"أجراس أوروبا": فيلم من إنتاج المركز التلفزيوني الفاتيكاني حول موضوع العلاقات بين المسيحية والثقافة الأوروبية ومستقبل القارّة، تمّ عرضه على المشاركين في السينودس مساء يوم الاثنين 15 تشرين الأول.
يتضمّن الفيلم لقاءات مع شخصيات دينية مثل بندكتس السادس عشر والبطريرك المسكوني برتلماوس الأول وبطريرك موسكو كيريل ورئيس الأساقفة الأنغليكاني روان وليامز والرئيس السابق لاتحاد الكنائس الإنجيلية في ألمانيا فولفغانغ هوبر وشخصيات أخرى من القطاع السياسي والثقافي.
يعود التسجيل الصوتي في الفيلم إلى الملحّن الإستوني آرفو بارت والذي تمّ إجراء مقابلة معه.
هذا الفيلم مستوحى من الفكرة الأصلية للأب جيرمانو ماراني، ومدعوم من مؤسسات مختلفة كمؤسسة غريغوريانا.
تعود حقوق عرض هذا الفيلم على شاشة التلفاز والفيديو المنزلي إلى "راي سينما". وقد حصل المشاركون في السينودس على نسخة مع نصّ المقابلات ومن ضمنها المقابلة مع بندكتس السادس عشر التي سنقدّم ترجمتها فيما يلي.
منشورات قداستك تقدّم أنثروبولوجيا قويّة لرجل تسكنه محبّة الله. رجل تعود حكمته إلى تجربة الإيمان وهو يملك مسؤولية اجتماعية. وقد أعلنت مراراً وتكراراً عن أنّ اكتشاف وجه الإنسان هذا من جديد بالإضافة إلى المبادئ الإنجيلية وجذور أوروبا العميقة هي وسيلة تعود بالكثير من الرجاء للقارّة الأوروبية وغيرها من القارّات... ما هي أسباب هذا الرجاء؟
بندكتس السادس عشر– إنّ السبب الأوّل في رجائي هو أنّ إرادة الله، أي التفتيش عنه، محفورة في داخل كلّ روح بشرية ولا يمكن أن تختفي. وصحيح أنه يمكننا نسيان الله على فترة وتهميشه والانشغال بأمور أخرى، ولكنّ الله لا يختفي أبداً. إنّ كلمات القديس أغسطينوس صحيحة: نحن البشر نقلق كثيراً لدرجة أننا لم نجد الله. هذا القلق موجود حتى اليوم. ورجاء الإنسان هو حتى اليوم يفتّش عن درب الله.
إنّ السبب الثاني لرجائي هو كون إنجيل يسوع المسيح والإيمان بيسوع المسيح صحيحين كما أنّ الحقيقة لا تنتهي أبداً. يمكن نسيانها على فترة معينة ويتمركز الاهتمام على مواضيع أخرى وتوضع على حدة ولكن من المستحيل أن تختفي. إنّ أيّام الإيديولوجيات معدودة وهي تبدو قويّة ولا يمكن مقاومتها إنّما بعد فترة تستعمل وتفقد قوّتها إذ ينقصها الحقيقة العميقة. هي عبارة عن جزء من الحقيقة ولكنّها تزول في نهاية المطاف. أمّا الإنجيل، فهو صحيح ولا يمكن أن يستنفذ. ففي كلّ حقبة من التاريخ، يبيّن أبعاداً جديدة ويبان في تجدّده مجيباً على حاجات القلب والعقل اللذين يمكنهما المضي في هذه الحقيقة ليكتشفا. لذلك، أنا مقتنع بأنّ ربيع المسيحية الجديد قادم.
أمّا السبب الثالث، فهو سبب تجريبي ويبان في كون الشعور بالقلق موجود اليوم بين الشباب. فالشباب قد رأوا أشياء كثيرة، وهي تعود لاقتراحات الإيديولوجيات المختلفة وللاستهلاك، ولكنّهم أصبحوا يعون الفراغ في كلّ هذه الأشياء بالإضافة إلى كونها غير كافية فالإنسان قد خلق للأبدية والنهاية صغيرة جداً وبالتالي فنحن نشارك عند الأجيال الجديدة في ولادة هذا القلق من جديد كما أنّ هذه الأجيال تنطلق من جديد، من هنا اكتشاف جمال المسيحية مجدداً؛ ليست نسخة زهيدة أو محلّاة ولكن المسيحية موجودة في كلّ جذريتها وعمقها. وبالتالي، أنا أعتقد أنّ الأنثروبولوجيا بحدّ ذاتها تبيّن لنا الوعي الجديد الدائم في المسيحية والوقائع تؤكد ذلك في كلمة واحدة: أساس عميق. هكذا هي المسيحية: حقيقية، والحقيقة لها مستقبل على الدوام.
تذكّرنا دائماً قداسة البابا بأنّ أوروبا قد أثرت ثقافياً على البشر وبأنّه لا يمكنها ألّا تحس بمسؤوليتها عن مستقبلها الخاص وعن مستقبل البشرية. كيف نكون شهودًا للمسيح في أوروبا الممتدة في المحيط الأطلسي وصولاً إلى جبال الأورال، والمتعلّقة بإرثها الثقافي والروحي والمرحّبة والداعمة لمواجهة التحديات الكبيرة الحالية؟
بندكتس السادس عشر– إنّه سؤال مهم. من الواضح أن أوروبا تملك حتى اليوم أثراَ كبيراً في العالم سواء أكان اقتصاديا أو ثقافياً أو فكرياً وبالتالي فمسؤوليتها كبيرة في وجه هذا التأثير. يجب أن تجد أوروبا كامل هويتها لتتمكّن من التكلّم والتصرّف بحسب مسؤوليتها. ولكن المشكلة بحسب رأيي لم تعد متعلّقة بالجنسيات المختلفة المتواجدة اليوم بل إنّها تتعلّق بالتنوّعات التي لم تعد تعني تقسيمات. لا تزال الأمم موجودة حتى اليوم مع تنوّعاتها الثقافية والبشرية والمزاجية: إنّها بمثابة ثروات إضافية تنبثق منها سمفونية ثقافات كبيرة ولكنّها في الأساس ثقافة مشتركة.
إنّ مشكلة أوروبا في إيجاد هويّتها تبدو لي وكأنّها ناتجة عن واقع أنّنا نجد اليوم في أوروبا روحين.
الروح الأولى وهي المنطق المجرّد وغير التاريخي والذي يريد السيطرة الكاملة بما أنّه يعتبر نفسه فوق كلّ الثقافات. إنّه منطق اكتشف نفسه بنفسه وهو يعمد على مواجهة كلّ العادات والقيم الثقافية لصالح المنطق المجرّد. إنّ الإدانة الأولى لمحكمة ستراسبورغ على تعليق الصليب كانت مثالاً على هذا المنطق المجرّد الذي يريد مواجهة الثقافات كلّها وحتى التاريخ بحدّ ذاته. ولكن لا يمكن العيش هكذا. فبالإضافة إلى ذلك، "إنّ المنطق المجرّد" بحدّ ذاته مشروط بحالة تاريخية معيّنة ولا يمكن أن يوجد خارج هذا السياق.
يمكننا أن نسمّي الروح الثانية في أوروبا، المسيحية: فهي منفتحة على كلّ ما هو عقلاني وهي التي خلقت جرأة العقل وحرية العقل النقدي إلّا أنّها تبقى مغروزة في الجذور الأساسية لأوروبا التي بنتها على قيم كبيرة وبديهيات أكبر، بالإضافة إلى نظرة الإيمان المسيحية.
كما سبق وذكرت، فمن خلال الحوار المسكوني بين الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانية يمكن لهذه الروح أن تجد تعبيراً مشتركاً ويمكنها أيضاً ملاقاة المنطق المجرّد، أي قبول الحرية الانتقادية للمنطق واحترامها مواجهة لكلّ ما يمكنها فعله أو كلّ ما سبق وفعلته، وذلك بتطبيقه وجعله حقيقياً على أساس القيم الكبيرة التي منحتنا إياها المسيحية عن طريق التناغم معها.
في هذا السياق فقط يمكن لأوروبا أن تؤثّر على الحوار بين الثقافات البشيرية الحالية والمستقبلية لأنّ المنطق الذي واجه كلّ الثقافات لا يمكن أن يدخل في حوار بين الثقافات. يمكن لمنطق واحد يحمل هوية تاريخية وروحية أن يتحدّث إلى الآخرين ويفتّش عن "تواصل بين الثقافات" حيث يمكن للجميع المشاركة وإيجاد هويّة أساسية بين هذه القيم التي يمكن أن تفتح سبلاً جديدة للمستقبل وللإنسانية الجديدة: يجب أن يكون هذا هدفنا. وبالنسبة لنا، هذه الإنسانية تنبع من الفكرة التي تقول بأنّ الإنسان قد خلق على صورة الله ومثاله.