نميل للتفكير بالسبت المقدّس كيومٍ “لا بدّ منه” بين الجمعة العظيمة والفصح، يوم لا طعم له ولا رائحة. ولكن ليست الأمور كما تبدو عليه، فعلى الرغم من أنّ هذا السبت يظلّ عسيرًا على فهمنا، إلّا أنّنا مدعوّون لعيش واقعية هذا السبت العظيم.
لا نعلم بماذا نقوم به في هذا اليوم. بطريقة أو بأُخرى، فإنّه يضيع بين ليتورجيا الجمعة العظيمة الحزينة، وفرح القيامة عشية السبت. وليس هذا السبت فاصل مسرحيّ بين عرضين يتحضّران وراء الكواليس. ولا يعني حتّى إنّ الله يعمل في عالمٍ آخر حيث النفوس الّتي تنتظر في الجحيم. فكلّ ما كان الله يودّ أن يقوم به، وكل ما احتاجه لسرّ الفداء أن يكتمل قد تمّ على الصليب. لكن يتوجّب علينا ألّا نستبق الأحداث لنرى نهايتها. لقد تمّ كلّ شيء، وحتمًا سنرى ونكتشف ما بعد الحُجب. لكن، لن نعرف معنى القيامة الحقيقيّة ما لم نختبر، وبعمقٍ الاحتجاب الإلهيّ في واقعيّة السبت المقدّس. وبدون السبت، لن تتحضّر عقولنا ولا قلوبنا، ولا حتّى أرواحنا لتعانق فرح القيامة.
إنّ ميلنا البشريّ هو الّذي يدفعنا لتجنّب هذا الصمت المُهيمن، وجموده يبقى من دون بارقة أمل أو وعد. لذا، نهرع لنكتشف كيف ستنتهي عليه الأمور… فإن صدمة الموت وخدرانها، تدفعاننا للهروب من الذاكرة الجاثمة لِما شهدناه، موت الحبيب.
واقعنا البشريّ هو الّذي يدفعنا للهروب من اختبار الفراغ، هذا الفراغ القاسي والصارخ والعاري. لذا نهرب، حتى على الصعيد الجسديّ، من خلال انشغلاتنا، وتحضيراتنا للعطلة، ولليتورجيا العيد، وحتى إنّنا نختبر نوع من الهروب الفكريّ - الروحيّ في إنّنا نستبق الأمور بالتفكير حتميّة فرح القيامة وتعزيته. ومهما قمنا به، فإنّه في داخلنا هنالك ميل للهروب من فاجعة الموت، موت الله، والفراغ الّذي يُهيمن على كلّ شيء، فراغٌ يرفض أن يزول أو يوجد له مخرجًا.
في هذا السبت نتفنن في إيجاد الأعذار الصالحة لقيامنا بأمرٍ ما. ففي زمن الموت، نواجه عجزنا والخوف الّذي يزرعه في داخلنا أمام الحقيقة الماثلة أمام أعيننا. لا سحر، ولا كلمة، ولا حنكة تستطيع أن تُعيد لنا الحبيب المفقود، تُعيد لنا أحلامنا الّتي نسجناها معه، وآمالنا الّتي تعلّقنا بها من أجله. نستمر في العيش، لكن السؤال الّذي يطرح نفسه هنا: هل ما زلنا نؤمن في هذه اللحظة بالحياة؟ هل ما زلنا نؤمن بذواتنا أيضًا؟
يجب علينا أن نندب ونرثي، ونشرع بطقوس الحزن، حزنٍ على كلّ شيء لم نختبره مع الحبيب، كل ما لم نختبره في حياتنا بعد. ومع هذا، فإنّ السبت العظيم، يقاوم دوافعنا لتغيير صورته، ميلنا لإضفاء صورة حياديّة عنه، أو جعله أداة لعلاج أحزاننا.
فيوم السبت هذا، هو وقت يختلف كلّ الاختلاف عن باقي الأوقات، هو وقت لا يتوالف مع منظومة وقتنا الّتي ننظمها لحياتنا. إذ يجتذبنا هذا اليوم إلى كآبته الصارخة، فهنالك أكثر من صدمتنا أمام جثّة معذّبة، ومشوّهة… أو صدمتنا لموت الصالح الوديع بين أيدينا.
فمهما أسهبنا في طقوس الدفن، وعرفت الكثير من الحميميّة والعمق الروحيّ، فلا شيء من شأنه أن يُخفف من صدمتنا. فذاكرتنا لا تستطيع أن تقفز لتتجاوز فاجعة يوم الجمعة لتفرح بمآلها يوم الأحد. وحتى ذاكرتنا، تجد نفسها تائهة، مشوّشة، غير منطقيّة، لاجئة في أرضٍ غريبةٍ اسمها السبت العظيم. ففي عمق ذواتنا وغياهب جروحنا ومآسينا، ثمّة خوف دفين أكثر شخصيّةً وجذريّة. يتحرّك كما ثعبان أسود يتحسس اقتراب فريسته، يتربّص في داخلنا لينقضّ في مثل هذه اللحظة الحاسمة: الخوف من الموت… من موتنا وانتهاء حياتنا أيضًا.
لم يكن موت يسوع موتًا طبيعيًّا. بل العكس، كان لهذه الميتة الشنيعة أن تقضي على كلّ محاولةٍ لتفهّم هذه الفاجعة. إنّه موت يكشف لنا حقيقة قوّى عُظمى، فالموت أيضًا هو أداة لفرض سطوتها. الصليب وما يشمله من تعذيب ومهانة، كان وسيلة الرومان الوحشيّة والمتعمّدة لإظهار قوّتهم. وهو أيضًا رمز لكلّ نظامٍ يجعل من الموت أداةً لسطوته. ولا نقصد هنا الموت الجسديّ فحسب، بل موت يدّعي بأحقيته بالسلطة، ويُعلن تملّكه وسيطرته على كلّ شيء، حتى على جثث ضحاياه، فهى رمز الذعر الّذي يهدّد من خلاله باقي الموجودين إن عصوا أوامره.
فالإمبراطوريّة “الدولة” تقوم بمراسم عرض قوّتها بطريقةٍ منهجيّة ومحسوبة بدقّة ومُسيطر عليها بعناية. فقد أرادت السلطة أن يكون الموت علانيةً ليخدم غايتها في إرهاب العامّة. فهو لا يهدف إلى التمثيل والتنكيل فحسب، بل لاستعمار مخيّلة الشعب وروحه أيضًا. ولا يبتغي تعميم الشعور بالعجز فحسب، بل التسليم لفكرة أنّ العيش في هذا البلد ما هو إلّا عتبة العيش في الجحيم: العدم والعيش من دون معنى. قد نشطح في مخيّلتنا أمام هذا الرعب المُهيمن، ونتعامى عن فكرة حرّيتنا الخاصّة الّتي وُهبنا، وتستمر هذه الغمامة أمام أعيننا، بل وتكبر، وخاصة إن آمنا بآلهة تُضحيّ بعبيدها على مذابح الموت.
فقط في صمت السبت العظيم نستطيع أن نرى الإرهاب الّذي يبثّه الموت على الصليب. إنّه يعرض علينا سطوة آلهة هذا العالم، آلهة الكرب والحزن والدمار، الّتي استطاعت أن تصلب إلهنا. في هذا اليوم، تتلاشى جميع أحلامنا، وآمالنا تأخذها الرياح، وتأخذ معها عالمنا الهشّ الّذي بنيناه على أُسس الحبّ والصلاح وإيجاد المعنى، الّذي لم يبقى منه سوى عُلّية باردة فقيرة متزعزعة تتلاعب بها رياح الموت في ليلٍ دامسٍ لا ينتهي. إم تملّكنا الشجاعة لنُصغي لصمت السبت العظيم، سنسمع ضحكةً فظّةً ووقحة، إنّها ضحكة آلهة هذا العالم على رجائنا بفادي العالم ومخلّصه… يسوع المصلوب.
ثمّة أيضًا الشعور بالذنب: ألم يكن حريٌّ بنا أن نقوم بأمرٍ ما؟ في فسحة السبت المقدّس، علينا أن نعيش مع جميع أنواع خياناتنا. حتى عندما أحببنا إلى المنتهى، حتى عندما ركبنا جميع المخاطر، وسهرنا طوال الليل أمام الصليب، حتى عندما أخذنا جثّة المصلوب ودفنّاها… كلّ ذلك لا يكفي. حبّنا، وولائنا، ومواهبنا، وبراعتنا في الرسالة لا تكفي. فهي لا تستطيع أن تُنقذ فادينا من الموت… في هذا السبت، نختبر محدوديّة حبّنا للمسيح. حتّى وإنّ لم نتوقّف عن حبّ المسيح، وبدا هذا الحبّ غير محدودٍ، نعي في داخلنا إنّه ليس بكافٍ. الآن، نُحبّ في الألم، في الشوق، أمام صليب محدودياتنا.
إن ولجنا إلى عمق صمت هذا السبت المقدّس، فعريه لا يعكس أيّ مصدر للتشتت. فلا مكان للهروب سوى لعمق ذواتنا، إلى تلك الأماكن الفارغة في ذواتنا ومخيّلتنا. فالسبت المقدّس، يأخذ لِما بعد الحزن والرثاء، إلى أعمق نقطة فينا، لنُنقي إيماننا. يُخلّصنا هذا السبت من راحتنا، حتّى من إيماننا، ويتركنا عراةً عاجزين لا حول ولا قوّة لنا، لا نستطيع القيام بأيّ شيء سوى الانتظار.
لكن، إن استطعنا المكوث في هذا المكان الغريب والحزين هذا، فإنّ عينا حياتنا الروحيّة ستنفتح صوب بُعدٍ آخر. سنبدأ بتمييز حقيقة جديدة، هي أنّ الصليب قد قادنا نحو طريقٍ وحده المسيح يستطيع أن يخطّه لنا. ففي عمق اختبارنا لعجزنا، ومواجهتنا لجميع أنواع التعذيب والخوف الدفين، والموت الظالم. فإنّ انتظارنا عاجزين هناك سيقودنا لفهمٍ أعمق لسرّ الله الفادي… إنّ فراغ يوم السبت وصمته ليس تعبيرًا عن عجز الله وموته، بل إنّه سبته: هو نهاية، وتمام لمشروع… وبداية مشروع إلهيّ آخر.
إنّه سبت مقدّس بحقّ، ليس بكونه “فاصل بين زمنٍ وآخر” بل لأنّه يقدّس جميع أزمنة الانتظار الراجية الّتي اختبرناها. وبدونه، لن ننظر بعمقٍ لِما جرا يوم الجمعة العظيمة، ولن نعي مجد القيامة وندرك عظمة سرّ الفداء.
في فراغ الانتظار، نشرع في تعلّم أمورٍ لا تُطيقها آلهة هذا العالم، المعرفة الّتي لم تردها لنا: إن لم نخف من عيش غياب الإله في عمق سقطاتنا وخيانتنا، عندما نختبر عجزنا ومحدوديتنا… حينها فقط سنعود ونكتشف مخلّصنا حاضرًا معنا في كلّ حين.
إن يوم السبت المقدّس، هو زمن فادينا، هو الزمن الّذي نتعلّم فيه أن نؤمن بفداءه حبًّا لنا، هذا الفداء الّذي لا يفهمه الموت ولا يستطيع أن يُخضعه. فقط مع السبت العظيم، نستطيع أن نرى كيف أنّ إلهنا طوّع الموت ليكون أداته هو أيضًا، لا لإرهابنا وإخضاعنا تحت سلطته، بل ليدعونا بشغفٍ أكبر لنكون معه. في ظُلمة السبت المنقّية، نكتشف “سبت الانتظار”. نأتي إلى نهاية دربنا، وبداية طريق سيّدنا وربّنا. ويسوع فقط يستطيع أن يعبر بنا نحو الفصح، نحو طريقه، من خلال جميع سبوت الانتظار المقدّسة في حياتنا.
الأب جيمس هانفي اليسوعي.