إنّ كلمة السماع أوالإصغاء في الكتاب المقدّس تعني السماع إلى الشخص المتكلّم والعمل بموجب هذا السماع. ويمكننا بالتالي أن نختصر مجمل العلاقة بتاريخ الخلاص بين الله الخالق والمخلّص، وبين الإنسان المخلوق بعلاقة نداء من قبل الأوّل وسماع وطاعة من قبل الآخر. فإن سمع هذا الإنسان من موقعه كمخلوق لمن هو مصدر الحياة، وله الحقّ بأن يطاع، إستحقّ أن يدخل في سرّ هذا الخالق وأن ينعم بغبطة هذا الكائن السامي ويدخل في ذاتيّته الخاصة.
من تلقّى وصاياي وحفظها فذاك الذي يحبّني. والذي يحبّني يحبّه أبي وأنا أحبّه وأظهر له نفسي"(يو 12:14 ). ولكن إن أصمّ هذا الإنسان المخلوق أذنيه عن سماع كلمة من مصدر حياته وسعادته وأمال أذنيه لسماع ذاته أو من ماثله، وجد ذاته بائساً ومرذولاً وعرياناً وعرّض ذاته للتهلكة إذ أغلق على نفسه وعزل ذاته عن من هو النور والسعادة والملء. وقال الربّ لآدم:"لأنّك سمعت لصوت إمرأتك فأكلت من شجرة التي أمرتك ألاّ تأكل منها فملعونة الأرض بسببك...بعرق جبينك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض، فمنها أخذت لأنّك تراب وإلى التراب تعود"(تكوين17:3-19 ). يسمع آدم لحوّاء وحوّاء للحيّة ويعملان على هواهما بدل أن يسمعا لله.
يحدد لنا الكتاب المقدس منذ البداية بأنّ الخطيئة الأولى التي ارتكبها الإنسان والتي بسببها دخل الموت إلى العالم وشملت نتائجها جميع البشر، كان سببها الأساسي عدم الإصغاء لكلمة الله. ومنذ البداية يتضح لنا بأنّ الإصغاء في الكتاب المقدّس مرادف للعمل بأمر الله. فإن سمع كلام الله وعمل بما يوصي، كانت له بذلك الحياة، وإن رفض، حكم على نفسه بالدينونة.
ولو شئنا أن نتوقف على الآيات والنبوءات مع النداءات التي يوجهها إلى الإنسان عبر تاريخ الخلاص، لاضطّررنا إلى رفع الجزء الأعظم من الكتاب المقدّس. ويوجّه الله نداءاته إلى الأفراد والجماعات، مباشرة وبواسطة الأنبياء، من نوح:"فقال الله لنوح"(تكوين13:6 )..."فعمل نوح بحسب كلّ ما أمره الربّ به"(تكوين 22:6 ): إلى إبراهيم حيث الإمتحان الأعظم: " فقال الله لإبراهيم: خذ إبنك وحيدك الذي تحبّه، إسحق، وامض إلى أرض الموريا وأصعده هناك محرقة"(تكوين 2:22 ). فبكّر إبراهيم في الصباح"... ليعمل كما أمره الربّ بكلّ سخاء... فقال له الربّ: بنفسي حلفت، يقول الربّ، بما أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك عنّي ابنك وحيدك، لأباركنّك وأكثرنّ نسلك كنجوم السماء وكالرمل الذي على الشاطئ البحر... ويتبارك بنسلك جميع أمم الأرض لأنك سمعت قولي"(تكوين 16:22-18 ). ومن الواضح هنا أنّ سماع كلمة الله يعني العمل بما يطلبه الله. ويعطي هنا إبراهيم مثلا في الإصغاء فريدا للغاية، ويعلّمنا أنّ الإصغاء يعني أن نضع الله في المرتبة الأولى وأن تفضّله على أغلى وأثمن ما لدينا. فالإصغاء هو الطاعة لله التي تكلّف صاحبها غاليا. والإصغاء لله هو الرهان الأكبر. ولكن من قَبِلَ بهذا الرهان ودخل في هذه المغامرة الفائقة الطبيعية مع الله، إستحقّ منه الثناء والبركة.
ويتجدد هذا النداء عبر تاريخ الخلاص كلّه من الله إلى الإنسان. فمنهم من يسمع ومنهم من يرفض." تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك يسمع"(1 صموئيل3 ). يجيب صموئيل على نداء الربّ له بينما يؤنب النبيّ الشعب الذي أصمّ أذنيه وأغلق قلبه ورفض السماع لصوت الله:" فقال الربّ لأشعيا: إذهب وقل لهذا الشعب: إسمعوا سماعا ولا تفهموا وانظروا نظرا ولا تعرفوا غلِّظ قلب الشعب وثقل أذنيه واغمض عينيه لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه فيشفى"(أعمال 26:28-27 ). وبإختصار يعلّمنا الكتاب أن في الإصغاء لكلام الله والعمل به الحياة والخلاص وأن في الرفض الإنقطاع عن ينبوع الحياة(تثنية15:30 ).
في العهد الجديد
ويوجز لنا يسوع كلام العهد الجديد في تطبيق كلام صاحب المزامير على ذاته حيث يقول:"لم تشأ ذبيحة ولا قربانا ولكنّك أعددت لي جسدا...فقلت حينئذ: هاءنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك يا الله"(عبرانيين5:10-7 ). لإنّ الآب لا يرتضي بالذبائح والقرابين التي لا تعبّر عن الطاعة لكلمة الله فرضي الإبن ذاته بتصرّف الآب ويصبح بالتالي هو القربان والذبيحة والتقدمة للعهد الجديد والطائع لسماع كلمة الآب حتى الموت والموت على الصليب(فيلبّي 8:2 ). إن السماع والإصغاء لكلمة الله هو العمل بمشيئة الآب وقبول هذه المشيئة مهما كلّفت وبالتالي هو ان نضع الله في المكان اللائق به والمرتبة الأولى التي يستحقها وأن نفضّله على الذات وأن نعمل لا بما نريد بل بما هو يريد(مر36:14 ). وهذا يعني بالتالي أن نطبّق الوصية الأولى فنؤمن بكلمته ونقبلها بل بما يريد هو. وهذا يعني بالتالي أن نطبّق الوصية الأولى فنؤمن بكلمته ونقبلها ونعمل بها بكلّ القلب والفكر والإرادة(متى 37:22 ) وأن نثق ثقة مطلقة وحتى فوق الحواس بمحبّته لنا وعنايته بنا. وأن نجد آذانا صاغية بهذا السخاء فسوف يعمل فينا ومن حولنا العظائم (لو 49:1 ) ونصبح منه هكذا الأمّ والأخ والأب. فهل لنا آذان تسمع؟... "اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم" (عبرانيين7:3).
من حياتنا الليتورجية