في بداية قصّة البشر يسأل الله قايين أين أخوك فيجيب: "أأنا حارسٌ لأخي؟" (تك 4/ 9) ومن هنا تبدأ قصّة الأخوّة المجروحة. وكأنّ قايين يقول: لم أختر لي أخًا بل أنت اخترته، فلمَ يُطلب إليّ أن أعتني به؟ مثل الكاهن واللاوي في قصّة السامريّ الصّالح (لو10/ 29- 37): لمَ أُطالب بالإحسان إلى الغريب، من لا يبادلني الإحسان ولا يقدر أن يردّ الجميل؟
منذ بداية الكتاب المقدّس تذبل صورة الله التي في الإنسان: هو الذي يطلع شمسه على الأبرار والأشرار وينزل مطره على الخطأة والقدّيسين، يعطي الحياة مجّانًا ويحبّ كلّ ما خلقه، حتّى أعداءه. "إذا أحببتم من يحبّكم أيّ فضل لكم؟" (لو 32/6) الوثنيّون يفعلون مثل ذلك. "أمّا أنتم فأحبّوا أعداءكم وباركوا مضطهديكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات" (لو 35/6).
تكتمل صورة الله في الإنسان، ويكتمل الإنسان المخلوق حين يظهر فيه حبّ الله لخليقته. ولكنّ سؤال قايين يطاردنا: أأنا حارس لأخي؟
ما الذي في قلب قايين، وفي قلبي حين يرتسم عليّ سؤال قايين؟ لمَ يجد الإنسان صعوبة في محبّة القريب ويستسهل أمامها كلّ أشكال التديّن من تقويّات لا تشبع الجائع، إلى زكاة تحاول عبثًا تخدير الضمير، إلى عظات تثير الشّعور بالذنب ولا تغيّر الحياة، إلى جهاد عنيف يتّخذ من شرف الله حجّة لقتل عباده؟
من النّاس من يترك الدين باسم الحفاظ على إنسانيّته، وهو كثير التفاؤل بقدرة قلب الإنسان على الحبّ، ويدع منطق قايين وشأنه بلا رادع. ومنهم من يواجه الشرّ بِقيمٍ عليا جميلة، يجهد في سبيلها حتّى بذل الدّم بشجاعة، ولكنّه يشبه من لا ماء لديه ويريد إطفاء النار بلوحة عليها صورة الماء. إن لم نقرأ قلوبنا حين تشبه وجوهنا وجه قايين، لن نعرف لبغض الأخ دواءً.
ما الذي في قلب قايين؟ أليس إنّ حياته عبء عليه حتّى إنّه لا يسعه أن يحتمل عبء حبّ الأخ؟ ليس بغض الأخ إلاّ بغضًا للنفس. في عمق كياننا شعور خفيّ بأنّ وجودنا عبء علينا. نقول: ليتني لم أولد! كلّ مين خلق علق! يا أرض انشقّي وابلعيني! أو نقولها بطريقة أخرى: "لو كانت ظروفي أفضل لأريتكم من أنا! لو كان أهلي عرفوا كيف يربّونني لما كنتُ كما أنا! لو كان الناس يقومون بواجباتهم لما كنتُ ما أنا عليه! إلخ."
كلمة "لو" تعبّر ببلاغة عن كرهنا من نحن وما نحن عليه. ننغمس بسرعة في أحلام اليقظة، في أوهام الأفكار، فنتخيّل عالمًا وهميًّا فيه أنا البطل، فيه الحياة تستحقّ أن تُعاش. ثمّ تستدعيني حياتي إلى الواقع فأجده بغيضًا لا يُحتمل. وما يبحث عنه قايين هو السّلام. سلام عالم بسيط، خاضع لأوهامه، ليس فيه منافس مثل أخيه. قايين، وأنا، نحتاج إلى التقدير، كلّ التقدير، إلى الاعتراف لنا بأنّ ما نحن عليه هو الأجمل والأعظم.
يكفيني هذا العبء أنّ حياتي ليست كما أريد، أنّ التقدير الذي أناله لا يكفيني. فهل أتقاسمه مع أخي؟ هل أسهر على أنّ أخي ينال التقدير والاعتراف فيما أنا أخاف أن أفقد مكانتي بسببه؟ فلنصغِ بانتباه إلى قلب قايين، لأنّه يخبرنا عن قلوبنا. ليس بغض الأخ، في عمقه، ليست اللّامبالاة بالأخ وبألمه، سوى بغض للنفس: أريد أن أكون غير من أنا، ولهذا لا أطيق أخي. أحبب قريبك حبّك لنفسك، يقول الكتاب. حبّ القريب وحبّ النفس هو واحد. الآخر هو الجحيم، يقول سارتر، أمّا في الكتاب فإنّ الأخ هو الطريق إلى الذات، هو رجاء السَّماء.
أسمع قايين يشكو: ماذا تريد منّي؟ أنت خلقتَ أخي رغمًا عنّي فماذا تريد منّي؟ كثيرًا ما نسأل: ما تُراه يريد الربّ؟ ولكنّ الكتاب يظهر إلهًا يسألني هو: ماذا تريد؟ الأرض والسَّماء بين يدينا، حتّى إنّ ما نحلّه في الأرض يكون محلولًا في السَّماء وما نربطه في الأرض يكون مربوطًا في السَّماء.
ما يقوله لي الله هو أنّي قادر: قادر على الحبّ، قادر على الغفران، قادر على المصالحة. أستطيع العيش مع أخي، وحتّى لو لم يبادلني رجاء الأخوّة أستطيع أن أعيش معه كما مع الوثنيّ والعشّار. ليست عبادة الله أن أقوم بهذا أو ذاك وأسمّيه "إرادة الله". لله مشيئة واحدة هي الخلق، هي أنا، هي أخي. وما تبقّى هو إرادتي، وإرادتنا معًا أن نجد الطرق اللازمة لكي تصير الأرض سماء. جعلني الله رقيبًا لأخي، لكيما أحبّه وأغار على فرحه، كما أحبّني الله ويغار على فرحي، وحين أجتمع بأخي يكون الله معنا.
الأب داني يونس اليسوعيّ