بمناسبة عيد شفيع رعيتنا فلنتأمّل سويًّا في المعاني الرّوحية للبريّة حيث نشأت الحياة الرُّهبانيّة عن يد أنطونيوس. والمعاني الرُّوحيّة للبرِّيَّة ثرية لزماننا الحاضر، سواء أكانت للحياة الرُّهبانيّة التي تُعاش في البرِّيَّة أو الجبال أو العالم، أم للحياة العلمانيّة التي تُعاش في قلب المجتمعات البشريّة"، كما يشرح الأب فاضل سيداروس في كتابه "معنى البرّيّة لزمانِنا الحاضر- قراءة معاصرة في سيرة القدّيس أنطونيوس".
تعالوا نُغني حياتنا الرُّوحيَّة متجاوزين حدود مكاننا وزماننا الحاضر نحو اختبار البرِّيَّة من خلال هذه الخواطر المُستقاة من حياة كوكب البرّية القدّيس أنطونيوس الكبير وأقواله بحسب القديس أثناسيوس الكبير.
"تتمحور هذه القراءة – أو هذه الخواطر – الرّوحيّة حول ثلاث أوجُه تتميّز بها البرّيّة الرّوحيّة أو روحانيّة البرّيّة: صعيد العلاقة بالأرواح والعلاقة بالبشر، والعلاقة بالمادّة.
البرّيّة: صعيد العلاقة بالأرواح والعلاقة بالبشر، والعلاقة بالمادّة.
ذلك بأن لفظ البريّة العبريّ "مِدْبَرْ" مُزدوج المعنى، فهو يعني في آن واحد الصّحراء الجرداء القاحلة، والمراعي الخضرة النضرة. وبناء عليه، فهذا المعنى اللغويّ المُتناقض يُعبِّر عن معاني روحيّة تجمع بيـن الأضداد في حياة البرّيّة خاصّة، وحياة المؤمن عامّة.
فعلى صعيد العلاقات الروحيّة، تظهر البرّيّة كموضع حيث لقاء الله، وحيث مُقاومة الشرّير، في آن واحد.
وعلى صعيد العلاقات البشريّة، تعني البرّيّة الانفصال عن البشر، والحضور لهم، في آن واحد.
وعلى صعيد العلاقة بالمادّة، ترمز البرّيّة إلى الترحال من دون ارتباط بأرض أو مُمتلكات ولا اهتمام بالجسد بل بِمُقاومة الرّذائل، وإلى الاستقرار في مكان مُعيّن في سبيل اكتساب فضائل مُعيّنة تُقاوم النزعة الأنانيّة، وذلك في آن واحد.
إنّ الأوجُه الثلاثة هذه – علاقات المؤمن الرّوحيّة والبشريّة والماديّة – تُكوِّن لُحمة حياة أيّ إنسان؛ ولذلك تُخاطب البريّة أيّ إنسان مؤمن ولا الرّهبان فقط. فستُكوِّن هذه الأصعدة الثلاثة مدارَ خواطرنا، تسبقها لمحة سريعة عن معنى دعوة الله لأنطونيوس.
معنى دعوة الله لأنطونيوس
لقد حرَّر القدّيس أثناسيوس الاسكندرانيّ "سيرة القدّيس أنطونيوس" (251 -356)، وهي المرجع الأساسيّ الذي يمكن الاعتماد عليه لاستجلاء معنى دعوة الله لأنطونيوس، إذ أنشأ الحياة الرّهبانيّة في البرِّيَّة التي أصبحت من بعده ظاهرة كنسيّة.
نشأت دعوة الله لأنطونيوس في يوم أحد، عندما استمع إلى الإنجيل، وكان في ذلك اليوم دعوة يسوع للشاب الغني عندما قال له:
"اذهب فبِع ما تملك واعطه للفقراء، فيكون لك كنز في السّماء وتعالَ فاتبعني" (مر 10/ 21).
"تعال واتبعني"
لا شكّ أنّ هدف دعوة يسوع للشّاب هو: "تعالّ واتبعني"، فإن الغاية من كلّ دعوة مسيحيّة – ولا رهبانيّة فقط – هي اتّباع يسوع المسيح / التتلمذ له. وأمّا الوسيلة لتحقيق الهدف فهي: "اذهب، بِـع مـــا تملكه، وأعطِه للفقراء" فإنّ العلاقة الشخصيّة بيسوع المسيح تستدعي علاقة معيّنة بالمجتمع ("اذهــب") والأشياء ("بِـع... أعطِ") والأشخاص ("الفقراء"):
"اذهب": التحرُّر من المجتمع
يروي لنا أثناسيوس أنّ أنطونيوس ترك المجتمع البشريّ – لأسباب ستتضح لنا – على مراحل:
فشرع أوّلاً في أن يسكن في خارج قريته ولكن بالقرب منها، فيشارك أهلها في مشاكلهم، ويسترشد لدى النسّاك القاطنين بجوارها.
ثمّ رحل نحو القبور، بعيدًا عن القرية، وكان أهلها يأتونه بالأكل أسبوعيّا، فازداد هكذا توحدّا. وسنرى معنى المقابر ورمزيتها.
وبعد ذلك، توغّل في عمق البرّيّة في الجبال، معتزلاً الناس كلّ الاعتزال، أولئك الذين كانوا يزورونه في المقابر. وسندرس معنى البريّة ورمزيتها.
إلّا أنّ الناس كانوا يتوافدون إليه في جميع مراحل حياته التعبديّة والنسكيّة، طالبين منه الشّفاء أو الإرشـاد أو التتلمذ له. وقد وقع حدثان كنسيّان جعلاه يعود إلى النّاس، ولا سيّما إلى الإسكندريّة، عندما اشتدّت الاضطهادات عن يد الإمبراطور مكسمانس (250-310)، ليساعد المسيحيِّين آنذاك، وعندما احتدت هرطقة أريوس (256- 336) ليقاومها بحضوره في وسط المؤمنيين. وسنرى معنى عودته هذه إلى المجتمع. ثمّ عاد إلى عمق البرِّيَّة، ولم يكفّ الناس عن المجيء إليه.
"بِـع ما تملك وأعطه": التحرّر من الأشياء
يروي لنا أثناسيوس كيف تخلى أنطونيوس عن ممتلكاته ولا سيما عن أراضيه، لأنّه كان غنيّا. وستتسم الحياة الرهبانيّة عامة، وحياة البريّة خاصّة، بطابع التخلي الكامل، وهو نواة نذر الفقر اللاحق؛ وستمثّـل هكذا لعامة المسيحييّن علامة دعوة يسوع المسيح لجميع الذين يتبعونه / يتتلمذون له إلى التخلّي والتحرّر عن عالم الأشياء حتى تستعبدهم.
فليس التخلّي عن المادّة هذا هدفـًا في حدِّ ذاته، بل تحرّر لا مفرّ منه لاستخدامها استخدامًا جديدًا في علاقة جديدة بها. وسيأتي في ما بعد حديث عن أهميّة ذلك كلّه.
"أعطه للفقراء": حبّ الفقراء حبّا تفضيليّا
إن كان التخلي عن الماديّات وسيلة، ففي سبيل مساعدة الفقير. وهذا ما فعله أنطونيوس بتوزيع ممتلكاته على الفقراء؛ فضلا عمّا أصبح تقليدا في الحياة الرّهبانيّة من بعده، ألا وهو التصدّق للفقراء بنتاج عمل الرهبان. فإذا كان المسيحيّون الأوّلون قد تخلّوا عن ممتلكاتهم، ففي سبيل مُساعدة المُحتاجين، تضامنـًا معهم (رسل 2/ 42 ت و4/ 32ت). ومن التعابير المعاصرة لهذا الجانـب: "حبُّ الفقراء حباً تفضيليًّا ".
الخاتمة
لقد قام أنطونيوس بمثل هذه الأعمال بإلهام من الرّوح القدس من أجل علاقته بيسوع المسيح ("تعال فاتبعني").
فإن هذه العلاقة هي مُبرِّر حياته الرُّهبانيّة وغايتها، وما سائر الأمور سوى طُرق ووسائل وتعابير لتحقيــق هذا الهدف المطلق والوحيد".
الأب فاضل سيداروس
"معنى البرّيّة لزمانِنا الحاضر- قراءة معاصرة في سيرة القديس أنطونيوس"