أغلب الناس إن لم يكن جميعهم يحلم بهذه الصورة الرائعة عن العلاقة عن الله: الصوم مرّتين في الأسبوع، وتقدمة العشور. إنّها الصورة المُتداولة في الأذهان والمخيّلة عن القداسة، كلّنا يحلم بأن يوجّه حياته لله، وأن يأتي إلى الله رافع الرأس، سعيدًا وفخورًا بكلّ ما أتمّه من تحكّم في الجسد وتخلّي عن المال المُكتسب.
وقد تتبدّل الأحلام حسب الأشخاص، فبعضهم لا يحلم بالصوم مرّتين في الأسبوع بل بالصلاة كلّ يوم لوقتٍ كافٍ يتّفق مع ما يتمنّاه، والبعض الآخر قد يحلم بالقيام بخُلوة روحيّة لعدّة أيّام في الصمت، وهلمّ جرّا. لكلّ واحدٍ حلم عن القداسة يتمنّى أن يحقّقه.
ويُمكننا أن نتساءل هل الصوم خطأ؟ هل الصلاة اليوميّة غير مفيدة؟ هل التصدّق على الفقراء نوع من النفاق؟ هل كلّ شكل من أشكال الحياة الدينيّة لا قيمة له؟ لا ينفي يسوع هذا كلّه ولا يُنكر أهمّيته في حياتنا، بل يفتح قلوبنا وأعيُننا على طريق الحياة الحقيقيّة. فالسؤال الأساسيّ هو عن معنى أيّ فعل تقويّ وعلاقته بحياة الإنسان الروحيّة.
حياتنا في الجسد هي هِبة من روح الله الساكن في قلبنا، وهو يتكلّم بداخلنا ليقودنا لاختيار الحياة الحقيقيّة، بمعنى أنّه هو من يحرّرنا من صورنا عن القداسة والكمال ليعرّفنا معناهما وكيف نجسّدهما في حياتنا.
فنحن لا نصلّي ولا نصوم ولا نتصدّق بحثًا عن سعادة شخصيّة أو تحقيقًا لصورة ذاتيّة عن شكل العلاقة مع الله، وبالتأكيد لا نقوم بهذه الممارسات لإرضاء الناس أو بحثًا عن تمجيدهم لنا (متّى 6: 5). فمُنطلق العلاقة مع الله هو مبادرة الله معنا، واكتشاف نعمته ومغفرته في حياتنا، وتذوّق طعم قبوله لنا في ضعفنا وخطيئتنا.
ومن ثمَّ فكلّ ما نفعله ما هو إلا تجاوب معه وردّ على نعمته، حسب ما يُلهمه لنا روحه القدّوس، روح الفرح والحياة والسلام الذي يتكلّم في سرّ قلبنا. بمعنى آخر، إذا كانت المبادرة من الله، فردّنا عليه يقوم على التخلّي عن كلّ صورة للعلاقة كي يُرشدنا هو إلى ما هو محيي وحيويّ لنا.
إنّ الحياة في الروح هي أساسًا وداعة لله، فنكون بين يديه في بساطة الأطفال، يسمعون صوته في قلبهم وهم لا يدرون "من أين تجيء وإلى أين تذهب" (يو3: 8)، وحينئذ نكتشف أنّنا "لا نعرف كيف نصلّي ولكنّ الروح يشفع لنا عند الله بآناتٍ لا توصف" (رو 8: 26)، ونتعلّم أنّ الصلاة هي أوّلاً وقبل شيء إستماع لصوت الله الحاني والرقيق في قلبنا وفي حياتنا، واكتشاف عمله في داخلنا من خلال تتبّع مشاعر الفرح والسلام التي يهبها لنا.
ونحن حين نسير حسب روحه العامل فينا فصلاتنا هي شكر وتسبيح، وإذا تكاسَلنا أو حتى ابتعدنا بوضوح عن خطّ الحياة نعود فنرتمي في أحضانه واثقين بمحبّته وطالبين غفرانه.
في العلاقة مع الله لا مكان إذًا للتفاخر بالذات والتباهي على الآخرين، ولا للإدعاء أمام الله بالكمال وكأنّ لنا حقّ عليه، لأنّنا نعلم يقينًا أنّ "كلّ عطيّة صالحة وكلّ هبة كاملة تنزل من فوق، من عند أبي الأنوار" (يع 1: 17)، ولا مكان للإحباط واليأس لأنّنا نعرف ضعفنا وتواطئنا الخفيّ أو الواضح مع الكسل والتراخي والتهاون، إلا أنّنا نثق بحبّه.
وفي المثل الذي يورده يسوع (لو9/18-14)، نرى الفريسيّ يشكر الله لأنّه يتصوّر نفسه كاملاً غير البشر الآخرين، وهو في الواقع يختال أمام المِرآة ويمجّد الصورة التي بناها لنفسه. إنّه في الحقيقة لا يستقبل الحياة من الله بل من ذاته. وبالتالي فموقفه يتّسم بالكبرياء والغرور، ويتّصف بالجمود والتعنّت أيضًا، لأنّه يعيش في خوف مستمرّ من أن يكشف الناس كذب حياته الدينيّة ونفاقها. وهو بالتالي لا يستطيع أن يعيش بدون أن يقارن نفسه بالآخرين، متربّصًا بأخطائهم ليبرّر لنفسه موقفه المُتعالي والمُكتفي بذاته. هذا الرجل يعيش في شرنقة صورته الصغيرة والوضيعة بالضرورة، والتي يعتقد أنّها الحقيقة وما دونها لا يستحق الاحترام.
أمّا العشّار فهو واعٍ بواقعه وقد شابه الكذب والضياع والخطيئة، ويعترف بمسؤوليّته عن اختياراته وأفعاله، إلا أنّه يعرف أنّ هذا كلّه لا يمثل حقيقة حياته، هو جزء من واقع صنعه بيدَيه، ولكنّ الحقيقة هي أنّ حياته بين يديّ الله وأنّه في أحضانه يرتمي، منتظرًا منه الرحمة والحرّيّة والشفاء. أمام الله الحيّ، مصدر "كلّ أبوّة في السماء والأرض" (أف 3: 15)، لا ينظر الرجل إلى نفسه فهو يعرفها حقّ المعرفة بل يتطلّع إلى الله الساكن في قلبه. ولا يقارن نفسه بأحد ليذلّل نفسه أو يزيد إحباطه وحزنه، فهو تكفيه نظرة الله إليه، وفيها يجد الراحة والسلام والنور. فمع الله، لا حزن ولا خجل ولا خوف، وكلّ شيء يخلق مجدّدًا، والحياة تتفوّق على الموت.
مع مثل الفريسيّ والعشّار، نفهم أنّ الحياة الدينيّة حين تكون من صنع صوَر الإنسان تُصبح سجنًا للشخص يحول بينه وبين الناس، بل بينه وبين الله، وكأنّ التديّن يُمكن أن يُصبح عنفًا على الذات والآخرين في الوقت نفسه.
ونُدرك أيضًا أنّ حياتنا هي روحيّة في الأساس، أيّ نعمة من الله وهِبة من روحه، وكلّ ما نقوم به من ممارسة دينيّة هو تجسيد لروح النور والمحبّة العامل فينا. وحولنا كم من ممارسات دينيّة بلا روح، وكم من روح خارج عن كلّ شكلٍ دينيّ! إنّ روح الله أحكم من حكمة الناس (1قو1: 25).
لا يجرؤ العشّار على رفع عينيه إلى السماء، بل يقرع صدره ويقول: إرحمني، يا الله، أنا الخاطئ. لم يجد الله في السماء المتعاليّة الجميلة لأنّها بعيدة عنه، بل في قلبه المسكين والمُتواضع. في حقيقة الإنسان الصغير والضعيف نلتقي الله في روعة حبّه وحنانه ورحمته.
بقلم الأب نادر ميشيل اليسوعيّ