وجه الله الحقيقي.
قبل محاولة فهم الشرّ والألم يحاول المسيحيّ أن يفهم الله كما كشف عن نفسه على الجلجلة. ليس التجسّد حتّى الموت على الصّليب ستارًا يحجب وجه الله الحقيقيّ. إنّه "ضرب جنون" في مجال الحبّ، به يرفع الله السّتار عن وجهه الحقيقيّ. هذا الوجه لم يكن يومًا إلهيًّا مثلما وهو معلّق على الصّليب.
"الله محبّة". وأوّل من كتب هذا الكلام هو الرّسول الذي كان واقفًا عند الصّليب، يشهد آلام الابن الوحيد، يوحنّا الحبيب. الصّليب أكبر علامة لحبّ الله لنا: "أحبّ الله العالم إلى حدّ أنّه بذل ابنه الوحيد" (يو3/ 16).
"ليس حبّ أعظم من حبّ من يبذل نفسه عن أحبّائه" (15/ 13). الصّليب إفراط في المحبّة.
يقول شيسترتُن: "في كلّ حبّ إفراط في التواضع". هذا الإفراط بلغ الذروة على الصّليب، الأمر الذي جعل بولس الرّسول يتكلّم في آخر حياته على "فرط المحبّة التي أحبّنا الله بها" (أف2/4).
الصّليب أصبح شجرة الحياة، لأنّه الشجرة التي تثمر الحبّ. والحبّ أقوى من الموت، كما جاء في نشيد الأناشيد: "الحبّ قويّ كالموت. سهامه سهام نار ولهيب الرّب. المياه الغزيرة (أيّ البحر المهدّد بالغرق - مزمور 69/ 2-3، والذي يجاور قعره الجحيم - يون 2/6)، المياه الغزيرة لا تستطيع أن تطفئ الحبّ، والأنهار لا تغمره" ( نش 8/ 6-7).
من مقتضيات الحبّ أن يكون لا نهاية له. الحبّ يقتضي اللّانهاية، لكنّه لا يستطيع أن يمنحها. إنّه ينشد الخلود، لكنّه من عالم الموت. ولذا فإنّ الحياة تكون بلا معنى إن هي قضى عليها الموت نهائيًّا. والحبّ يكون تعذيبًا وسخرية إن هو قضى عليه الموت نهائيًّا، كما يكون من أمر من يشتهي اشتهاءً أن يمشي ولا رجلان له، أو أن يطير ولا جناحان له.
لكنّ المسيح المصلوب والقائم من الموت يؤكّد انتصار الحبّ وانكسار الموت والألم: "إن كان روح الذي أقام المسيح من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع يُحيي أيضًا أجسادكم المائتة" (روم 8/ 11). "لقد قمتم مع المسيح... ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا، فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كول 3/ 1-4)، إذ "يمسح الله كلّ دمعة من عيونكم، ولا يكون بعد موت، ولا نوح، ولا نحيب، ولا وجع، لأنّ الأوضاع الأولى قد مضت" (رؤ 21/ 4).
"كلمة "الصّليب" عند الهالكين جنون".
إنّما وكما كان من أمر الإله المتجسّد، لا بدّ من حمل الصّليب وعبور نفق الموت. للتلميذين المحطّمين من جرّاء ما حصل على الجلجلة قال المسيح مشجّعًا ومنوّرًا: "أما كان ينبغي للمسيح أن يُكابد هذه الآلام، فيدخل إلى مجده؟ (لو24/ 26)..." الحقّ الحقّ أقول لكم، إنّ حبّة الحنطة التي تقع في الأرض، إن لم تمت فإنّها تبقى وحدها. وأمّا إن ماتت فإنّها تأتي بثمر كثير" (يو12/ 24).
لمّا المسيح "دخل العالم" (عب 10/ 5) أكّد أنّ العالم هو له، أي إنّه للإنسان لا ضدّه، حتّى بما فيه من ألم وعذاب وموت. أكثر من ذلك، "هيّأ له جسدًا"- قابلاً للعذاب والموت "ليعمل بمشيئة الله" (5-7)، ولمّا اختار"الصّليب بدل السّرور الموضوع أمامه" (12/ 2)، أعلن في جسمه، هو البريء، أنّه قد يكون صالحًا أن يتألّم المرء ويموت، وأنّ معنى الصّليب والسّرور ليس في نظر الله ما هو في نظرنا. "كلمة الصّليب عند الهالكين جنون، وأمّا عندنا نحن المخلّصين، فقدرة الله... وفيما اليهود يسألون آياتٍ، واليونانيّون يطلبون حكمة، نكرز نحن بمسيحٍ مصلوب، عثارٍ لليهود وجنون للأمم... ولكن ما هو جنون عند الله أحكم من الناس، وما هو ضعف عند الله أقوى من الناس" (1 كو 1/ 18).
نظرة الله إلى الألم غير نظرتنا. نظرة إيجابيّة، إلى حدّ أنّه دخل هو نفسه عالم الألم، "لا ليقضي عليه، ولا ليفسّره، بل ليملأه بحضوره" (كلوديل)، فيمنحه معناه الحقيقيّ. دخل عالم الألم كمن ينطلق في طريق لا بدّ منه ("أما كان ينبغي للمسيح أن يتألّم فيدخل إلى مجده ويجتذب إليه الكثيرين؟... حبّة الحنطة إن ماتت أتت بثمر كثير").
وعليه، فهل تكون آلامنا ويكون موتنا، بالمسيح وفيه ومعه، أمورًا لا بدّ منها لمجدنا نحن وحياتنا نحن؟
الجواب في العودة إلى دعوة الإنسان الإلهيّة من جهّة، ومَسكَنه واقعه البشريّ الخاطىء من جهّة ثانية، طرفين تفصل بينهما هوّة سحيقة لا نردمها إلّا بالمسيح.
الأب جميل نعمة الله السقلاوي اللعازري.