبون. فلنتذكّر حادثة المرأة المأخوذة بفعل زنى، وكيف اقتادوها إلى يسوع ليلفظ معهم الحكم برجمها، كما تقتضي الشّريعة. وإذ لم يتواجد أحد من دون مثل هذه الخطيئة، غفر لها يسوع خطيئتها، ودعاها بنعمته إلى عدم الرّجوع إليها (يوحنا 8: 1-11).

 

 

 

الطِّيب هو من العادات اليهوديّة لإكرام الضّيف. ففي البيئة الصحراويّة، يصل الضّيف إلى المنزل، بعد مسيرة في حرّ النهار، يتصبّب عرقًا، فيعمد المضيف إلى تلطيف الأجواء بأن يصبّ على رأس ضيفه بعض قطرات من العطر. تصرّفت هذه المرأة وكأنّ يسوع هو ضيفها هي. لقد فتحت قلبها واستقبلته فيه. أدخلت المخلّص إلى خاصيّتها.

 

 

من الضروريّ أن يهتمّ المؤمن بإكرام الربّ يسوع أينما التقاه. علينا بشكلٍ خاصّ إكرام الرَّبّ في الكنيسة، فنتصرّف فيها كما في استقبالنا لأهمّ الضيوف في بيتنا. كما يمكننا أن نسكب العطر على يسوع من خلال تقديم الزهور للكنيسة أو تقديم البخور في الاحتفالات الليتورجيّة.

 

 

3. "وقفت المرأة باكية وراء يسوع، عند قدمَيه" (الآية 38). هذه هي ثمار الخطيئة. توهّم الإنسان بسعادة زائفة. إلّا أنّها لا تُخلّف سوى الحسرة والدّموع والفراغ. بل والخجل والخزي. فها المرأة لم تجرؤ على الوقوف إلاّ وراء يسوع. تتخفّى عن العيون التي تراقبها. عيون أناس ربّما استغلّوها ثمّ نبذوها.

 

 

اختارت يسوع لأنّه لا يغشّ. وهو الوحيد الذي لا ينقضّ عليها بحكم الإدانة. إنّه صادق في كلّ شيء. وهو مَن ينادي بالتوبة، وهذا أكثر ما تحتاجه هذه المرأة للخروج ممّا هي فيه. ليست التوبة زهرةً نقدّمها ليسوع إكرامًا له، بل هي دواء يقدّمه هو لنا لنحيا في سعادة حقيقيّة. يدخل بعضنا إلى كرسي الاعتراف وهو يمنّن الله أنّه آت، وكأنّه يقوم بالشيء الصّعب مضحّيًا لأجل إسعاد الله. والحقيقة أنّه يجب أن يدخل شاكرًا على أنّ الفرصة ما تزال متاحة أمامه ليبدأ حياة حقيقيّة.

 

 

4. لقد عبّرت المرأة عن توبتها الحقيقية بأفعال لم تخطر على بال أحد: "بلّت قدمَي يسوع بدموعها، ونشّفتها بشعر رأسها، وقبّلتهما، ودهنتهما بالطّيب" (الآية 38).

 

 

أما سمعان الفرّيسي، الممتلئ من نفسه وفوقيّته، فلم يرَ أبعاد هذه الأفعال الخارجيّة. لم يقرأ توبة الخاطئة ومحبّتها لشخص يسوع المخلّص الآتي. بل لفظ حكمه في داخل قلبه، مشكِّكًا بيسوع النبيّ بامتياز، ولم يُدرك تجلّي رحمة الله فيه. وفكّر: "لو كان هذا نبيًّا، لعلم أيّ امرأة هي تلك التي تلمسه! إنّها خاطئة" (الآية 39).

 

 

الإنسان من طبعه، وبخاصّة إذا لم يختبر نعمة الغفران والمصالحة مع الله والإخوة ومع ذاته، عبر ممارسة سرّ التوبة، يبقى ديّانًا لأخيه الإنسان، حتى أنّه من الصّعب أن يغفر له. ولو أعلن اعتذاره والإقرار بخطئه. فلنتذكّر الابن الأكبر، شقيق الابن الضّال، كيف رفض المغفرة لأخيه ومصالحته (لوقا 15: 11-32).

 

 

5. اغتنم يسوع الفرصة ليطلق تعليمه. فأمام تحجّر الفريسيّ، يفتح يسوع باب الحوار. هذا هو علاج كلّ الخطايا: خطيئة المرأة وخطيئة الفرّيسيّ. حاور يسوع المرأة من خلال "التصرّف": هي دهنت قدميه وهو تركها تفعل. تفاهما بلغة العيون والحركات. مع الفريسيّ، الذي يعتبر نفسه سيّد الكلمة وسيّد المنابر، يحاوره يسوع بسؤال وجواب. لكلّ واحد أسلوب يناسبه.

 

 

الفريسيّ الذي حكم على يسوع في قلبه، يناديه بلسانه "يا معلّم". همّ الفريسيّ حفظ صورته الاجتماعيّة، حتّى ولو خالفت هذه الصورة كلّ الحقيقة. ونحن أيضًا نقع في هذه الفريسيّة إذ نمجّد أناسًا باللسان ونلعنهم في القلب.

 

 

 

أعطاه يسوع مثل المديونين، الواحد بخمسماية دينار والآخر بخمسين. وكيف سامحهما الدائن بسبب عدم تمكّنهما من إيفاء هذا الدَّين (الآية 41 و42). المديونان هما سمعان الفرّيسي والمرأة الخاطئة. وبطريقته التربوية، حمل يسوع سمعان على إعطاء الجواب على سؤاله: "أيّهما يكون أكثر حبًّا له؟" وكان جوابه: أظنّ ذاك الذي سامحه بالأكثر" (الآية 42 و43). ومن بعد أن امتدح يسوع أفعال المرأة الخاطئة وهي نقيض ما لم يفعله سمعان المضيف (الآية 44-46)، أعطى تعليمه السامي: "خطاياها الكثيرة مغفورة، لأنّها أحبّت كثيرًا. أمّا الذي يُغفر له قليلًا فيحبّ قليلًا" (الآية 47).

 

 

6. إنّ المحبّة، التي قادت الخاطئة التائبة إلى يسوع، سترت خطاياها الكثيرة، فنالت الغفران: "يا امرأة مغفورةٌ لك خطاياكِ" (الآية 48). ومع ذلك ظلّ أصحاب القلوب المتحجّرة عميانًا فلم يروا ما حدث، وظلّت آذانهم صمّاء، فلم يسمعوا كلمات المحبة والغفران. ولذلك اعترضوا في نفوسهم: "من هو هذا الذي يغفر الخطايا أيضًا؟ (الآية 49). أمّا كلام يسوع فمختلف تمامًا: "يا امرأة إيمانُكِ خلّصكِ، إذهبي بسلام" (الآية 50).

 

 

 

صلاة:

أيّها الربّ يسوع، لقد أظهرتَ لنا في موقفك الرَّحوم تجاه المرأة الخاطئة وأفعالها أنّ التوبة فعل حبّ لله صادر من القلب، وأنّ الخطيئة تجرح هذا الحبّ، حبّ الله لنا، وحبَّنا له. نسألك أن تمنحنا روح التوبة، لكي نجعلها توبة القلب، وتجديدَ الحبّ لكَ أيّها الفادي الإلهيّ.

 

إحفظ، يا ربّ، عائلاتنا، واجعلها كنائس منزليّة يتربّى فيها الأولاد على الإيمان، ويتعلّمون الصَّلاة، ويتنشّأون على الواجبات العائليّة والاجتماعيّة. فيتمكّنوا من اكتشاف دعوتهم الشخصيّة وطريقهم إلى ملكوت الله، فيجدوا من والديهم كلّ سَنَد وتشجيع.

 

ومعهم نرفع نشيد المجد والتسبيح للثالوث القدّوس: الآب والابن والرُّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

التنشئة المسيحية - موقع بكركي.