إذا كان زمن المجيء هو الزمن الذي يدعونا بشكلٍ خاصّ إلى ترجّي "الإله الذي يأتي"، يجدّدنا زمن الصّوم في الرَّجاء بـ"ذلك الذي جعلنا نعبر من الموت إلى الحياة". كِلا الزمنين هما وقت تطهير ولكن بشكلٍ خاصّ في زمن الصّوم الذي يصبو بكلّيته إلى سرِّ الفداء، والذي يوصف بأنّه "زمن توبة حقيقية".
يمكننا إذًا القول بأنّ زمن الصّوم بدعوته إلى الصّلاة، والإماتة والصَّوم، يشكّل فرصة مؤاتية لكي نجعل رجاءنا وطيدًا وأكثر حيوية.
تغذّي الصّلاةُ الرّجاء لأنّه ما من شيء يعبِّر أكثر من الصّلاة بإيمان عن حقيقة الله في حياتنا. حتى في عزلة التجارب الصّعبة، ما من شيء وما من أحد يستطيع أن يمنعني من التوجّه إلى الآب "في الخفية" في قلبي، حيث هو وحده "يرى"، كما يقول يسوع في الإنجيل (متى 6، 4. 6. 18). يتوارد إلى الفكر محطّتان من حياة يسوع العامَّة: أيّام الصَّحراء الأربعين، التي تقتدي بها أيَّام الصَّوم، والنزاع في بستان الجتسماني – وهما في جوهرهما وقفتا صلاة.
صلاة منفردة قلبًا لقلب مع الآب في الصّحراء، وصلاة ملؤها "الكآبة المميتة" في بستان الزّيتون. ولكن في الأولى كما الآخرى، يستطيع يسوع من خلال الصَّلاة أن يكشف خداع المجرّب وينتصر عليه.
تتجلّى الصَّلاة بهذا الشكل كـ"السّلاح" الأوّل "لمواجهة الصراع ضدّ روح الشرّ والتغلّب عليه".
تصل صلاة المسيح إلى قمّتها على الصّليب، ويعبّر عنها بالكلمات الأخيرة التي جمعها الإنجيليّون. وحيث يبدو وكأنّ المسيح يُطلق صراخ يأس: "إلهي، إلهي، لِما تركتني؟" (متى 27، 46؛ مر 15، 34؛ مز 21، 1)، يتبنّى المسيح بالحقيقة دعاء من يحاصره الأعداء دون إمكانية هرب، ومن يختبر النعمة والخلاص ما وراء أيّة إمكانيّة إنسانيّة. ما من تناقض إذًا بين صراخ: "إلهي إلهي، لِما تركتني؟" والكلمات المليئة بالرَّجاء البنويّ: "أبتِ، في يديك أسلم روحي" (لو 23، 46؛ مز 30، 6). وهذه الكلمات أيضًا هي مأخوذة من (المزمور 30) وهو نداء مأساويّ يُطلقه شخص تخلّى عنه الجميع، ولكنّه رغم ذلك يستسلم بثقة إلى الله.
وعليه فإنّ صلاة الطلب المفعمة رجاءً هي الفكرة المهيمنة في زمن الصّوم، وتجعلنا نختبر الله كمرساة الرّجاء الفريدة. حتى عندما تكون جماعيّة، تشكل صلاة شعب الله صوتًا لقلب واحد ولنفس واحدة، هي حوار حميميّ بين شخصين، مثل صلاة الملكة أستير المؤثّرة عندما كان شعبها على شفير الفناء: "أيّها الرّبّ إلهي، ملكنا، ما من آخر سواك! هبّ لمساعدتي فأنا وحيدة ولا عون لي سواك، لأنّ خطرًا كبيرًا يحيق بي" (أس 4، 17). أمام "خطر كبير" نحتاج إلى رجاء أكبر، وهذا الرّجاء هو رجاء من يستطيع الاعتماد على الله وحده.
الصّلاة هي مصفاة ناريّة يتمّ فيها عرض انتظاراتنا وآمالنا على نور كلمة الله، ويتمّ إنزالها في الحوار معه، وهو الحقّ، فتخرج من هذا اللّقاء محرّرة من الأكاذيب الخفيّة ومن المراوغة مع مختلف أشكال الأنانيّة (“مخلصون بالرّجاء”، 33).
ومن دون بُعد الصّلاة، ينتهي الأمر بالأنا البشريّ إلى الانطواء على الذات، ويتعرّض الضّمير الذي يجب أن يكون صدى لصوت الله لخطر أن يُضحي مجرّد مرآة للأنا، وهكذا يُضحي الحوار الباطنيّ مناجاةً للذات فاتحًا المجال لألف نوع ونوع من التبرير الذاتيّ. لذا فالصّلاة هي ضمانة الانفتاح على الآخرين: من يتحرّر لله ولمتطلّباته، ينفتح في الوقت عينه على الآخرين، على الأخ الذي يدقّ على باب قلبه ويطلب الإصغاء، والانتباه، والغفران، وأحيانًا الإصلاح ولكن دومًا عبر المحبّة الأخويّة.
الصّلاة الحقة ليست أبدًا أنانية، بل هي تتمحور حول الآخر. وهي تمرن بذلك المصلّي على "نشوة" المحبّة، على قدرة الخروج من الذات لمجاورة القريب في الخدمة المتواضعة والمتنزهة عن المصالح. الصّلاة الحقة هي محرّك العالم، لأنّها تبقيه منفتحًا على الله. لهذا، من دون الصّلاة ما من رجاء، بل مجرّد وهم. ليس وجود الله هو الذي يغرّب الإنسان، بل غيابه: من دون الإله الحقّ، أبي ربّنا يسوع المسيح، يُضحي الرَّجاء أوهامًا تقود إلى الهرب من الواقع.
وبالمقابل، مناجاة الله والقيام بحضرته، والإستنارة من كلمته والتطهّر بها، يُدخلنا في قلب الواقع، في حميمية محرّك التطوّر الكونيّ، يُدخلنا في قلب الكون النابض.
باتّصالٍ متناغم مع الصَّلاة، يمكننا اعتبار الصَّوم والحسنة كأماكن لتعلّم وممارسة الرَّجاء المسيحيّ. كان آباء الكنيسة والكتّاب الأقدمون يحبّون أن يشدّدوا على أن هذه الأبعاد الثلاثة للحياة الإنجيليّة لا يمكن الفصل بينها، وأنّها تخصب بعضها البعض وتحمل ثمرًا أكبر عندما تتكاتف. بفضل العمل المشترك بين الصّلاة والصّوم والصّدقة، يُعِدّ زمن الصّوم المسيحيِّين لكي يكونوا أناس رجاء، على مثال القدِّيسين.
أودّ أن أتوقّف الآن على الآلام، لأنّ، كما كتبت في الرسالة العامّة "مخلصون بالرّجاء"، "مقياس الإنسانيّة هو مبنيّ بجوهره على العلاقة مع الألم ومع المتألم. وهذا الأمر ينطبق على الأفراد وعلى المجتمع" (مخلصون بالرّجاء، 38).
إنّ الفصح، الذي يتوق إليه زمن الصّوم، هو السرّ الذي يمنح الألم البشريّ معنى، انطلاقـًا من فيض رحمة الله، التي تحقّقت في يسوع المسيح. ولذا فإن مسيرة الصّوم، باستنارتها بالكليّة من سرِّ الفصح، تجعلنا نعيش من جديد ما عاشه قلب المسيح الإلهيّ-الإنسانيّ بينما كان صاعدًا إلى أورشليم للمرَّة الأخيرة، ليقدِّم نفسه كفّارة (أش 53، 10).
نزل الألم والموت مثل الظلام بينما كان يقترب رويدًا رويدًا من الصّليب، ولكن شعلة الحُبّ اتّقدت أيضًا. في الواقع إنّ آلام المسيح متشرّبة بكلّيتها من نور الحبّ ("مخلصون بالرّجاء"، 38): حبّ الآب الذي يسمح لابنه أن يسير بثقة نحو "معموديّته" الأخيرة، كما يسمّي هو بالذات قمّة رسالته ( لو 12، 50).
لقد قَبِلَ يسوع معموديّة الألم والحبّ تلك لأجلنا، لأجل البشريّة بأسرها. لقد تألم من أجل الحقيقة والعدل حاملاً إلى تاريخ البشريّة إنجيل الألم، الذي هو الوجه الآخر لإنجيل الحبّ. الله لا يستطيع التألّم، ولكنّه يستطيع ويريد أن يشفق (يتألم – مع) [com-patire]. من آلام المسيح تلج إلى كلّ ألم بشريّ التعزية (con-solatio)، "تعزية الحبّ الذي يُشرك به الله فيشرق بالتالي نجم الرّجاء" (مخلصون بالرجاء، 39).
كما الأمر بالنسبة للصّلاة، كذلك الحال بالنسبة للألم: فتاريخ الكنيسة غنيّ جدًا بشهود بذلوا أنفسهم لأجل الآخرين دون حساب، دافعين ثمن ذلك آلام قاسية. بقدر ما يكون الرّجاء الذي يحرّكنا كبيرًا بقدر ذلك ستكون قدرتنا على الألم حبًا بالحقيقة وبالخير، مقدّمين بفرح أتعاب كلّ يوم كبيرةً كانت أو صغيرة، ومُدخلين إيّاها في شفقة المسيح العظمى (مخلصون بالرجاء، 40).
فلتساعدنا مريم في مسيرة الكمال الإنجيليّ هذه، هي التي، مع ابنها، طُعن قلبُها البريء من الدّنس بسيف الألم.
فلنبدأ إذًا زمن الصّوم متّحدين روحيًا مع مريم، التي"تقدَّمت في مسيرة الإيمان" في خُطى ابنها (نور الأمم، 58) وهي تسبق دومًا التلاميذ في المسيرة نحو نور الفصح. آمين
البابا بنديكتس السادس عشر - 2008