الإتحاد الأسمى

متفرقات

الإتحاد الأسمى

 

الإتحاد الأسمى

 

إنّ محبّة القدّيس شربل لله، بلغت ذروتها باتّحاده الأسمى بالمسيح في القربان الأقدس. وتمثّلت هذه الذروة في إحياء الإنسان الباطنيّ والروحانيّ الذي صاغه في نفسه من جرّاء اتّحاده بالمسيح عن طريق الصلوات والتأمّلات والإماتات والأصوام والآلام.

 

فالإنسان الباطنيّ يتكوّن هنا على الأرض، ويولد بعد الموت في العالم الآخر. وكما تهيّئ الطبيعة لجنين وهو في بطن أمّه للحياة البشريّة الطبيعيّة، كذلك يتكوّن الإنسان الباطنيّ والروحانيّ للحياة الأخرى منذ هذه الحياة. فالقدّيس شربل لم ينتظر حياة الآخرة ليكوّن إنسانه الروحانيّ، ولكنّه سعى، منذ هذه الحياة، إلى عيش حالة الحياة الأخرى كمواطن سماويّ، وجاهد في سبيل ذلك الجهاد الحسن، على حدّ قول بولس الرّسول: "أمّا أنت يا رجل الله، فجاهد جهاد الإيمان الجميل، وفُزْ بالحياة الأبديّة التي دُعيت إليها" (1 تيم 6/ 12). وهذا ما أشار إليه القدّيس بولس بقوله عن نفسه: "وأنا حيّ، لا أنا بل إنّما المسيح حيّ فيّ، وما لي من الحياة في الجسد أنا حيّ به في الإيمان بابن الله الذي أحبّني وبذل نفسه لأجلي" (غلا 2/ 20).

 

والمسيح لم يعطِ القدّيس شربل بذار الحياة الأخرى، بقدر ما أعطاه ذاته. واتّحاده الحميم به نمّى فيه الإنسان الباطنيّ والروحانيّ، وحرّك إرادته على صنع الأعمال الصّالحة على حدّ قول بولس الرّسول: "فإنّ الله هو الذي يعمل فيكم الإرادة والعمل على حسب مرضاته" (فيل 2/ 12).

 

والمسيح هو الذي أضرم أيضًا نيران محبّته في قلب القدّيس شربل، وكان له المقوّي والمُشدِّد في ساعات التجربة واليأس والحرمان، وفي ليالي البرد القارس والصّقيع. وإنّه تعالى لم يعده، كما لم يعدنا، بأن يكون معنا في حالات معيّنة، أو في ساعات محدّدة، بل وعد بأن يكون معنا دائمًا، بقوله: "وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى منتهى الدّهر" (متّى 28/ 20).

 

والأعجب من ذلك أنّه قال لنا بأنّه سيجعل من أرواحنا، وقلوبنا، ونفوسنا بيتًا له ومقامًا لسكناه: "إن أحبّني أحد يحفظ كلمتي وأبي يحبّه وإليه نأتي وعنده نجعل مقامنا" (يوحنا 14/ 23). وقد ذهب إلى أبعد من ذلك، بحيث حملته رحمته بأن يتنازل ويتّحد بقران روحيّ مع أحبّائه ويصبح وإيّاهم روحًا واحدًا على حدّ قول بولس الرّسول: "أمّا الذي يقترن بالربّ فيكون معه روحًا واحدًا" (1 قور6/ 17). وهذا هو أساس اتّحادنا بالربّ وببعضنا بعضًا، كما قال بولس الرّسول أيضًا: "فإنّكم جسد واحد وروح واحد كما أنّكم دُعيتم إلى رجاء دعوتكم الواحد" (أف 4/ 4).

 

والاتّحاد بالمسيح يسوع يسود ويسمو على كلّ اتّحاد آخر، ولا يمكن لأي مثال من أمثلة الاتّحاد البشريّ أن يوضّح ويعبّر التعبير الحقيقيّ عن سموّ الاتّحاد بالمسيح. فالكتاب المقدّس يورد بعض الأمثلة لإيضاح طبيعة هذا الاتّحاد بالمسيح. فهناك مَثَل اتّحاد البيت بسكّانه، ومَثَل اتّحاد الكرمة بالأغصان، ومَثَل اتّحاد الرّأس بالأعضاء، وأخيرًا مَثَل اتّحاد الرّجل بالمرأة.

 

بالرّغم من كلّ هذا، فهذه الأمثلة كلّها لا يمكنها أن تعطينا صورة واضحة عن تمام وكمال الاتّحاد السرّي الذي يقوم بين المؤمن والمسيح. فغالبًا ما نتكلّم على المحبّة التي تربط بين صديقين أو زوجين، ولكن أين هو وجه المقارنة بين عمق وصدق محبّة الصديق لصديقه، أو الزوج لزوجته، وبين محبّة المسيح للمؤمن؟

 

وهكذا فإنّ المحبّة التي كانت تربط القدّيس شربل بالمسيح، كانت أوثق من محبّة الصّديق لصديقه، ومحبّة العروس لعروسته. الزواج يفرض مسبّقـًا رباطًا روحيًا ووحدة عظمى، ولكن صورة هذا الرباط تساعد قليلًا جدًا على إدراك وحدتنا بالمسيح، لأنّ الزواج لا يربط شخصين إلى حدّ يجعل الواحد أن يكون في الآخر، وأن يلبس الآخر، الشيء الذي يحصل بين المؤمن والمسيح، والذي قد حصل بين القدّيس شربل والمسيح. فغدا الإثنان شخصًا واحدًا في عناق أبديّ.

 

وكذلك الوحدة بين الرأس والأعضاء في الجسد، هي في المرتبة الدنيا، إذا قيست بالوحدة السرّية القائمة بين المسيح والمؤمنين، لأنّ المسيحيّ المؤمن يرتبط ويلتصق بالمسيح ارتباطًا أوثق من ارتباط الرّأس بالأعضاء.

 

إنّه يضع محبّة المسيح فوق محبّته الخاصّة. والبرهان على ذلك، موقف الشهداء الأبرار الذين كانوا يقبلون أن يضحّوا بأنفسهم مبتهجين. كانوا يضحّون بحياتهم في سبيل أن تبقى الوحدة السريّة قائمة بينهم وبينه. كانوا يقبلون بالضرب والجلد وكلّ أنواع العذابات، حتّى الموت، من أجل أن يبقوا متّحدين بالمسيح.

 

وهذا ما فعله القدّيس شربل. لقد فضّل محبّة المسيح على محبّته الشخصيّة، وعلى محبّة الأهل والأصدقاء، وعلى محبّة المال ودغدغة الأميال والشّهوات. ضحّى براحته وبرغباته في سبيل توثيق علاقته بالمسيح.

 

وهذا هو سبب إماتاته وتقشّفاته الصارمة، وهذا ما كان الدافع لسهره المتواصل، وصيامه وحرمانه من المأكولات المسموح بها، وهذا كان في أساس احتماله البرد القارس، والصقيع والزمهرير في ليالي الشتاء، وهو ساجد بدون حراك أمام القربان الأقدس السّاعات الطويلة.

 

 

                                                                                    من كتاب" روحانية القديس شربل"

                                                                   الأب بولس صفير