ماذا يطلب الناس، ونحن منهم، في كلّ زمن؟ يطلبون حياة بدون ألم، لا تعرف طعم الضعف ولا المرض، لا تمرّ بالفشل أو الخذلان، وينتظرون من آلهتهم أن يحققوا لهم صورهم عن السَّعادة والغنى والقوَّة. لذا لا يصدّق الرؤساء أنّ الله مع يسوع، وهو يموت عاريًا مشوهًا على الصَّليب. فهذا المشهد يناقض تمامًا صور الناس عن مجد الله وعظمته، وتخيّلهم لبركته وعنايته بمحبّيه.
ولكن في الحقيقة يتجلّى على الصّليب مجد الله ويظهر مُلك يسوع البهيّ. فيسوع هو الخادم الأمين، من مسحه الرَّبّ بروحه القدّوس وأرسله ليبشّر المساكين ويحرّر المأسورين ويشفي العميان (لو4: 18). وطوال حياته راهن على حرّيّة الإنسان وتوجه إلى قلب الناس ليحرّر فيهم الرَّغبة في الحياة، ولا حياة إلّا في الحقّ والصدق، ولا حياة إلّا في بذلها للآخرين.
وأعلن يسوع بحياته وأقواله وأعماله أنّ الله آباه يحبّ كلّ إنسان ويبحث عنه بشغف وصبر كالرّاعي الصَّالح الذي يجدّ في طلب الخروف الضالّ أو المرأة التي تكنس بيتها بحثًا عن الدِّرهم الضَّائع.
ووثق يسوع بالإنسان، ولم يتوقف على خطيئته وبؤسه وشرّه، لأنّه كان يعرف قلب الإنسان، ويعي كلّ الوعيّ إنّ صورة أبيه تسكن كلّ إنسان، مهما طمسها باختياراته المظلمة. ولم يفقد يسوع أبدًا رجاءه في الإنسان لأنّه كان مؤمنًا بأبيه العامل في البشر والسّاكن فيهم. أحبّ يسوع البشر كما هم، بمشاعرهم وعواطفهم، بقدرتهم على الحبّ والعطاء، برغبتهم في الفرح والهناء، وبخطيئتهم وعنفهم وكذبهم أيضًا.
وكان صديقـًا لهم، رفيقـًا على كلّ دروبهم، متضامنًا معهم في كلّ شيء، حتى الموت، والموت الذليل على الصّليب. لم يتهرّب يسوع من موضع يوجد فيه إنسان متألم، ضائع أو بائس. وأخذه طريق الحبّ هذا إلى الجلجلة، إلى موضع الظلمة الكبرى في حياة الإنسان، حيث يدّعي البِرّ ومعرفة الله وهو يهين الإنسان ويقتله.
ووسط صخب الناس والرؤساء والجنود، نظر أحد اللصيَن إلى يسوع المعلّق بجانبه على صليب الهوان والموت، واكتشف فيه البارّ والصدّيق الذي يتألم معه ومن أجله، فملأ النّور قلبه بالرَّغم من جسده الممزّق، وعرف طريق الرّجاء الذي يفتح له وأمامه من خلال جسد يسوع المصلوب.
حتى النهاية، كان يسوع يخلّص ويحرّر ويحيي ويشفي. أطبق عليه الألم والموت، ولكنّ قلبه ظلّ حيًّا بالحبّ والمغفرة لكلّ إنسان يؤمن به ويصرخ إليه. لم يوقف يسوع استهزاء الرؤساء والجنود ومعايرتهم له، بل كان ينتظر الحياة من أبيه واثقًا كلّ الثقة بأنّ الحبّ لن يخذله أبدًا، حتى ولو أظلمت الدنيا ومات على الصَّليب. سينتصر الحبّ، سينتصر بالتأكيد. كان هذا إيمان يسوع ورجاؤه، وسرّ حبّه الفياض لله ولإخوته البشر.
إنّ هذا اللّص هو كلّ واحد منّا، يعرف طعم الضعف والصغر، ويرزح تحت ثقل الأنانيّة والخوف والشكّ، يبحث عن السّعادة في طرق مسدودة وخانقة، ويكتشف أنّ حياته قد تشوهت وأعوجّت. إنّ يسوع معنا اليوم كما كان بالأمس معلّقًا على الصّليب بجانب اللّص، يعرف ما نشعر به، ويفهم ما نعيشه، ويعي تطلّعنا للفرح الحقيقيّ والسّلام العميق، فيشاركنا درب آلامنا، ويراهن على قدرتنا على التجاوب مع الحبّ والحياة والصدق، وينتظر ردّنا الحرّ والشخصيّ، صابرًا، راجيًا، مؤمنًا بنا لأنّه يؤمن بأبيه السّاكن بروحه في قلبنا.
إنّ يسوع هو الملك الحقيقيّ، لأنّه يحبّ كلّ إنسان ويرجو فيه ؛ هو الملك الحقيقيّ لأنّه لا يرغم أحدًا على الإيمان بحبّه له، بل ينتظر ويرافق ويمشي معه، حتى ولو أدّى الطريق إلى الموت، والموت على الصّليب.
إنّ يسوع هو الملك الحقيقيّ وملكوته لا تراه العيون الباحثة عن البريق والمجد والقوّة، بل القلوب الخاشعة المؤمنة بحبّه ورحمته وحنانه، فتستطيع أن تكتشفه وأن تحبّه وتخدمه في كلّ موضع فيه إنسان يئن، يتألّم، يشوّه نفسه أو يجرحه الناس.
إنّ يسوع هو الملك الحقيقيّ، لأنّه كلّه وداعة وتواضع، رقة ولطف وعذوبة، لا يخاف من ظلمة البشر، بل يثق ويؤمن بأنّ الحبّ هو الغالب والمنتصر، وأنّ الناس كلّهم، ونحن معهم، سيقودنا الحبّ إلى الحياة، والحياة بفيض.
الأب نادر ميشيل اليسوعي.