الأسبوع العظيم، هو أسبوع اختصر في أيّامه انتظارات البشريّة منذ أخرج الله الكونَ من العدم إلى الوجود. هو سرّ حبّ الله العظيم، يتمِّم الفداء حبًا بإنسانٍ خاطئ خان حبّه ورفض عهده وأدار الظهر لإلهٍ أحبّه فخلقه، وها هو الآن يفتديه بدم ابنه. هو سرّ حبّ الله أعلنه المسيح في خميس الأسرار، وأتمه على الصّليب، وزُرع في صمت سبت الأنوار كحبّة حنطة تموت لتُعطي مواسم سنابل، وتجلّى عبر أنوار القيامة يوم صار القبر فارغًا.
هو سرّ لم يقدر أيّ بشر على معاينته يوم الجمعة العظيم، لحظة موت المسيح: فمن رأى، رأى ما هو خارجيّ، رأى رجلاً يُنازع، يتألم، يموت ويوضع في القبر. وحده الله الآب رأى ما هو جوهريّ، وحده الآب رأى حقيقة ما يحصل. الآب رأى لأنّه لم يكن مجرّد شاهد متفرّج، لقد كان مُشاركًا في عمل الخلاص بعمقه، فهو "الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا" (روم 8 /32). "فالآب أحبّ العالم كثيرًا، حتّى أنّه بذل ابنه الوحيد" (يو 3 /16).
يسوع يعلم أنّ الآب قد أسلمه، لذلك يعلن للتلاميذ في عليّة الأسرار ليل الخميس "هذا هو جسدي الذي يبذل من أجلكم" (لو 22 /19). وكلمة يبذل هي الترجمة العربيّة لفعل يونانيّ يعني أسلم، وهو بصيغة المجهول، ما نسميه في لغة الكتاب المقدّس "بالمجهول الإلهيّ"، أي أنّ الله هو الفاعل الحقيقيّ لهذا العمل وبالتالي فالمعنى هو: "هذا هو جسدي الذي يسلمه الله الآب من أجلكم".
وكم يختلف بذل الآب عن بذل يهوذا ورؤساء اليهود والسّلطة الرّومانيّة القائمة ليسوع الكلمة، فأولئك يسلمون المسيح ليقتلوه ويتخلّصوا منه، بينما الآب يسلّم ابنه ليلده في حدث القيامة من جديد ويعلن هويّته إلى الأبد: يسوع المسيح الابن، القائم والمنتصر.
هنا تكمن أهميّة موت المسيح: لكيما يولد إلى بنوّة الله بقوّة الرّوح القدس، كان لا بُدّ أن يموت "في جسد يشبه جسدنا الخاطئ، كفارة للخطيئة، ليحكم على الخطيئة في الجسد" (روم 8 /3) الجسد الذي به أخلى ذاته، وأخذ صورة العبد (فيل 2 /6).
مرّة جديدة ونهائيّة، يلد الآبُ ابنه إلى واقع جديد:
فولادة الابن الأولى كانت ولادتُه من الآب قبل كلّ الدّهور.
أمّا الولادة الثانية فتمّت في الزمن، في ما يدعوه بولس "ملء الزمن"، حين أرسل الآب ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا بحسب الجسد. إنّ ولادة الابن لم تكن عملاً قام به الابن وحده، بل، كما يشدّد بولس الرّسول، "فلمّا تمّ الزّمان، أرسل الله ابنه مولودًا لامرأة... حتّى نصير نحن أبناء الله" (غل 4/4-5).
إنّ إرسال الابن إلى العالم في ولادة التجسّد هذه، - هي عمل الآب أيضا، فالابن لا يقوم بأمرٍ من ذاته، بل قد أطاع الآب في كلّ شيء وصولاً إلى التجسّد.
وهذا التجسّد، أو إخلاء الذّات وأخذ صورة العبد، هدفها الأوّل هو الموت والقيامة، أي تتميم عمل الفداء، لذلك يتابع بولس قائلاً: "ليفتدي الذين هم في حكم الشّريعة، حتّى نصير نحن أبناء الله" (غل 4 /5). وهو عمل تمَّمه الآب من خلال الرّوح: لقد تجسّد الله الكلمة بقوّة الرّوح القدس، روح الآب الذي استقرّ فوق مريم.
أمّا الولادة الثالثة، فهي ولادة الابن المتألم، المصلوب، الميت والمدفون. المسيح الذي صلبه البشر قد أقامه الآب في اليوم الثالث. أنّ قيامة الإبن هي عمل الآب أيضًا، عمل تمّمه من جديد بواسطة الرّوح القدس الذي حلّ في هيكله الأبديّ، جسد المسيح القائم من بين الأموات".
الأب بيار نجم