إذا كانت الحياة الرهبانيّة هي "في العالم" فهي حضور للبشر. وهذا ما عاشه أنطونيوس فعلاً. فبعد انفصاله عنهم، لم يعودوا له حاجزًا يحول دون اتّحاده بالله، ذلك لأنّه سبق له أن تحرّر منهم، ممّا أدخله في علاقة جديدة بهم لم تَعُد تُعرقل علاقته بالله. فإذ كان الزّوار يتهافتون إليه، والتلاميذ يأتون إليه، فإنّه لم يهرب منهم، بل كان يستقبلهم ويُفيدهم، كما سنراه؛ وإذ اشتدّت الاضطهادات عن يد الإمبراطور مكسيمانُس ثمّ احتدّت هرطقة الأريوسيِّين، فإنّه واجهها فترك عُزلته وتوجّه إلى الإسكندريّة، وقـد أصبحت هذه المدينة وكرَ الشرِّير.
فحضوره لعالم البشر لم يَعُد يفصله عن لقاء الله، بعد مسيرة روحيّة وتحرُّريّة ونسكيّة وانفصاليّة؛ كما أن توحّده في البرِّيَّة لم يفصله عن البشر. ويقول أثناسيوس في هـذا الصدّد. "أمّا معجزة أنطونيوس، وهو مُقيم في الجبل فهي أنّه كان يقظَ القلب (تجاه الناس) وكان الله يُظهر له ما يَحدث (للناس) بعيدًا عنهم". ويجدر بنا أن نُبرز بعض مظاهر حضور أنطونيوس هذا، وقد أصبحت في ما بعد من صميم حضور الرّهبان لعالم البشر.
وينبغي لنا، بادئ ذي بدء، أن نُقرّ أنّ التقليد الرّهبانيّ الشرقيّ يعتبر الرّاهب مملوءًا من الرّوح القُدس. فقد قيل في يوحنّا القصير مثلاً: "كان نار الرّوح القدس يلتهمه". وفي القرن العشرين، اشتهر في الحياة الرهبانيّة الروسيّة ساروفيم الساروقيّ الذي كان يخرج من صومعة الصّلاة ووجهه يُشع شعاع نار الرّوح القدس.
وإن تفوَّه الرّاهب الممتلىء من الرّوح القدس بـ"كلمات" (REMATA) روحيّة وقام بأفعال "قوّة" (DUNAMIS)، فمصدرها هو الرّوح القدس الذي يهبه "مواهبَ روحيّة" (CHARISMATA) من أجل "بُنيان" (OIKODOMEN) جسد المسيح الحيّ، كما يقول بولس الرّسول (1قور12 و14).
فلنقتفِ أثر ذلك في سيرة أنطونيوس وغيره من الرّهبان. موهبة الصّلاة والإيمان تستدعي صلاة أنطونيوس دراسة مُتعمِّق فيها، بسبب تواترها في سيرة حياته، وقد صمّم أثناسيوس على إبرازها. وممّا لا شكّ فيه أنّ صلاته لم تنحصر في قراءة الكتاب المقدّس وتلاوة المزامير والصلوات، بل كانت صلاةً من أجل الكنيسة والبشر؛ فكثيراً ما نقرأ في سيرته مِثل هذه العبارات: "مُشاركاً إيّاهم في آلامهم، ومُصليًّا معهم" (عدد 56). "صعد رجل إلى الجبل ورجا أنطونيوس أن يُصلِّي من أجله. فصلّى له". "طلب (أرخلاوس) منه أن يُصلِّي من أجل بولِيكْترا العذراء(...) فصلّى أنطونيوس من أجلها". طلب الرّهبان منه الصّعود إلى السّفينة للصّلاة معهم.
أحضَروا إلى أنطونيوس رجلاً من مشاهير الرّجال قد دخل به شيطان مُرعب جدًّا) وطلبوا منه أنّ يصلِّي من أجله. فسهر أنطونيوس معه طوال الليل، لأنّه أشفق عليه"... فإنّ صلاته هذه هي من علامات حضوره للبشر وتشفُّعه من أجلهم. وأنّ إيمانه بأنّ الله سيستجيب لصلاته موهبةٌ من مواهب الرّوح القدس لكي يبني الآخرين بإيمانه القـويّ (1 قور 12/ 9 و13/ 22). وما يسرده أثناسيوس من طلب الناس الصلاةَ من أنطونيوس لأجلهم يسمح لنا بأن نُقرّ أنَّ صلاته الاعتياديّة اتّسمت بالحضور والشفاعة حتّى وإن لم يطلب منه الناس أن يُصلِّي معهم أو من أجلهم؛ ولا نستغرب ذلك، نظرًا إلى أنّه كرّس حياته للصلاة. ونورد مثلاً معاصرًا لشفاعة الرّهبان من أجل البشر. فيقول الأب متّى المسكين، وهو من مُصلحي الحياة الرّهبانيّة في مصر ومن مُجدِّديها المعاصرين: "لا يترك الرّاهب العالم، بالرّغم من المظاهر، بل إنّه يجذب العالم إلى الله. ففي خروجه من العالم، لا يعتزل العالم، بل يعتزل نفسه، حتّى يستطيع أن يحمل العالم إلى الله".
مواهب "القوّة"
لقد سبق أن ذكرنا موهبة الشفاءات الكثيرة التي تمّت عن يد أنطونيوس باسم الربِّ يسوع. وهي من مواهب الرّوح القدس. ومن مواهب القوّة، وهبه الرّوح موهبة تمييز الأرواح، فقد ميّز ذات مرّة وجود "الأرواح النجسة" من خلال "رائحة نتنة جدًا"، فقهرها بكلمة قوّة، وقد تميّز أنطونيوس بموهبة إخراج الشّياطين. فيروي لنا أثناسيوس كيف كان أنطونيوس يُعنِّف الشيطان ويأمره بالخروج ممَّن كان يمسُّهم، وذلك "باسم ربِّنا يسوع المسيح" وبموهبة الرّوح القدس، فضلاً عن التقدُّم في الحياة الروحيّة – من صلاة ونُسك – الذي يُضعف الشياطين. والحقُّ يُقال إنّ الرّوح القدس يستخدم اليوم العديد من الرّهبان – على غرار أنطونيوس – لإجراء شفاءات ومُعجزات من أجل بُنيان جسد المسيح.
مواهب "الكلمة"
ويروي لنا أثناسيوس الكثير من الأمثلة حيث كان الله يُعلن لأنطونيوس في الصّلاة عن أمور مُستقبليّة مِثل قدوم زوّار إلى الدير، وعن أمور تحدث في الحاضر مِثل احتياج راهب في البرِّيَّة إلى ماء وموت آخر عطشًا؛ فكان الرّوح القدس يهبه هكذا موهبة النبوءة وموهبة المعرفة. وكان أنطونيوس، أمام تعجُّب الناس، "يرجوهم ألّا يعجبوا به، بل بالربِّ الذي يُعطي قوّة المعرفة".
ويقول أثناسيوس في هذا الصدّد: "كانت العناية الإلهيّة تُعلن له في الصّلاة الأمور التي يتساءل فيها ويطلب معرفتها. فأصبح الإنسانَ المُطوَّبَ الذي يُعلِّمه الله".
ومن بين مواهب الكلمة، موهبةُ الحكمة، فلمّا ازدهرت الحياة الرّهبانيّة وكَثُر عدد الرّهبان الجدد، وهب الرّوح للشيوخ موهبةً جعلتهم يتفوّهون بـ"كلمة حياة" لتلاميذهم الذين كانوا يُطالبونهم بها "أبّا، قُل لي كلمة حياة" فإنّ "أقوال آباء البرِّيَّة" مليئة بمِثل هذه الطلبات وبجواب الشيوخ. وليس من باب الصدفة أن يكون عنوان ما كُتب في آباء البرِّيِّة "أقوالهم" (apophtegmata) أكثر منه "سِيَرهم"، لما تتضمّنه أقوالهم من حكمة وهبها لهم الروح القدس لكي يُرشدوا تلاميذهم.
فالكلمة التي يُلهم الرّوحُ الشيخَ بها كلمةٌ بسيطة، قصيرة، مُحيِية، مُناسبة لما يحتاج إليه التلميذ، فتملأه فرحًا ونورًا وتعزية؛ وهي كالبذرة التي يبذرها الزارع، فتنمو وتزدهر؛ وذلك لأنّ الرّوح الذي يُلهم الشيخَ بها هو نفسه الذي يجعل التلميذَ يتقبّلها ويتذكّرها في الوقت المناسب ويعمل بموجبها، كما سبق أن جعله يطلبها من الشيخ.
وهذا ما يُفضي بنا إلى الحديث عن موهبة الإرشاد الروحيّ والأبوَّة الروحيّة.
موهبة الأبوّة الروحيّة والإرشاد الروحيّ
يبدو أنّ بولس البسيط هو أوّل مَن أطلق على أنطونيوس لقب "أبّا" فقد تركه أنطونيوس ينتظر على باب الدير أربعة أيّام، ثمّ قال له: "أتُريد أن نأكل كِسرة من الخبز؟، فأجابه بولس: "كما تريد، أبا".
وعندما سأله أنطونيوس يومًا من الأيّام رأيه في أن يذهب هو أنطونيوس – إلى القسطنطينيّة تلبيةً لدعوة الإمبراطور، أجابه بولس: "إن ذهبت إليها، دعوك: أنطونيوس، وإن لم تذهب إليها: أبّا أنطونيوس" فعلى ما يبدو، لم تكن تسمية المُرشد الرّوحيّ "أبّا" أمرًا مألوفًا في خارج مصر؛ وأمّا في مصر، فكان "كُلُّ واحد (من الرّهبان) يُريد أن يكون (أنطونيوس) أباه" (أثناسيوس). فقبْلَ حياة البرِّيَّة، كان لقب "أبّا" خاصًا بالأساقفة فقط ؛ وعندما نشأت حياة البرِّيَّة، امتدّ اللقب إلى النسّاك الشيوخ الذين كانوا يمارسون أبوَّة روحيّة تجاه النسّاك الجدد؛ فكانت علاقة أب / ابنه أو مُعلّم / تلميذه.
في سِفر أعمال الرّسل حادثُ خازن ملكة الحبش الذي كان يقرأ نُبوءة أشعيا الخاصّة بالمسيح، من دون أن يفهم ما يقرأ، حتّى أرسل إليه الرّوح القدس الشمّاس فيليبُّس ليسأله: "هل تفهم ما تقراء؟ فأجابه الخازن: "كيف لي ذلك إن لم يُرشدني أحد؟". (8/ 30-31) فلقد أثّر هذا الحادث – بوعي أو بغير وعي – في أجيال الرّهبان لاختيارهم مُرشدًا يـُـقدِّم لهم يدَ العون في صعاب حياتهم الرّهبانيّة، ويُساعدهم على النموِّ فيها.
ولا تستأثر المسيحيّة بذلك، فإنّ الفيلسوف اليونانيّ سُقراط كان يحثُّ على ذلك، ويعتبر أنّ مَن يُفضي بأمر نفسه إلى شخص، يقوم بعمل هامٍّ للغاية. كما أنّنا نقرأ لدى المتصوِّف ابن عربيّ هذا القول المأثور: "مَن لا شيخ له، فإنّ شيخه الشيطان". فإنّ التقليد المسيحيّ بعامّة والرّهبانيّ بخاصّة أوْلى الإرْشادَ الروحيّ بالغ الأهمِّيَّة.
فيقول بالاديوس في هذا الصدّد، مُلخِّصًا التقليد الشرقيّ: "إنّ الذين هم بلا مرشد يسقطون كأوراق الشجر". وفي التقليد الغربيّ، تُؤكِّد تيريزا الآبليّة (1515- 1582) أنّه ينبغي البحث عن مُرشد صالح من بين الألف؛ ويُعدِّل فرنسيس دي سال (1567- 1622) ذلك، فيقول إنّه ينبغي البحث عنه من بين عشرة آلاف.
فما مضمون الإرشاد؟
* مضمون الإرشاد
كان التلميذ يأتي إلى مُعلِّمه ويطلب منه: "أبّا، قُل لي كلمة"، كلمة خلاص وكلمة حياة، بقدر ما كلام يسوع هو "روح وحياة" (يو 6/ 63). فعندما يتفوّه المعلِّم بكلمة فإنّ "الروح" القدس يملأه، وبالتالي ينطق المعلِّم بكلمة "حياة" لتلميذه؛ والكلمات البشريّة تحمل في طيّاتها حياة الله، بإلهام الرّوح القدس وقوّته. ولذلك قال هيرونيمُس (347- 420) في شأن الآباء الروحيِّين: "إنّهم يُدعَون آباء لأنّ الرّوح القدس يتكلّم فيهم". وإنّ موهبة الكلام هذه يتميز بها، لا الشيوخ فقط، بل الشبّان أيضًا. فلمَّا أطلق يِيمن على أغاثون الشابِّ لقب "أبّا"، فتعجَّب مُستمعوه، فسَّر يِيمن تسميته هذه فقال: "إنّ فمه يجعل (الناس) يدعونه أبّا".
ويقول مُرشد آخر: "إنّ نظرتي إلى الآخر تُبدِّله وتُعيد خلقه" (جان قِرنيت).
وبالتالي، فإنّه يشهد بما يصنع إليه الربُّ وبما يمنحه من حرِّيَّة بنويّة ونموٍّ روحيّ. ويُبرز لنا التقليد الرّهبانيّ الشرقيُّ رغبة التلاميذ في أن يروا مُعلِّمهم، انطلاقـًا ممّا قال أحد التلاميذ لأنطونيوس، ذلك التلميذ الذي صمت ولم يُوجِّه لأنطونيوس سؤالاً: "يكفيني أن أراك". فحسْبُ التلميذ أن يرى مُعلِّمَه وأن يقيم معه وأن يتنعّم بحضوره، شأنه شأن يوحنّا الحبيب الذي سمع ورأى وتأمّل ولمس يسوعَ المُعلِّمَ و"كلمةَ الحياة" (1يو1/ 1ت، يو1/ 4).
في سبيل أن يجني التلميذ فائدة وثمرة من حياة مُعلِّمه وكلامه وصمته ورويّته، عليه أن يتحلّى ببعض الصفات الروحيّة نذكر منها:
لقد أوصى أنطونيوس الرّهبان في خُطبته الشهيرة: "يا أولادي، أحملوا إلى أبيكم ما تعرفونه". فمَن أخفى على مُرشده ما يدور في قلبه من أفكار وتجارب وتطلُّعات...، أفسد علاقته وحرّم على نفسه أيّة فائدة من الإرشاد. والحقّ يُقال إنّ هذا الموقف مبنيٌّ أساسًا على نظرة إيمانيّة أكثر منه على نظرة تعاطف مع المرشد التي قد تأتي في مرحلة لاحقة. ثمّ إنّه ينبني تدريجًا مع مرور الوقت، فتزداد الثقة المتبادلة بين الطرفين.
إنّ التلميذ، حين يأتي إلى مرشده بكلِّ ثقة وإيمان، وبروح تسليم واعتراف بأنّ كلامَه كلامُ الله له، يتركه مُصمِّمًا أن يُطيع ما قاله له، وذلك بكلِّ تواضع وخضوع وبروح الطاعة البنويّة. وثمّة قول آبائيٌّ مأثور بشأن عدم الطاعة: "أتى بعض الإخوة إلى الأبّا فيليكْس، ومعهم رجل من العالم، وترجّوه أن يقول لهم كلمة. ولمّا ترجّوه طويلاً، قال لهم:
"أتريدون أن تسمعوا كلمة؟. فأجابوا: "نعم، يا أبّا". فقال لهم الشيخ: "من الآن لم تَعُد هناك كلمة. فلمّا كان الإخوة يسألون الشيوخ ويُتمِّمون كلامهم، كان الله يُظهر لهم ما عليهم أن يقولوه. وأمّا الآن، فلأنّهم يسألون ولا يُتمِّمون ما يسمعون، فإنّ الله قد سحب نعمة الكلمة من الشيوخ، فهم لا يجدون ما يقولون، بما أنّه لم يَعُد هناك مَن يفعلون "وأمّا الإخوة، فإذا سمعوا هذه الكلمات، أنُّوا وقالوا: "صلِّ لأجلــنـــا، يا أبّا".
ويُذكِّرنا هذا القول بقول عاموس النبيّ: "ها إنّها ستأتي أيّام، يقول السيِّد الربّ أرسل فيها الجوع على الأرض لا الجوع إلى الخُبز ولا العطش إلى الماء بل إلى استماع كلمة الربّ. فيمضون مُترنِّحين من بحر إلى بحر ومن الشمال إلى المشرق ويطوفون في طلب كلمة الربّ فلا يجدونها" (8/ 11-12).
فمغزى ذلك أنّ الرّوح يُلهم المُرشد بقدر ما يتشوّق قلب التلميذ إلى استماع كلمة خلاص وحياة، وبقدر ما يُصمِّم على طاعتها وتحقيقها في حياته. وإلّا كفّ الرّوح عن إلهام المُرشد، لأنّ الرّوح الساكن في قلب التلميذ والعامل في عقله ورغبته وإرادته هو الروح نفسه المُلهم المُرشدَ كلمةَ خلاص وحياة. فالروح تيّارٌ يجمع الطرفين ويُوحِّدهما.
ونجد في التقليد الفرنسيسيّ نبرة مُختلفة بشأن الشخص المُطاع. فإنّ روحانيّة فرنسيس الأسيزيّ (حوالي 1182- 1226)، تعتبر أنّ المَثل الأعلى هو "الخضوع لجميع الإخوة". لأنّ لكلِّ أخ شيئاً يُفيد به إخوته الرّهبان: "بثقة كاملة، فلينفتح كلُّ أخ على أخيه بشأن حاجاته... لِيُحبَّ ويُغذِّي كلُّ واحد أخاه بحسب إمكانات ما يمنحه الله من نِعَم – كالأمِّ التي تُحبُّ وتُغذِّي ابنها..." (القانون الفرنسيسيّ 1/ 9، 10).
ويتمُ ذلك، لأنّ جميع الإخوة يرغبون "فوق كلِّ شيء أن ينالوا روح الربِّ وعملَه المقدّس" (2/ 8). ويعتمد ذلك على كون الإخوة جميعًا إخوة "الأخ البكر"، وبالتالي "أبناء الآب"، فيساعد الأخ الرّاهبُ أخاه لِيَلد لدعوته البنويّة، أي ليكتشف دعوة الآب له، فيتجاوب معها بملء حُرِّيَّـتـه (2/ 10). فسواء أكان الخضوع والطاعة لشخص المرشد (في التقليد الرهبانيّ الشرقيّ بوجه عامّ)، أم لشخص الرئيس (في التقليد الرّهبانيّ الغربيّ بوجه عامّ)، أم للإخوة بعضهم لبعض (في التقليد الفرنسيسيّ بوجه خاصّ)... فأيًّا كان الشخص المُطاع، فإنّ الله، في نهاية الأمر، هو المُطاع من خلال الوساطة البشريّة.
ليست الطاعة ولا الخضوع تقليلاً من شأن حرِّيَّة الرّاهب، ذلك بأنّ الرّاهب يختار أن يُحقِّق حرِّيَّته من خلالها، بموجب نذر الطاعة ، ولا سيّما في التقليد الرّهبانيّ الغربيّ. ولكن قد ينشأ "اعتراضٌ ضميريٌّ" على أمر المرشد أو الرّئيس أو السّلطة الكنسيّة؛ وفي هذا الموقف – النادر بوجه عامّ – على الرّاهب أن يتبع ضميره. ويقول البابا بولس السادس في هذا الصدّد: "لا يجوز للرّاهب أن يقبل بسهولة التناقض بين حكم ضميره وحكم رئيسه". ولقد سبق أن خاطب أوغسطينس – بحكمته وفطنته – التلميذ الذي يتلقّى نصيحة مُرشـده وتشجيعه، فقال له: "استمِعْ إلى ما يُجيبه قلبك حتّى تعرف مدى تقدُّمك".
إن كان التلميذ يستفيد من مُعلّمه، غير أنّ المعلّم أيضًا يستفيد من تأديته خدمة الإرشاد استفادة روحيّة شخصيّة، قد عبّر عنها الأب متّى المسكين تعبيرًا رائعًا يستدعي التوقُّف عنده "إنّ ما وهب لي الله بشأن خبرة النفوس، يتجاوز ما وهب لي شخصيًّا، حتّى إنّني أتعذّى بالفتات الذي يتساقط عن المائدة التي يُعدُّها الله للآخرين من خلالي". ولا عجب من ذلك، لأنّ كِلا المعلّم والتلميذ "يحملان الرّوح" ويستمعان إليه، وكلاهما يبحثان عن إرادة الآب، وكلاهما مُكرّسان لشخص يسوع المسيح ويقتديان به فإنّ الفائدة تعمُّ عليهما.
لقد استشففنا ممّا سبق علاقة بين الأب الروحيّ وابنه الروحيّ، أو المعلّم وتلميذه؛ فنستشعر أنّ العلاقة هذه مميَّزة، تتّسم بنوعيّة خاصّة تستأثر بها، ألا وهي الولادة الروحيّة.
مثلما أعلن يسوع لنيقوديمس أنّ هناك الولادة بحسب الجسد وهي جسديّة، وهناك الولادة بحسب الرّوح وهي روحيّة (يو 3/ 6)، هكذا فإنّ العلاقة الأب الروحيّ / الابن الروحيّ تشترك في الولادة الروحيّة، أي الولادة بالرّوح القدس، ولذلك يُدعى المرشد أو المعلّم أو الأبّا "روحيًّا". ومثلما هناك "آب واحد هو الآب السماويّ" (متى 23/ 9) و"منه تستمدُّ كلُّ أبوّة اسمها في السّماء والأرض" (أف 3/ 15)، هكذا فإنّ الرّوح القدس يُشرك الأب الروحيّ في أبوّة الله الآب، ليلد في الرّوح وبه ابنَه الروحيّ. ومثلما هناك "مُعلِّم واحد" و"مرشد واحد وهو المسيح" (متى 23/ 8 و10)، هكذا فإنّ الرّوح القدس يُشرك المرشد الروحيّ والمعلّم في صفات يسوع المرشِد والمعلِّم.
إن كان منبع الولادة الروحيّة هو الثالوث ولا سيّما الآب الذي يُشرك فيها الأبَ الروحيّ، فإنّ هدفها هو يسوع المسيح. ويُخاطب بولس في هذا الصدّد أبناءه الرّوحيِّين فيقول لهم:
"يا بَنيّ، أنتم الذين أتمخّض بهم حتّى يُصوَّر فيهم المسيح" (غل 4/ 19). فيسعى هكذا الأب الروحيّ أن يتجسّد المسيح في ابنه الروحيّ ويسكن فيه ويحيا فيه. ثمّ إنّه يهدف أن يضع ابنه – العروس بين يَدي المسيح – العريس، مُعتبرًا نفسه "صديق العريس" مِثل يوحنّا المعمدان: "مَن كان له العروس فهو العريس.
وأمّا صديق العريس الواقف ليستمع إليه فإنّه يفرح أشدّ الفرح لصوت العريس.
فهوذا فرحي قد تمّ. لا بدّ له من أن يكبر ولا بدّ لي أن أصغر" (يو 3/ 29-30).
فالمرشد يتمثّل بالمعمدان، فلا يعتبر تلميذَه وابنه "غنيمة" له، بل إنّه "يتجرَّد من ذاته" – بحسب قول بولس في المسيح نفسه (فل 2/ 6-7) – ليقود تلميذه إلى "حضن يسوع" – بحسب قول يوحنّا الحبيب في نفسه (يو 13/ 23).
ويوصي إغناطيوس دي لويولا مُرشدَ الرّياضات الروحيّة بهذه القاعدة الذهبيّة، وهي أن يتصرَّف المرشد بحيث "يُشرك الخالقُ السيِّد النَّفْسَ الأمينة في ذاته، مُعانقًا إيّاها في حُبِّه وتسبيحه(...) تاركًا الخالق يعمل مباشرة مع خليقته، والخليقة مع خالقها وربِّها" (الرياضات الروحيّة – عدد15).
فقد يمنح المرشد نصائح، وقد تربط بتلميذه علاقة شخصيّة حميمة، إلّا أنّ الأولويّة المُطلقة هي علاقة الله بخليقته. فالمرشد هو "شاهد" للمسيح، كما أنّ المسيح شاهد للحقّ. ولقد صرّح أوغسطينس لابنته الروحيّة فلورانْتينا:
"الذي يُعلّمكِ هو المعلّم الداخليّ، معلّم الإنسان الباطن". كما أنّه قال:
"لا أنا، بل معي فكلانا تلميذان في المدرسة عينها. ونحن نتعلَّم من المعلّم الوحيد المسيح".
إنّ الولادة الرّوحيّة تتضمّن الحياة التي يمنحها الأب الروحيّ باسم الربّ، والحياة التي يقتبلها الابن الروحيّ، ممّا يُشيِّد علاقة وطيدة حميمة بين الأب وابنه، وهي تتجاوز الإرشاد ودور التعليم. وفي هذه العلاقة نبرة وجدانيّة عاطفيّة، تمثّلاً بالعلاقة التي كانت تربط يسوع بـ"التلميذ الذي كان يُعزُّه". ونجد هذه النبرة في سيرة أنطونيوس كما يرويها أثناسيوس، حيث يُظهر "الجميع يُحبُّون أنطونيوس ويدعونه إلى أن يكون أبّا لهم". فكانوا جميعًا "كالأبناء الذين يتذكّرون أباهم".
وعندما رقد، "كانوا كأيتام الأب". وذلك لأنّه "كان يُرشدهم كأب". وبصفته أبّا، كان "لا يستطيع أن يخفي شيئاً على أبنائه". مُتمثّلاً هكذا بيسوع نفسه الذي أطلع تلاميذه الأحبّاء على كلّ شيء (يو15/ 15) وإنّ علاقة المُرشد والمعلّم بتلميذه مزدوجة، فهي علاقة الأب بما يتميّز به من حزم بالعبريّة "إمِيتْ")، وعلاقة الأمِّ بما تتميّز به من حنان (بالعبريّة "حِسِّدْ")، علـى مِثال الله الذي يجمع بينهما في علاقته بشعبه. وكما يتعامل الأب والأمُّ مع ابنهما على أنّه فريد من نوعه، هكذا فإنّ الأب الروحيّ يستقبل ابنه الروحيّ ويستمع إليه ويتحدّث إليه ويخاطبه بأسلوب فريد من نوعه، مُتأقلمًا واحتياجه. ويظلُّ مَثل يسوع المَثل الأعلى، إذ كان يتعامل مع كلِّ شخص – نيقوديمُس أو المرأة السامريّة، يوحنّا أو يهوذا – ومع كلِّ فئة – الخطأة أو الفرِّيسيِّين، التلاميذ أو اليهود – معاملة تأخذ بعين الاعتبار، بل وتحترم فرادةَ كلِّ مَن هو أمامه.
ولا تخلو العلاقة من المخاطر والالتباسات، وهي تتلخّص في احتمالَين، إمّا المغالاة في العلاقة وإمّا الحياء إزاءها. فأمّا المغالاة فهي المغالاة في الأبوّة الروحيّة، بيد أنّ الحقيقة تكمن في أنّ الله وحده أب؛ وفي الإرشاد الروحيّ، بيد أنّ المسيح وحده معلِّم ومرشد ؛ وفي الولادة الروحيّة، بيد أنّ الرّوح وحده يلد للحياة الروحيّة. وأمّا الحياء فهو التخوُّف من ممارسة الأبوّة وإشراك الأب الروحيّ ابنه في حياة الله الممنوحة لهما والممنوحة للابن عن طريق الأب. فأمّا العلاقة الروحيّة الحقيقيّة فتتضمّن تقبـُّلَ الأب حياة الله ليُشرك فيها ابنه الروحيّ تقبُّلاً متواضعًا تجاه هبة الله لهما، وتقبُّــــلاً لإرادة الله في منح حياته لهما. هكذا فإنّ حياة الله تُكتَسَب من منبعها إلى هدفها، بدون أن يحتجزها الأب. فلا غُبار بالتالي إذا اتّحد الأب والابن بالروح، إذ إنّ في اتِّحادهما هذا اعترافًا متبادلاً واحترامًا متبادلاً، وحرِّيَّة ومحبّة ويتحوّل ذلك كلُّه إلى شكر لله على ما يعلمه في الأب الروحيّ وفي ابنه الروحيّ.
الخاتمة
هذه هي أهمُّ عناصر حضور الرّاهب للأشخاص، واستخدام الرّوح القدس له عالم الأشخاص، "لمنفعة الآخرين"، خصوصًا في التقليد الشرقيّ.
وختامًا لكلامنا، نستشهد بمَثلين، أحدهما من القرن الثالث والآخر من هذا القرن العشرين. يورد أوريجانس سؤال الرّهبان لمرشديهم: "ماذا يجب أن أفعله لأخلُص؟"، وأمّا الإجابة فهي واضحة: "المُساهمة في خلاص العالم". فلا يترهّب ليخلص، بل ليساهم في خلاص البشر، ومن خلال ذلك فإنّه يخلص. ويقول الشيخ سِلْوانُس (1866- 1938) الروسيّ الأصل والمُترهِّب في دير جبل آثوس اليونانيّ: منذ أربعين سنة وأنا أتألّم في سبيل شعب الله. فقد مرّت أربعون سنة منذ أن علّمَتني نِعمة الرّوح القدس أن أحبّ جميع البشر وكلّ الخليقة. كما أنّها أوحت إليَّ حِيَلَ الشرِّير الذي يعمل بخداعه شرَّه في العالم".
وتتمحور مساهمة الرّاهب – وأيّ مسيحيّ، بموجب معموديّته التي تجعله "كاهنًا" بالكهنوت العامّ - في خلاص العالم مع الله، حول ثلاثة أقطاب مُتكاملة لا تعرف التجزئة: عمله (ACTION) وآلامه (PASSION) وصلاته. ويختلف الرّاهب المُعتزل المجتمع عن الرّاهب الخادم في المجتمع، أو يختلف الرّاهب عن العلمانيّ، لا في الجوانب الثلاثة هذه، بل في النسبة التي يُخصِّصها كلُّ مسيحيّ لكلِّ جانب من الجوانب الثلاثة؛ فهناك مَن يُشدِّد على الصّلاة، وهناك من يُركِّز على العمل، وهناك مَن يُشدِّد على الآلام، كلٌّ بحسب دعوة الله له وحالته الحياتيّة وشخصيّته.
"معنى البرّيّة لزماننا الحاضر"
الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ