مَن منّا لا يريد أن يرى يسوع؟ وألّا ينعم بحضوره وشفائه وتحريره؟ ولكن كيف نراه وأين نجده؟
جاءت الساعة التي سيتمجّد فيها يسوع، ساعة يحوّل فيها الماء إلى خمر جيّدة (يو 2: 10)، ساعة العهد الجديد الذي يجريه الله في قلوب الناس، فيزرع فيهم شريعته، فيكون لهم إلهًا وهم يكونون له شعبًا (إر 31: 33).
إنّها ساعة الحبّ الأعظم، التي يهب فيها يسوع حياته لأحبّائه الذين هم في العالم، وقد أحبّهم "منتهى الحبّ"، و"يعرف أنّ الآب جعل في يديه كلّ شيء، وأنّه جاء من الله وإلى الله يعود" (يو 13: 1، 3). لا يريد يسوع الحياة لنفسه، و"ما اعتبر مساواته لله غنيمة له" (فل 2: 6)، بل يريد أن يجمع في جسد واحد سائر إخوته البشر (أف 1: 23؛ كو 1: 18)، فيقع في الأرض كحبّة الحنطة ويموت، "يخلي ذاته" (فل 2: 7)، ليعطي الحياة لكثيرين.
يموت يسوع وقلبه مفعم بالإيمان والمحبّة والرّجاء، الإيمان بكلمة أبيه الساكنة فيه والتي تهمس في أذنه: "أنت ابني الحبيب" (متّى 3: 17، 17: 5؛ مر 9: 7؛ لو 3: 22، 9: 35)، المحبّة لأبيه وللناس أجمعين، اليهود واليونانيّين، والرّجاء في المستقبل الذي لا يراه، ولكنّه كلّه ثقة في حبّ الآب الذي يخلق عالمًا جديدًا.
عاش يسوع حياته وموته خادمًا، عرف معاناة البشر وخضوعهم للخطيئة والموت، تألّم معهم ومن أجلهم، وأدرك أنّ "الموت آخر عدوّ يبيده" (1قو 15: 26). "فرفع الدعاء والإبتهال، بصراخ شديد ودموع ذوارف، إلى الذي بوسعه أن يخلّصه من الموت، فاستجيب طلبه لتقواه. وتعلّم الطاعة، وهو الابن، بما عانى من الألم ولما جُعل كاملاً، صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبديّ" (عب 5: 7-9).
في الصغر والضعف والفقر، عندما ارتفع يسوع على الصليب، وأسلم الروح (يو19: 30)، صار سبب خلاص "للناس أجمعين" (يو 12: 32). ومن يريد أن يراه اليوم، سيجده في هوامش حياتنا الشخصيّة والاجتماعيّة والكنسيّة ومزاودها. فمن أراد أن يخدمني، يقول يسوع، "فليتبعني، وحيث أكون أنا يكون خادمي، ومَن خدمني أكرمه أبي" (يو 12: 26).
ويعني هذا أوّلاً أنّها نعمة تُطلب في الصلاة بإلحاح وثقة، لأنّنا مع يسوع نسير ضد تيار الثقافة المحيطة بنا، تلك التي ترى في الغنى والعظمة والمجد سبلاً أكيدة للسعادة والهناء. وليس من السهل على أيّ إنسان أن يتقابل مع تاريخ الخطيئة في حياته، وأن يقبل نفسه برضى وامتنان مع كلّ أنواره وظلماته. وليس من البديهيّ أن نلتقي الله في الناس الذين شوهّهم الفقر والإهمال والفساد. وليس من الواضح أبدًا أن نبقى في بلد يعاني من سوء الإدارة والمحسوبيّة والتطرّف الدينيّ.
الصلاة فقط يمكن أن تجعلنا نرى يسوع حيث لا يريد العالم أن ينظر. وعلى مثال يسوع، نتوسّل إلى أبيه كيّ يمنحنا نعمة أن نحبّ أنفسنا فنقبل أن نخسرها في نظر العالم، لنحفظها للحياة التي لا تنتهي (يو 12: 25).
إذا أردنا أن نرى يسوع، رضينا أن نصبح كحبّة الحنطة التي تقع في الأرض، وتموت، فتخرج ثمرًا كثيرًا (يو 12: 24). هذا كان مجد يسوع، وهذا هو مجدنا. هو طريق الحياة الحقيقيّة الذي يجعلنا نلتقي أنفسنا بصدق، فنستقبل الآخرين على أنّهم إخوة لنا.
جاء يسوع ليجدّد كلّ شيء، وليجمع أبوه في إبنه "المسيح كلّ شيء في السماوات وفي الأرض" (أف 1: 10)، وكان طريقه بذل الذات في الإيمان والمحبّة والرّجاء. واليوم، إذ نطلب ونريد أن نتبعه لنحبّه ونخدمه ونمجّده، فطريقنا يمرّ بالضّرورة بما لا يشتهيه العالم، أي الفقر والتواضع، الخدمة السخيّة والمُصالحة المُتجدّدة، حتى قبول عدم الفهم والرّفض والاستهزاء.
ونحن بالحقّ نريد أن نرى يسوع، وهو يريد أن يكشف ذاته لنا وأن يهبنا نفسه قدر ما استطاع، فلنتّكل على روحه القدّوس ليقودنا إليه، فنفهم بعض الشيء حبّه لنا الذي لا يدرك ولا يوصف، ويُقيمنا من موتنا ليُدخلنا في سرّ قلبه وحياته.
الأب نادر ميشيل اليسوعيّ.