مُقدِّمة الوجه الثالث
إن كانت معاني البرِّيَّة مرتبطة بالأرواح (لقاء الله ومقاومة الشرِّير) وبالأشخاص (الانفصال عنهم والحضور لهم)، فهي مرتبطة بالعالم والمادّة والممتلكات أيضًا؛ فليس الإنسان روحًا فقط، وليس هو شعورًا فقط، بل هو جسد أيضًا يرتبط بعالم المادِّيّات، ولجسده هذا مُتطلِّبات منها الصّالحة – يُسمِّيها اللاهوت النسكيُّ "الفضائل" ومنها الطالحة – ويُسمِّيها "الرذائل"-. ولذلك سنتطرّق إلى هذه الجوانب التي تربط المؤمن عامّة والرّاهب خاصّة بالعالم المادِّيّ، بعد أن أظهرنا علاقته بالعالم الروحيّ وبالعالم البشريّ.
ويظهر الارتباط المادِّيُّ في جدليّة الترحال من جهّة، والاستقرار من جهّة أخرى. كما نذكر فإنّ "البرِّيَّة" تجمع بين الأضداد؛ وهنا بين نزعة الإنسان إلى الترحال والتنقُّل والسياحة، ونزعته إلى الاستقرار والثبات والسكون.
وسيفضي بنا هذا الحديث إلى تجاوز الترحال والاستقرار المادِّيّين والمكانيّين نحو معناهما الروحيّ، ولا سيّما من خلال المُتطلِّبات النسكيّة من مقاومة الرذائل واكتساب الفضائل. هذا هو مضمون وجه البريّة الثالث.
البرِّيَّة والتَّرحال
من خلال التجوُّل في الكتاب المقدّس ثمّ في سيرة أنطونيوس، سنستشفُّ معاني التِّرحال الروحيّة، ثمّ سنطبِّق ذلك على عالمنا المعاصر.
التِّرحال في الكتاب المقدّس
يظلُّ إبراهيم – أبو المؤمنين وأوّل من قطع الله عهدًا معه – مثلاً حيًّا للترحال، يُفيد جميعَ المؤمنين في العهدين القديم والجديد. فقد قال له الله: "انطلِقْ من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أُريك".
فأطاع إبراهيم أمر الله: "فانطلق... خرج واجتاز... ثمّ انتقل من... إلى... ثمّ رحل رحيلاً متواليًا... فنزل إلى... فصعد من... ومضى بمرحلة من... إلى...، أقام في... انتقل بخيامه وجاء فأقام..." (تك 12/ 1-13).
وعليه ، فإنّنا نجد إبراهيم رحّالاً، وإن كان "ابن خمس وسبعين سنة". ولقد اختبر الشّعب العبرانيُّ الترحال في البرِّيَّة، فما إن كان يصل إلى مكان حتّى كان يرحل إلى مكان آخر:
"رحل موسى بإسرائيل من بحر القصب وخرجوا إلى برِّيَّة شُور. فساروا فوصلوا إلى... ثمّ وصلوا إلى... فخيّموا في... ورحلوا... وصلوا إلى... ثمّ رحلت جماعة بني إسرائيل... وخيّموا في... وصلوا إلى... ورحلوا من... ووصلوا إلى... فخيّموا في..." (خر 15/ 22- 19 /2).
كانت البرِّيَّة إذًا بمثابة ترحال مُستمرّ، فما كاد الشّعب يصل إلى مكان معيّن ويُخيِّم فيه حتّى كان يرحل ثانية: "كان إذ ارتفع الغمام عن الخيمة، يرحل بنو إسرائيل وحيث حلّ الغمام، كان بنو إسرائيل يُخيِّمون. بحسب أمر الربّ..." (عد 9/ 15-22).
ولقد ظلّ اختبار الترحال هذا اختباراً روحيًا نموذجيًّا لليهود، حتّى إنّ فئة منهم وهم الريكابيُّون فضّلوا – حين وصلوا إلى أرض الميعاد واستقرُّوا فيها – أن ينصبوا الخِيَم ويعيشوا في داخلها لا في بيوت:
"لا نبني بيوتًا لنسكنها ولا يكون لنا كرم ولا حقل ولا زرع وسكنّا في الخيام" (إر 35/ 9-10 +).
وفي أثناء السّبي، اختبر اليهود مرّة أخرى الغربة في أرضٍ لم تكن أرض الميعاد، إلى أن عادوا إليها.
وأراد يسوع أن يعيش هو أيضًا الترحال كما اختبره شعبه. فقبل ميلاده، اضطرّ، يوسف ومريم الحامل إلى أن يكتتبا في مدينة بيت لحم غير مدينتهما (لو 2 /1-5)؛
وبعد ميلاده ، اضطرّا إلى أن يهربا معه إلى مصر ابتعادًا عن هيرودس، ثمّ أن يعودا إلى الناصرة (متى 2 /13-15 و19-23). وفي أثناء حياته العلنيّة، صرّح بأنْ ليس له ما يضع عليه رأسه (متى 8/ 20)، وعند تجلِّيه تكلّم مع موسى وإيليّا عن "رحيله" (لو9/ 31) وهو الرّحيل الأعظم، أي "انتقاله عن هذا العالم إلى أبيه" بلغة يوحنّا (13 /1) ... فكانت حياته كلُّها علامة للترحال. وقد دعا تلاميذَه الذين يتّبعونه إلى الاقتداء به.
واعتبر المسيحيّون الأوّلون أنفسهم "غُرباء نُزلاء في الأرض" (عب 11/ 13 ، 1 بط 2/ 11)، وذلك لعدّة أسباب، منها لأنّ الله قد اختارهم ليكونوا "قدِّيسين" – بحسب تعبير بولس خاصّة – أي مُفرَزين من بين سواهم من البشر، فهم "المختارون الغرباء" بحسب تعبير بطرس (راجع 1 بط 1/1 مثلاً)، ثمّ لأنّه – بحسب تفسير كاتب الرّسالة إلى العبرانيِّين: "ليس لنا هنا مدينة باقية وإنّما نسعى إلى مدينة المستقبل" (عب 13/ 14).
وفضلاً عن ذلك، فثمّة الاستعداد والإعداد للمجيء الثاني، بحسب تعبير بولس (فل 3/ 19-20): "نحن موطننا في السّماوات ومنها ننتظر مجيء المخلِّص الربِّ يسوع المسيح"، وذلك على خلاف الذين "هَمُّهم أمور الأرض"، بل وعلى خلاف الشّعب اليهوديّ المرتبط بأرض الميعاد، وهي رمز للارتباط بالعالم والمادّة. نُلاحظ من خلال ذلك أنّ الترحال لا ينحصر معناه في بُعده الجغرافيّ، بل يتجاوزه نحو المعنى الروحيّ.
التِّرحال في حياة أنطونيوس وفي تعليمه
تطبيقـًا لروحانيّة الترحال هذه، عاش أنطونيوس حياته الرّهبانيّة في رحيل مستمرّ، وذلك منذ أن أسمعه الرّوح القدس صوتَ المسيح داعيًا إيّاه: "اذهب..."؛ فترك قريته وسكن القبور ثمّ توغّل في البرِّيَّة والجبال، كما نتذكّره.
وما عاشه أنطونيوس فقد علّمه لتلاميذه، من منطلق خبرته الشخصيّة في هذا المضمار. ويرتكز محور تعليمه حول فكرة رئيسيّة واردة منذ كلماته الأولى: "حياة الإنسان قصيرة جدًّا إذا ما قيست بدهر الحياة الآتية بل إنّ كلّ حياتنا الأرضيّة لا تساوي شيئًا أمام تلك، كلُّ ما في العالم نُقايضه بشيء يُساويه وأمّا وعد الحياة الأبديّة فيُشترى بسعر قليل جداً. (...) فإذ نُجاهد في الأرض فإنّنا لن نرث ما عليها لأنّنا سنحصل على الوعود في السّماوات. وإذ نترك على الأرض جسدًا ميتًا فإنّنا سنحصل في السّماوات على جسد غير فاسد".
ولقد فسّر يوحنّا كاسِّيانُس هذا التصرُّف الرهبانيّ، فاعتبر أنّ الحياة الرهبانيّة ليست موتًا قبل الموت، بل تحرُّر يُمهِّد السبيل إلى التحرُّر النهائيّ ساعة الموت، حتّى لا يصبح الموت انهزامًا، بل قيامة.
معاني التِّرحال الرّوحيّة
إنّ الترحال الجغرافيّ من الأرض، من مكان إلى مكان، يرمز إلى ضرورة الترحال الروحيّ وهو يتمحور في الحياة الرهبانيّة حول ممارسة النسك: واللفظة اليونانيّة Askesis (ومنها بالفرنسية Ascèse) تعني تليين الشيء بالتمرين والتدريب؛ وكذلك العمل في مادةّ خامّة لاستخراج أفضل ما فيها. وللنسك جانبان، أوّلهما مقاومة الرذائل والسّعي لاستئصالها، وثانيهما التدريب على اكتساب فضائل؛ فأمّا الجانب الأوّل فهو سالب وأمّا الثاني فهو موجب؛ والأوّل وسيلة في سبيل الثاني وهو الهدف؛ وكلاهما وجهان لعمل (Praxis) روحيٍّ واحد. ولقد قال الأبّا آمون في هذا الصدد: "لا تُكتسب الفضيلة إلّا بالأتعاب لأنّ الأتعاب تُنقِّي القلب والذهن وتجذب النعمة الإلهيّة".
فأمّا "الأتعاب" فهي أتعاب استئصال الرذائل، وهي بالفعل "تُنقِّي القلب والذهن" من الشوائب التي تحول دون اكتساب النعمة؛ وأمّا الفضائل فهي "تجذب النعمة الإلهيّة".
سنُظهر إذًا بالتتالي وجهَي النسك هذين، فأمّا الأوّل ففي حديثنا عن الترحال، وأمّا الثاني ففي حديثنا عن الاستقرار.
ويهمُّنا إظهار مضمون التحرُّر من الرذائل، ثمّ وحدة الجسد والرّوح في الإنسان، وبعد ذلك علاقة النسك بالاستشهاد.
مضمون التحرُّر
يوحي النسك بمعنى الكفاح والجهاد، ذلك بأنّ الإنسان يُقاوم ميوله الطبيعيّة ويُحارب ميوله المنحرفة، وسببها سلطان الخطيئة عليه وضعفه البشريّ. ولنتجوّل في بعض ما مارسه آباؤنا – ولا سيّما أنطونيوس – من النسك، فنستشفّ تقشُّفاتهم: مقاومة شهوة البطن - إنّ الصوم عن الأكل ظاهرة في جميع الأديان وجميع الحضارات. وكان أنطونيوس "يأكل مرّة واحدة في النهار بعد غروب الشمس، وتارة مرّة كلّ يومين، وأحيانًا كثيرة مرّة كلّ أربعة أيّام. وكان طعامه خبزًا وملحًا وشرابه الماء وحده".
ويقترن الصوم بالصّلاة. وتظلُّ صورة يسوع الذي صلّى وصام في البرِّيَّة نموذجًا يُحتذى به. والمعروف عن آباء البرِّيَّة أنّهم قاموا بأفعال بطوليّة في هذا الشأن. فيصف أثناسيوس البرِّيَّة وصفـًا مثالياً نموذجيًّا على هذا المنوال: "تحولت الأديرة في الجبال إلى مساكن مملوءة بالأجواق الإلهيّة التي تُرتِّل وتُحبُّ كلمة الربِّ وتصوم وتُصلّي وتفرح برجاء الخيرات الآتية وتجاهد في الإحسان، والتي سادت بينها المحبّة والتآلف". وقد اعترف أثناسيوس بِـ"فضْلِ أنطونيوس في الصّلاة والنسك اللذين مكث من أجلهما في الجبل فرِحًا بمشاهدة الإلهيّات". وفي خطبة وِداعه للرهبان "كان عظيمًا في نُسكه (...) فكلّمهم وكأنّه يترك مدينة غريبة ليعود إلى مقرِّه، وأوصاهم بألّا يتماهلوا في الأتعاب ولا يكلُّوا في النسك، بل أن يعيشوا وكأنّهم يموتون في كلِّ يوم".
فإنّ مقاومة الجوع وشهوة الأكل بمثابة "موت في كلِّ يوم" يسمح للناسك بـ"مشاهدة الإلهيّات" فيُتمِّم ذلك وهو "فرِح". كما كان أنطونيوس يحثّ النساك على "حفظ أنفسهم من (...) اللذّات الجسديّة، كما كُتب في سِفر الأمثال: "لا تنخدعوا بشبع البطن" (24 /15). وللصيام معانٍ روحيّة متعدّدة، نذكر منها أبعادًا ثلاثة:
+ فالصيام قوّة تحرُّريّة من شهوات الجسد والحاجة إلى الامتلاك والرغبة في تحقيق المُيول تحقيقـًا فوريًا...، فيتعلّم الإنسان ضبط النفس والتجرُّد والصبر...
+ والصيام تحوُّل ونموٌّ في الرّغبات الرّوحيّة الحقيقيّة: فمن الخبز الجسديِّ إلى الخبز "الجوهريّ" (متى 6/ 11) و"السّماويّ" (يو6/ 22ت)، ومن الخبز الأرضيِّ إلى "كلِّ كلمة تخرج من فم الله" (متى 4/4)؛ ومن الميل إلى تحقيق الإرادة الشخصيّة، إلى الرّغبة في إتمام مشيئة الله ورسالته – فهي الطعام الحقيقيُّ (يو 4/ 34) – وإلى الرّغبة في نيل الرّوح القدس، فهو العطش الحقيقيُّ (يو 4/ 13-14 و 17/ 38-39). ولذلك فقد قال الربّ: "أوسِعْ فمك لأملأه" (مز81/ 11).
+ والصيام قوّة تضامن مع الفقراء – الجائعين والعِطاش والباكين ... فالاشتراك معهم في التطويبات (لو6/ 20 -21) ولا سيّما التطويبات الروحيّة من فقر روحيٍّ وجوع وعطش إلى البرّ (متى 5/ 3 ت). وبما أنّ الله هو المُعطي ومنبع جميع الخيرات، فالإنسان لا يمتلكها لنفسه ولا يعتبرها "غنيمة" له (فل 2/ 6)، بل يُشرك المحتاجين في ما يمنحه الله من خيرات.
مقاومة النوم
ولا يقتصر النسك على الصيامات، بل يتضمّن مقاومة النعاس أيضًا، المرتبط هو الآخر بالصّلاة طبقـًا لوصيّة الربّ يسوع لتلاميذه في بستان الزيتون: "إسهروا وصلّوا لئلّا تقعوا في التجربة فالرّوح مندفع وأمّا الجسد فضعيف" (متى 26/ 41).
فكثيرون استمعوا إلى صوت الله في الليل، مِثل صموئيل الصبيّ (1صم 3/ 1-18). ولذلك اعتاد رهبان البرِّيَّة أن ينهضوا ليلاً للصّلاة. وهكذا يصف أثناسيوس أنطونيوس: "كثيرًا ما كان يقضي الليل ساهرًا، ولم يفعل هذا مرّة واحدة، بل مرّات كثيرة".
مقاومة الرفاهيّة
ومن مظاهر التقشُّفات، النوم على الأرض (باليونانية chamoeonia)، حتّى لا ينغمس الجسد والحواسّ في الملذّات الطبيعيّة).
وهكذا يصف أثناسيوس أنطونيوس:
"كان يكتفي بِبِساط للنوم، وفي أغلب الأحيان كان ينام على الأرض. كما توقّف عن مسح نفسه بالزيت، قائلاً إنّه ينبغي للنسّاك الجدد أن يرغبوا في ممارسة التقشُّف، غير مُستخدمين كلّ ما يجعل الجسد متكاسلاً، لكي يعتاد القسوة".
فقد توصّل أنطونيوس إلى أنّ حاجات جسده لا تغلب تطلُّعات نفسه:
"عاد أنطونيوس ليمارس النسك وحده في ديره، ويكثِّف رياضته الروحيّة، ويتنهّد يوميًّا، ويتذكّر الأمور السماويّة، مُتشوِّقـًا إليها ومُتأمِّلاً في قِصر حياة الإنسان. وعندما كان يُزمع بالأكل أو النوم أو قضاء سائر الحاجات الجسديّة، كان الخجل يعتريه لأنّه كان يفكِّر في روحانيّة النفس. وعندما كان يأكل مع سائر الرّهبان، كان يتذكّر الطعام الروحيّ فيتنحّى عن موضعه، لأنّه كان يخال إليه أنّه سيحمرُّ خجلاً إذا ما رآه الآخرون وهو يأكل. ولكن عندما كان وحيدًا، كان يأكل بسبب حاجة الجسد. فكثيرًا ما أكل مع الإخوة وهو خجِل، ولكنّه كان يتعزّى لأنّه كان يتكلّم كلامًا نافعًا. فكان يقول إنّه يجب أن نُخصِّص وقتًا للنفس أكثر منه للجسد، وأن نسمح بوقت قصير للجسد بسبب حاجته، ويجب أن نخصِّص كلّ الباقي للنفس وأن نطلب منفعتها لكي لا تنحرف بلذائذ الجسد، بل يخضع الجسد للنفس".
وسنعود في ما بعد إلى علاقة الجسد بالرّوح. وحسبنا هنا أن نشير إلى أنّ اللّغة اليونانيّة خصّصت كلمة NEPSIS (نِييْسِيسْ) للتعبير عن عدم رفاهيّة الجسد، بدافع روحيّ.
مقاومة الأفكار الشرِّيرة
نتذكّر كيف أنّ الشرِّير كان يُجرِّب أنطونيوس، فيُثير فيه "الأفكار القبيحة"؛ وإنّنا نفهم من سياق النصّ أنّ أثناسيوس كان يقصد الأفكار الجنسيّة التي قاومها أنطونيوس بالإرادة وبالصّلاة. ولذلك نجده "يحثُّ النسّاك الذين يزورونه على (...) حفظ أنفسهم من الأفكار الشرِّيرة".
فكان تعليمه نابعًا حقًّا من خبرة شخصيّة وجِهاد دؤوب. وفي سبيل مساعدتهم على ذلك نصحهم قائلاً:
"كما أنّنا لا نرتكب الفحشاء عندما ينظر بعضنا إلى بعض، هكذا لِنُدوِّنْ أفكارنا الشرِّيرة وكأنّنا نُعلنها للآخرين. فإنّنا لن نُفكِّر في الشرور على الإطلاق، خجلاً من أن تُصبح مُدوَّنة. (...) إذا روّضنا أنفسنا على هذا الأسلوب، نقدر أن نُخضع الجسد للربّ وأن ندرس حِيَل العدوّ". وللآباء الشيوخ عبارة مأثورة في هذا الصدد، وهي "مراقبة الأفكار"؛ والمقصود بها "غربلتُها" حتّى لا تسيطر على الإنسان. وذلك قد توارثته الأجيال الرّهبانية بأسرها.
وإنّ ذِكر اسم يسوع دواء فعّال عندما تأتي هذه الأفكار الشرِّيرة وتُسيطر على الإنسان؛ فكما كانت تُطرَد الشياطين باسم يسوع المسيح، كذلك فإنّ الأفكار القبيحة تُطرد باسمه.
وذلك لا يمنع مجهود الإنسان في مقاومة الأفكار هذه لأنّ الله يعمل مع الإنسان ويُطالب الإنسان بأن يقوم بدوره. ومن بين السبل المساعِدة لمقاومة الأفكار، فحص الضمير- بلغتنا المعاصرة - حيث النظر إلى الذات وإلى الأفعال والأفكار والأقوال والمشاعر الشخصيّة نظرةَ الله نفسه الذي يدين، لا الخاطئ الضعيف، بل الخطيئة الكامنة فيه أو المُتسلِّطة عليه. ومن "أقوال" الآباء المشهورة بشأن تعاون الإنسان مع الله، هذا القول: "أعطِ دمًا وخُذ روحًا".
مقاومة الضجر
إنّ الضجر ظاهرة في حياة البرِّيَّة، وقد اختبره أنطونيوس نفسه: "فيما كان أبّا أنطونيوس ساكنًا في البرِّيَّة، انتابه الملل والضجر والأفكار القاتمة، فقال لله: "يا ربّ، أُريد أن أخلص ولكنّ الأفكار لا تتركني، فما العمل في ضيقي؟ كيف أخلص؟". وبعد قليل قام ليخرج، فرأى رجلاً مِثله، جالسًا يعمل في ضفر الحبال، ثمّ ينهض من عمله ليصلّي. ثمّ يعود ويضفر ثانية، ثمّ يعود للصّلاة. وكان هذا ملاك الربّ، قد أرسله لإرشاده ووقايته. ثمّ سمع أنطونيوس الملاك يقول: "إعمل هكذا تخلـُص". فلمّا سمع هذا الكلام، فرح جدًّا وتشجّع وعمل بما سمع فخلـُصَ".
إنّ الضجر (باليونانيّة ACEDIA) اختبار يختبره البشر بعامّة والرّهبان بخاصّة ولا سيّما رهبان البرِّيَّة والجبال، بسبب رتابة حياتهم وتكرار صلواتهم وأفعالهم ومعاملاتهم اليوميّة. وإنّ هذا الضجر هو حالة ملل ولامبالاة وتشتّت الفكر وجفاف وكسل، ففقدان الشجاعة، والرّغبة في تغيير المكان بحثًا عن السعادة... وهذه الحالة تتضخّم بقدر ما يشعرون بها في جميع أفعالهم وتصرُّفاتهم، وعلاقاتهم، وفي صلاتهم وجهادهم، وفي إيمانهم وأفكارهم... ويُسمِّيه الكتاب المقدّس "شيطان الظهيرة" (مز 91 /6).
فما معنى رمزيّة الظهيرة؟ إنّه يتعارض ورمزيّة الليل، ذلك بأنّ الليل، في الكتاب المقدّس، هو وقت الصّمت فالنهوض من النوم لتسبيح الله، وللعودة إلى عمق الذات بغية اكتشاف مرجعها الأخير وهو الله تعالى؛ ولذلك يذكر المزمور عينه "السُّكنى في ظلّ القدير"؛ وبالرّغم من سواد الليل، فكلّ شيء واضح، وضوح العلاقة الأصيلة بالله، ومن ثمّ ديمومة هذه العلاقة.
وأمّا الظهر، فهو وقت الشرّير الذي يتزيّا بزيّ الله، إذ إنّه يوهم الإنسان بأنّه في وضوحٍ مع نفسه ومع الله ومع الآخرين، بيد أنّه يُضلِّله فعلاً بحِيَله الكاذبة، إذ يُغريه بإغراءات الخروج من صمت الصّلاة للحديث إلى الآخرين – ويسمّيه آباء البرِّيَّة: الثرثرة -، أو بتغيير العمل والنشاط، بل ونمط الحياة أو بقراءة حياته الماضية أو المستقبليّة قراءة هي الأُخرى مزيّفة...؛ وبقصير العبارة، يُوهم الشيطان الإنسان بأنّ سعادته ليست هنا والآن، بل في مكان آخر ووقت آخر؛ وذلك كلّه إذ إنّ الشيطان يأتي من بعيد ثمّ يعود إلى مأواه، لأنّ سُكناه ليست في أماكن الصّلاة، فجميع ما يفعله ويوحي به ما هو إلّا عابر، على نقيض ديمومة الحياة مع الله التي تدفع إلى الأمانة للواقع، من دون الهروب منه، إلى الأمانة للمكان الحاضر وللزمان الحاضر.
ولشدّة هذا الاختبار الإنسانيّ، صاح أنطونيوس: "كيف أخلص؟". وأجابه الملاك أنّ الخلاص يكمن في المواظبة على الصّلاة والعمل، وهما ركيزتان أساسيّتان في حياة كلِّ إنسان ولا سيّما الرّاهب.
وحدة الجسد والرّوح
ولقد كانت نظرة القُدامى إلى الإنسان نظرة واقعيّة روحيّة أو قُل روحيّة واقعيّة، اقتناعًا منهم بأنّه يُمثِّل وحدة – بتعبيرنا المعاصر – وحدة الجسد والرّوح، ووحدة الحواسّ والنفس، ووحدة المؤثِّرات الخارجيِّة والداخليّة... فالإنسان وحدة لا تتجزّأ ولكلِّ بُعد من أبعاده الجسديّة والنفسيّة والروحيّة، والتربويّة والاجتماعيّة والحضاريّة... تأثير مُباشر في سائر مقوِّمات شخصيّته. ولذلك، فإنّهم أوْلوا أهمِّيَّة للحياة النسكيّة من مُنطلق اقتناعهم بوحدة الشخص هذه.
وفي ما نحن بصدده، فلا تقدُّم في الفضائل بدون استئصال الرذائل، بل ومقاومة الميول الطبيعيّة ومحاربة الميول المنحرفة. فبسبب الخطيئة الكامنة في الإنسان، والمُسيطرة عليه أحيانًا، أصبح في داخله نزاع بين ما يُريده الجسد وما يُريده الرّوح: "بقدر ما الجسد نضر، فالنفس واهنة وبقدر ما الجسد واهن، فالنفس نضرة" (الأبّا دانيال).
وذلك لأنّ شهوات الجسد يُمكنها أن تستيقظ في أيِّ وقت فتُسيطر على الإنسان؛ فعلى الرّوح أن يُروِّض الجسد والنفس ترويضًا مُستمرًا، بل وأن "يُروْحِنهما" ليحرِّرهما من الرذائل ومن الميول المنحرفة؛ فيعيش هكذا إنسانًا روحيًّا ينظر نظرة روحيّة إلى المادّة ويتعامل معها معاملة روحيّة متحرِّرة. فليس النسك إذلالاً للجسد أو قمعًا لميول النفس، بل هو ضبط للجسد والنفس في سبيل انطلاق الرّوح. إنّ النسك استرجاع التناغم والتناسق، بل والوحدة بين مُقوِّمات الشّخص، بين جسده ونفسه وروحه.
ولقد قال أقليمنضُس الإسكندريّ في هذا الصدّد: "الحرِّيَّة هي أن نضبط شهواتنا". وأمّا يوحنّا السلّميُّ، فيقول في الرّاهب: "هو ذاك الذي يُجاهد في جسده الترابيِّ ليبلغ رُتبة حالة الكائنات غير الجسديّة (...) يضبط طبيعته تمامًا ويلاحظ حواسّه على الدوام". وتقول الأمّ سَنْكِلِتيكا: "لنكن مُتيقِّظين لأنّه بحواسّنا يدخل اللصوص حتّى إن لم نُرد ذلك. فكيف لا يسودُّ المنزل بفعل دخان يُوجَّه إليه من الخارج، إن كانت النوافذ مفتوحة؟".
النسك امتداد للاستشهاد
وإذ ألقينا نظرة شاملة على هذا الجانب السّالب من النسك – من مقاومة الميول المنحرفة ومحاربة الرذائل – رأيناه امتداداً للاستشهاد. فعندما عاد أنطونيوس إلى الإسكندريّة لمساعدة المسيحيِّين في أثناء اضطهاد مكسيميانُس، "كان يحدو به شوق إلى الاستشهاد. (...) وكان يُصلّي لكي يستشهد. (...) وكان يبدو حزينًا لأنّه لم يستشهد". فعاد إلى البرِّيَّة لممارسة حياة النسك؛ ولذلك فقد أردف أثناسيوس قائلاً: "حفظه الربُّ من أجل منفعتنا ومنفعة الآخرين، حتّى يكون مُعلِّمًا في النسك الذي قَبِله من الكتاب المقدّس. وعندما رأى الكثيرون أُسلوبَ حياته، أظهروا رغبة في أن يقتدوا به".
نستشفُّ من خلال هذا القول إنّ الحياة النسكيّة كانت حقـًا امتدادًا للاستشهاد. فإن شُبِّه الاستشهاد بـ"الخيط القرمزيّ"، فإنّ الحياة الرهبانيّة بعامّة والحياة النسكيّة بخاصّة هي بمثابة "الخيط الذهبيّ". وهدفهما واحد وهو مُطلقيّة الله، وإن اختلفت وسائلهما: من جهّة إراقة الدّم، ومن جهّة أُخرى الموت اليوميّ: "نُسلـَم في كلِّ حين إلى الموت من أجل يسوع" (2 قور 4/ 11 ، راجع روم 8/ 36).
ويعود هذا المنطق إلى ما قبل انتشار الحياة الرهبانيّة. فنجد إقليمنضُس الإسكندريّ، على سبيل المثال، يعتبر أنّ الاستشهاد لا يعني تضحية الحياة فحسب، بل أيضًا فعل حبٍّ كامل يشهد له. فيُمكن المؤمن أن يكون "شهيدًا" بحفظ وصايا الله طيلة حياته وبممارسة حياة كاملة؛ فذلك لا يقلُّ قيمةً لدى الله عن الاستشهاد بالدّم.
ويرى أوريجانيس من جهّته أنّ الاستشهاد يفوق بذل الحياة لأجل الحقّ، فهو موقف تجرُّد ممّا هو أرضيّ، وهذا هو الاستشهاد النسكيُّ اليوميّ.
فلا شكّ أنّ هذه الرّوح تغلغلت في قناعات الرّهبان والنسّاك، فأصبحوا ينظرون إلى الحياة الرّهبانيّة كامتداد للاستشهاد بالدّم.
معاني التَّرحال المُعاصرة
كيف يُمكن رهبانيّات اليوم أن تحيا ديناميّة خبرة أنطونيوس النسكيّة ولا سيّما في ما يتعلّق بالترحال؟
يمكننا فهم الترحال في الحياة الرّهبانيّة المعاصرة فهمًا روحيًّا أكثر منه مكانيًّا، ولا سيّما في الرّهبانيّات التي تخدم في المجتمع، ذلك بأنّ خدمة المجتمع تتطلّب شيئاً من الاستقرار المكانيِّ – في أديرة ومؤسّسات ثابتة – يتنافى لأوّل وهلة والترحال؛ إنّه يتنافى بالفعل والترحال المكانيّ ولكن لا والترحال الروحيّ.
فالترحال الروحيّ هو روح الرّاهب الاستعداديّة والتأهُبيّة في أن يترك أهله وأصدقاءه ووطنه، وفي أن يترك خدمةً يقوم بها وعلاقات يُشيِّدها وأشخاصًا يهتمُّ بهم...، إن طالبتْه الطاعةُ بذلك. فالإنسان عامّة يتعلّق بعمله وشبكة علاقاته، بعالمه، الجغرافيّ والاجتماعيّ... وأمّا الرّاهب، فبموجب "الحركيّة الروحيّة"، فإنّه مدعوٌّ إلى الحرِّيَّة الداخليّة تجاه ذلك كلِّه، فيكون مُستعدا لتركه إذا اقتضاه أمرُ الطاعة. فهذا ما نقصده بالترحال الروحيّ.
وأمّا التقشُّفات الجسديّة – في الأكل والنوم والرّفاهيّة... – فهي ملائمة لعصرنا، ولا مناصَ منها لمقاومة الرذائل ومحاربة الميول المنحرفة، وللتحرُّر من كلِّ ما ليس هو الله والملكوت، كما قال كاسِّيانُ ناقلاً خبرة الشّرق إلى الغرب. غير أنّ الاختلاف بين الرّهبانيّات المُتعبِّدة في البرِّيَّة والرهبانيّات، الخادمة في المجتمع، يكمن – بشأن التقشُّفات في درجة ممارستها وشدّتها، لأنّ طبيعة العيش في البرِّيَّة يختلف عنها في المجتمعات البشريّة، ولأنّ مُتطلِّبات الخدمة في وسط البشر تختلف عنها في عُزلة الصّلاة والعمل. كما أنّ الالتزام المهنيّ والإجتماعيّ والعلاقاتيّ يفرض قُيودًا فتقشُّفات خاصّة بهذا الوضع، وهي مختلفة بالتالي عن قيود الالتزام في داخل أسوار دير مُحصّن. فلكلِّ نمط حياتيٍّ تقشُّفاتُه الملائمة، بل ونداءٌ للتحرُّر والتجرُّد ممّا يعوق جوهر الحياة الرهبانيّة، ألا وهو الاتِّباع / التتلمذ لشخص يسوع المسيح.
الخاتمة
انتقلنا من الترحال المكانيِّ إلى الترحال الروحيّ. ففي حياة كلِّ مؤمن بعامّة وكلِّ راهب بخاصّة مرحلةٌ ليحيا فيها الترحال مكانيًّا. فإذا نظرنا إلى حياة العلمانيِّ في زماننا الحاضر وفي ظروفنا المعاصرة، وجدناها تتميَّز بالتنقُّلات والحركيّة والتغيير...، سواء في السّكن أو في العمل أو في العلاقات...؛ وهذه سِمة من سِمات حضارتنا، على خلاف الماضي حيث الثبات والاستقرار وعدم التغيير... فإنّ ذلك الترحال المادِّيّ المكانيّ تمهيدٌ وإعداد للترحال الروحيّ، أي الرّوح الاستعداديّة أو الرّوح التأهُّبيّة للتغيير الشخصيّ، وهذا ما يُطلق عليه الكتاب المقدّس صفة METANOIA، أي "تغيير الفكر" بحسب العقليّة اليونانيّة، و"تغيير القلب" بحسب العقليّة اليهوديّة، و"تغيير الحياة" بحسب العقليّة المعاصرة.
فالترحال الروحيُّ مرادف للتغيير بموجب متطلِّبات اتِّباع يسوع المسيح والتتلمذ له، فالتحرُّر من الميل المنحرف إلى المادِّيّات والجسديّات، إلى الأمور الزمنيّة والاهتمامات الأرضيّة... إذا استخدمها الإنسان، فلا يكون عبدًا لها، بل حرّاً تجاهها، عاملًا بوصيّة بولس الذي أوضح دافع التحرُّر: "إنّ الزمان يتقاصر. فمنذ الآن ليكن (...) الذين يستفيدون من هذا العالم كأنّهم لا يستفيدون حقـًّا لأنّ صورة هذا العالم في زوال" (1 قور 7/ 29- 31).
في نهاية الأمر، فإنّ ما يُبرِّر الترحال هو تقاصر الزمن وزوال العالم، لا لأنّهما شرٌّ أو لأنّهما باطلان، بل لأنّ دورهما هو أن يكونا وسيلة وطريقـًا لإعداد مجيء المسيح، مجيئه الثاني المجيد. فأمّا الرّهبان فأنّهم، بترحالهم المكانيِّ والرّوحيّ، يُذكِّرون سائر المؤمنين بهذه الحقيقة المسيحيّة التي قد يتناسوها بالرّغم من أنّها دافع الحياة المسيحيّة ومُبتغى التاريخ البشريّ.
وإذا حاولنا أن نجد أسلوبًا يناسب العلمانيِّين، رأينا أنّ استقرارهم العائليّ الضروريّ لا يتنافى على الإطلاق مع فتح باب بيتهم، بل وباب قلبهم للناس، وإن نجَم عن ذلك تضحية بشيء من حميميّة حياتهم الأسريّة المستقرّة. وكذلك الأمر في ما يتعلّق بالخِدمة التي يُمكنهم أن يقوموا بها – أيًّا كانت نوعيّتُها وإيقاعها – علامةَ عدم انغلاقهم على ذواتهم وعلى استقرار حياتهم.
الأب فاضل سيداروس اليسوعي
من كتاب "معنى البرّيّة لزماننا الحاضر".