نعلم من الكتاب المقدّس أنّ مريم العذراء، أمّ يسوع الكلمة، قد كان لها دورٌ محوريٌّ في حياة جماعة الرّسل، فالصَّلاة الأولى التي أطلقتها الجماعة المسيحيّة هي صلاة الملاك نفسه "السّلام عليك أيّتها المملوءة نعمة… الرّب معك…"، وفي القرن الثالث بدأت الجماعة المسيحيّة تستعملها كصلاة يوميّة، وفي القرن العاشر أدخلت الكنيسة الرومانيّة كلمات أليصابات "مباركة أنت بين النساء ومباركة ثمرة بطنك" إلى كلمات الملاك ليجعلوا منها صلاة واحدة وصاروا يستعملونها في صلاة قدّاس الأحد الرّابع من زمن المجيء، صلاة سوف تتحوّل في القرن الثاني عشر إلى صلاة تُتلى كلّ يوم وليس مرّة واحدة في السّنة.
وفي الفترة عينها بدأ الرّهبان الشرقيّون يتلون صلاة، أو "صلاة القلب" وهي عبارة عن ترداد مستمرّ لإسم يسوع أو لعبارة من الكتاب المقدّس أو لصلاة قصيرة، وهي صلاة ترداديّة تترافق بالتأمّل الرّوحيّ وتنتهي بدخول الرّاهب المصليّ في حالة الصّمت والتأمّل في الحقائق الإلهيّة.
وفي الغرب بدأ الرّهبان غير الكهنة، وقد كانوا بأغلبهم يجهلون القراءة، بتلاوة ١٥٠ مرّة صلاة الأبانا تعويضاً عن عدم أمكانهم تلاوة الـ١٥٠ مزمور باللاتينيّة. وهنا بدأوا باستعمال العقد على الحبل لعدّ المرْات، وهي عادة قد تكون وصلتهم من الرّهبان الشرقييّن السُّريان أو البيزنطيّين الّذين التقوا بهم في بيزنطيا أو في أديار فلسطين أو أنطاكيا أثناء الحملات الصليبيّة.
وبعدها بدأ المسيحيّون يصلّون صلاة مريم (صلاة الملاك جبرائيل وصلاة أليصابات) بدل الأبانا، ويسمّونها "كتاب مزامير مريم"، وفي القرن الثالث عشر أضافت القدّيسة جرترود اسم يسوع بعد "مباركة ثمرة بطنك".
وفي القرن الرابع درجت العادة أن يتوّجوا ثماثيل العذراء بأكاليل صغيرة من الورود كما كانت الفتيات العذارى تتزّينّ في تلك الأيّام، ومن هنا نشأ لقب "المسبحة الورديّة".
يعود الفضل في ولادة صلاة المسبحة الورديّة كما نعرفها اليوم إلى راهب شرتوزي هو دومينيك الشارتريّ من بروسيا. لقد كان رئيس الدّير الّذي يقطنه ينصح الإخوة المبتدئين بتلاوة السّلام الملائكيّ ٥٠ مرّة في اليوم مع التأمّل في حياة يسوع. فقام دومنيك بتأليف ٥٠ تأمّل قصير يرافق الصَّلاة ليساعد المبتدئين في صلاتهم. أُعجب الرّئيس بطريقة الصَّلاة هذه وأرسل دومينيك إلى الأديار الأخرى ليقترح عليهم هذه الصَّلاة. عندها قام دومينيك بتأليف ١٠٠ تأمّل آخر ليصبح عدد التأمّلات ١٥٠ لتضحي هذه الصَّلاة شبيهة بصلاة المزامير لأنّ الشّعب كان قد بدأ في القرن الرَّابع عشر بتلاوة "كتاب مزامير مريم".
ومن أجل تسهيل مهمّة الرّاغب في الصَّلاة، تمّ تقسيم هذه الصَّلاة إلى ١٥ مجموعة من عشر مرّات "السّلام عليك"، واخُتصرت التأمّلات فصارت ١٥ بدلاً من ١٥٠. وهكذا نشأت المسبحة الورديّة.
وفي عام ١٤٢٨ وُلد في بريطانيا الفرنسيّة الأخ ألان دو لا روش، ودخل في رهبانيّة القدّيس دومينيك (الآباء الوعّاظ)، وكان يبشّر بالإنجيل في شمال فرنسا فتعّرف هناك على الرّهبان الشرتوزيّين، وعرف عادتهم في صلاة الورديّة فأغرم بها وبدأ بنشر هذا الإكرام المريميّ بحماسة قلّ نظيرها، فبدأ الجميع يمارسون هذه العادة التقويّة حتى وصلت إلى إيطاليا وإسبانيا وأوروبا الغربيّة بأسرها، ونسبها الجميع إلى القدّيس دومينيك.
في القرن الخامس عشر، دخلت إلى الصَّلاة القسم الأخير من الصَّلاة الملائكيّة: "يا قدّيسة مريم، يا والدة الله، صلّي لأجلنا نحن الخطأة". ومع اختراع الطباعة في القرن السّادس عشر صار من السّهل نشر هذه الصَّلاة على أكبر عدد ممكن من الناس، ممّا أسهم في نشرها في كلّ مكان وبشكلٍ أسرع.
وفي معركة "ليبانتو" الشّهيرة، انتصر المسيحيّون على الأتراك الّذين كانوا يريدون احتلال أوروبا، رغم أن المسيحيّين كانوا أقّل عديدًا وعدّة ولم يكونوا مستعدّين لهذا الهجوم المفاجئ، فأعلن البابا بيوس الخامس سنة ١٥٧٢ السّابع من تشرين عيدًا للورديّة المقدّسة، وأضاف على طلبة العذراء لقبًا جديدًا: "يا معونة النّصارى". وسنة ١٥٧٢ أعلن البابا نفسه بشكلٍ رسميّ لائحة الأسرار الثلاثة: الفرح، الحزن والمجد.
في القرن الثامن عشر عرفت الورديّة دفعًا جديدًا بفضل عمل القدّيس لويس ماري غرينيون دو مونفور، وفي القرن التاسع عشر شكّل ظهور العذراء في لورد علامة فارقة، ففي العام ١٨٥٨ صلّت برناديت سوبيرو راعية ماسابيال المسبحة مع العذراء بذاتها، وفي القرن عينه بنى بارتولو لونغو معبد سيّدة الورديّة في بومباي، وأطلق البابا لاوون الثالث عشر إثنا عشرة رسالة بابويّة حول هذه الصَّلاة.
وفي العام ١٩١٧ ظهرت العذراء في فاتيما في البرتغال وطلبت من ثلاثة أطفال أن يُصلّوا الورديّة، وعرّفتهم عن ذاتها بقولها: "أنا سيّدة الورديّة، وقد جئت أحثّ المؤمنين على صلاة المسبحة كلّ يوم، وعلى القيام بإماتات تكفيرًا عن خطاياهم ولكي يغيّروا حياتهم".
وكان التّغيير الأخير على الورديّة هو أن أضاف يوحنّا بولس الثاني خمسة أسرارٍ أخرى على هذه المسبحة هي أسرار النّور.
"لماذا ينبغي أن نتلو صلاة مملّة؟"، "ما هو معنى ترداد الصّلوات بشكل مستمرّ؟"، "لا أجد نفسي في هذه الصلاة الطويلة!"، "ألم يقل يسوع أن ليس بكثرة الكلام يُستجاب لكم؟"، "أفضّل أن أصلّي مرّة واحدة الأبانا والسَّلام بتمعّن على أن أردّد صلاة المسبحة الورديّة دون فهم"، "إنّها صلاة العجزة، وهي ليست لي"… هذه وغيرها من الإنتقادات، والآراء نسمعها كلّ مرّة نتكّلم فيها عن صلاة المسبحة الورديَّة.
عيبنا أنّنا نجهل معنى هذه الصَّلاة، والمُحزن هو أنّنا لم نختبر النّعم التي يُغدقها علينا الرّب بشفاعة الأمّ الحنون، أمّه وأمّنا مريم. فنحن معها نصلّي للرّب يسوع، مع مريم نصلّي المسبحة ليسوع، فهو وحده هدف كلّ صلاة، ومريم هي المعلّمة في الإيمان وفي حياة الرّوح، معها نسير نحو ابنها، إليه تهدينا، تعلّمنا معنى التتلمذ والمُثابرة على القداسة، وتُعطينا أداة تساعدنا على البلوغ نحو الهدف: مسبحة الورديّة، تختصر في أسرارها أحداث حياة يسوع، سلسلة من نور وحبّ تربط التلميذ بمعلّمه وتربطنا بعضنا ببعض في رباط من صلاة ومحبّة.
هي سلسلة من حبّ ونور تبدأ بالصّليب وتنتهي بالصّليب، لنعلم أنّ المسيح هو بدايتنا ونهايتنا، هو من دعانا بنعمته إليه، وإليه تبلغ مسيرتنا لنصل إلى القداسة حين نتّحد به. وفي هذا كلّه مريم حاضرة، هي المعلّمة تقودنا نحو ابنها، نتمتم صلاة الملاك في كلّ خطوة، نكرّر الصَّلاة لمريم ومع مريم ليسوع، ومعها نتأمّل في أسرار حياة ابنها وفي عمله الخلاصيّ، لنتعرّف كيف نصبح تلاميذ السيّد كلّ يوم أكثر.
لماذا نصلّي إلى مريم؟ لأنّها أمّ الله وأمّنا، ولأنّها الشّفيعة والمثال لكلّ واحد منّا في التّتلمذ ليسوع. لقد سارت مريم على درب التّتلمذ فكانت التلميذة الأمينة، لم تكن تملّ من التعرّف كلّ يوم أكثر على سرّ ابنها. وإلى جانب كونها التلميذة الأمينة الوفيّة لسرّ يسوع، صارت مريم أيضًا المعلّمة في الإيمان، تعلّم تلاميذ الإبن كيف يحيون سرّ الوفاء للمسيح.
نصلّي لمريم لترشدنا إلى طريق الإبن، ومعها نصلّي إلى المسيح هدف كلّ صلواتنا، حتّى عندما نصلّي المسبحة ونردّد مرّة تلو الأخرى اسم مريم، فإنّنا نصلّي إلى المسيح، مع مريم نصلّي إلى السيّد ونرفع له وجودنا بأسره عبر صلاة والدته القدّيسة.
صلاة المسبحة هي صلاة كنسيّة، لأنّها صلاة أبناء الكنيسة مع مريم أمّ الكنيسة، يرفعون صلاتهم نحو الآب والإبن بالرّوح الّذي يُعطي الكنيسة القدرة على الصَّلاة. هي صلاة ولدت في الكنيسة، ترفعها الكنيسة حتى حين تُتلى بشكلٍ فرديّ. هي ليست صلاة ليتورجيّة، ولكنّها صلاة كنسيّة، أغنت الكنيسة بنعمها، تلاها القدّيسون ونشروها أينما كانوا وسيلة عبادة لله وإكرام لِأمّ يسوع القدّيسة. صلاة المسبحة هي صلاة إنجيليّة، بصلاتها يحيا المؤمن من جديد أعمال السيّد الخلاصيّة، فيتأمّل في تجسّده في حشا مريم ساعة البشارة، وولادته في مغارة بيت لحم، وصولاً إلى موته وقيامته، صعوده وإرساله الرّوح القدس.
يمكن للمسبحة الورديّة أن تكون خير وسيلة للتحضّر الرّوحي للقدّاس الإلهيّ، ولكن لا يجوز لها أن تحلّ مكان الإفخارستيّا أو أن تتزامن معها. كما أنّ مريم احتجبت ليعتلن سرّ ابنها، وجعلت نفسها خادمة سرّ يسوع الفصحيّ، كذلك تصبح صلاة المسبحة في خدمة سرّ الإفخارستّيا، تُهيّئ المؤمن روحيّاً للدخول في سرّ الأسرار وتحتجب لحظة يبدأ الإحتفال بالسّر.
كما أنّه لا ينبغي أن نغفل عن أهميّة التأمّل في الأسرار، أي في الأحداث الخلاصيّة التي أتمّها الله في تاريخ شعبه، وهكذا تصبح صلاة المسبحة تأمّلاً مصليّاً في الإنجيل، نعبر عبرها في جميع مراحل حياة المعلّم على الأرض وصولاً إلى إتمام عمل خلاصنا والدّخول في المجد السماويّ.
المسبحة الورديّة صلاة تعليميّة، تقود المسيحيّ على دروب حقائق الإيمان، فيفهم هذه الدّروب بينما يصلّي، ومن خلالها تستمرّ مريم في لعب دور المعلّمة في الإيمان في حياة تلاميذ إبنها.
بهذا المعنى يقول البابا بندكتوس السّادس عشر (عظة ٣ أيار ٢٠٠٨):
"حين نتلو صلاة المسبحة، نحيا من جديد أهمّ لحظات تاريخ الخلاص وأكثرها معنى، نحيا من جديد مُختلف مراحل رسالة المسيح. مع مريم نوجّه قلبنا نحو سرّ يسوع. نضع يسوع في قلب حياتنا، وقتنا، ومدننا، من خلال التأمّل في أسرار المسبحة المقدّسة: أسرار الفرح، النّور، الألم والمجد…
فلتساعدنا مريم لكي نقتبل في داخلنا النّعمة التي تنبع من أسرار المسبحة، ولكي عبر هذه الأسرار، يمكن للعذراء أن تروي المجتمع بواسطة العلاقات الإجتماعيّة التي نحياها كلّ يوم، وتطهّرها من القوى السّلبية الكثيرة جدّاً من خلال فتحها على الجديد الّذي يقّدمه الله لها. إنّ المسبحة، حين نصلّيها بطريقة جيّدة، وليس بطريقة ميكانيكيّة وسطحيّة، بل بطريقة عميقة، تجلب لنا السّلام والمصالحة. فالمسبحة تحتوي في ذاتها على قدرة إسم يسوع الأقدس الّذي يشفي، إسمٌ ندعوه بإيمان وحبّ عبر كلّ "سلام عليك" نتلوها".
وقال البابا يوحنّا بولس الثاني: "من عاش حياة بسيطة وقدّسها، أكثر ممّا فعلت مريم؟
من أكثر من مريم قد رافق يسوع طوال حياته، حياته الفرحة، المتألّمة والممجّدة ودخل في حميميّة مشاعره البنوّية نحو الآب، ومشاعره الأخويّة نحو الآخرين؟
من أكثر من مريم التي تشترك الآن في مجد الإبن، يمكنه أن يتدخّل من أجل خيرنا؟
لا بُدّ لها الآن أن تُرافق حياتكم. سوف نوكِل إليها هذه الحياة، ومن أجل أن نتمكّن من هذا، تعطينا الكنيسة صلاةً بسيطة: الورديّة، المسبحة التي تطال بهدوء نمط نهارنا بكليّته.
إنّ الورديّة، إذا ما تليناها وتأمّلناها بهدوء، في العائلة، في الجماعة، أو بطريقة فرديّة، تجعلكم تدخلون رويدًا رويدًا في أحاسيس المسيح وأحاسيس أمّه، عبر تذكّر كلّ أحداث حياته التي صارت مفاتيح خلاصنا.
عبر صلاة "السّلام عليك"، تتأمّلون في سرّ تجسّد المسيح، فداء المسيح، وأيضًا الهدف الّذي نصبو نحوه جميعنا، في النّور والرّاحة الإلهيّة.
مع مريم، تفتحون روحكم أمام الرّوح القدس، لكي يوحي إليكم بالمهام التي تنتظركم.
فلتكن مريم قدوتكم وسندكم". (عظة البابا يوحنّا بولس الثاني، ٦ أيار ١٩٨٠).
صلاة للقدّيس برنردوس:
أنتَ، ما همّ مَن أنتَ، الّذي في بحر هذا العالم،
تتقاذفك الأمواج وسط العاصفة،
إن كنتَ لا تريد الغرق بين الأمواج،
فلا تحِد نظركَ عن شعاع هذه النّجمة.
إذا هبّت رياح التّجارب،
أو رمتك على صخور المصاعب،
إنظر إلى النّجمة، أصرخ نحو مريم.
إذا آلمك تذكُّر خطاياك،
وأوشك الحزن على الإنتصار فيك،
أو كدت تسقط في هوّة فقدان الرّجاء،
فكّر في مريم،
في المخاطر، في المصاعب، في لحظات الشّك،
فكرّ في مريم، أصرخ نحو مريم.
إذا تبعتها لن تضلّ الطريق،
إذا ناديتها، لن تتيه،
إذا افتكرت فيها، لن تسقط في الخطيئة،
وإن بقيتَ بقربها، لن تزلّ،
وأن إتّكلت عليها، لن تخاف من جديد،
بعونها، كلّ شدّة تصير لكَ رخاء،
وبقيادتها تصل بسهولة الى الموطن السّعيد.
الأب بيار نجم ر.م.م