بمناسبة يوم الأغذية العالمي ٢٠٢٣ وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالة كتب فيها يتم الاحتفال بيوم الأغذية العالمي في وقت لا يمنح فيه الفقر واليأس الكثير من إخوتنا أي راحة. وفي الواقع، على صرخة الألم واليأس التي يطلقها الفقراء أن توقظنا من السبات الذي يستحوذ علينا ويُسائل ضمائرنا. إن حالة الجوع وسوء التغذية التي تلحق إصابات خطيرة بالعديد من البشر هي نتيجة للتراكم غير العادل لأشكال الظلم وعدم المساواة التي تترك الكثيرين على هامش الحياة وتسمح لعدد قليل من الناس بالاستمتاع بحالة من التباهي والبذخ. وهذا الأمر لا ينطبق على الغذاء فحسب، وإنما أيضاً على كافة الموارد الأساسية، التي يشكل عدم القدرة على الحصول إليها بالنسبة للعديد من الأشخاص إهانة لكرامتهم المتأصلة التي وهبهم الله إياها. وهي بلا شك إهانة ينبغي أن تجعل البشرية جمعاء تخجل وأن تحرّك المجتمع الدولي.
وبهذا المعنى، فإن الموضوع الذي تركز عليه تأملات اليوم لهذا العام هو: "الماء هو الحياة، والماء هو الغذاء. لا نتركنَّ أحدًا في الخلف"، يدعونا إلى تسليط الضوء على القيمة التي لا يمكن استبدالها لهذا المورد لجميع الكائنات الحية على كوكبنا، والتي منها تأتي حتمية تخطيط وتنفيذ إدارته بطريقة حكيمة ودقيقة ومستدامة، لكي يتمكن الجميع من الاستفادة منه من أجل تلبية احتياجاتهم الأساسية، ولكي يتمَّ أيضًا دعم وتعزيز التنمية البشرية الملائمة، بدون استبعاد أي شخص.
الماء هو حياة لأنه يضمن البقاء على قيد الحياة؛ إلا أن هذا المورد مهدد حاليا بتحديات خطيرة من حيث الكمية والنوعية. في أماكن كثيرة من العالم، يمرض إخوتنا أو يموتون بسبب غياب أو شح مياه الشرب. إن حالات الجفاف الناجمة عن تغير المناخ تجعل مناطق شاسعة عقيمة وتتسبب في أضرار جسيمة للنظم البيئية والسكان. والإدارة التعسفية للموارد المائية واستخدامها المشوه والتلوث تضر بشكل خاص بالفقراء وتشكل إهانة مخزية لا يمكننا أن نقف أمامها مكتوفي الأيدي. بل على العكس، علينا أن نعترف بشكل مُلحٍّ بأن الحصول على مياه الشرب الآمنة هو حق أساسي وجوهري وعالمي من حقوق الإنسان، لأنه يحدد بقاء الأشخاص على قيد الحياة، ولهذا السبب فهو شرط لممارسة حقوق الإنسان الأخرى. ولذلك فمن الضروري زيادة الاستثمار في البنى التحتية وشبكات الصرف الصحي وأنظمة تنقية مياه الصرف الصحي، ولاسيما في المناطق الريفية النائية والأكثر اكتئابا. ومن المهم أيضًا تطوير نماذج تربوية وثقافية تعمل على توعية المجتمع لكي يتم احترام هذا الخير الأساسي والحفاظ عليه. لا يجب علينا أبدًا أن نعتبر الماء مجرد سلعة، أو منتجًا للتبادل، أو سلعة للمضاربة عليها.
الماء هو غذاء لأنه ضروري لضمان الأمن الغذائي، باعتباره وسيلة إنتاج ومكونًا لا غنى عنه للزراعة. في الزراعة من الضروري تعزيز البرامج الفعالة التي تمنع التسربات في أنابيب الري الزراعي؛ استخدام المبيدات والأسمدة العضوية وغير العضوية التي لا تلوث المياه؛ وكذلك تعزيز التدابير التي تحمي توافر الموارد المائية لمنع النقص الخطير فيها من أن يصبح سببا للصراعات بين الجماعات والشعوب والأمم. كذلك، يجب أن يضع العلم والابتكار التكنولوجي والرقمي أنفسهم في خدمة التوازن المستدام بين الاستهلاك والموارد المتاحة، وتجنب الآثار السلبية على النظم الإيكولوجية والأضرار التي لا يمكن إصلاحها ضدّ البيئة. ولهذا السبب، يجب على المنظمات الدولية والحكومات والمجتمع المدني والشركات والمؤسسات الأكاديمية ومؤسسات البحث، فضلاً عن الهيئات الأخرى، التوفيق بين الإرادات وتوحيد الأفكار لكي يصبح الماء إرثًا للجميع، ويتم توزيعه وإدارته بشكل أفضل وبطريقة مستدامة وعقلانية.
وأخيرا، على الاحتفال بيوم الأغذية العالمي أن يذكرنا أيضا بضرورة التصدي لثقافة الهدر بشكل حاسم من خلال إجراءات مبنية على التعاون المسؤول والمخلص من جانب الجميع. إن عالمنا مترابط جدًّا ولا يستطيع أن يتحمل ترف تقسيم نفسه إلى كتل من البلدان التي تعزز مصالحها الخاصة بطريقة غير شرعيّة ومشوهة. ولذلك نحن مدعوون إلى التفكير والعمل في إطار الجماعة والتضامن، وأن نسعى لأن نعطي الأولوية لحياة الجميع على حساب استيلاء البعض على الخيور. وللأسف نشهد اليوم استقطابا فاضحا في العلاقات الدولية بسبب الأزمات والاشتباكات المستمرة. فيتم تحويل موارد مالية وتكنولوجية مبتكرة ضخمة نحو إنتاج وتجارة الأسلحة فيما يمكن استخدامها لضمان أن تكون المياه مصدر حياة وتقدم للجميع. لم يكن الأمر أكثر إلحاحا مما هو عليه الآن لأن نصبح معززين للحوار وصانعي سلام. إنَّ الكنيسة لا تتعب أبدًا من زرع تلك القيم القادرة على بناء حضارة تجد في المحبة والاحترام المتبادل والمساعدة المتبادلة بوصلة ترشد خطواتها، وتعمل بشكل خاص من أجل الإخوة الذين يتألّمون أكثر من غيرهم، مثل الجياع والعطاش.
بهذه التمنيات، وفيما أشكر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة على كل ما تفعله من أجل تعزيز التنمية الزراعية والتغذية الصحية والكافية لجميع الأشخاص والاستخدام المستدام للمياه، أستمطر البركات السماوية الوفيرة على الذين يناضلون من أجل عالم أفضل وأكثر أخوّة.
إذاعة الفاتيكان