ليس هناك وسيلة للهرب، من دعوة الله لكلّ واحدٍ منّا. في العهد القديم: للنبّي عاموس، "واخز الجُمَّيز"، الذي يُعلن عن رسالة تُزعج الملك والكهنة الذين في خدمته (عاموس7/ 12 -15)؛ وفي الإنجيل (مر6/ 7 -13) حيث يدعو يسوع الإثنيّ عشر تلميذاً ويوليهم سلطاناً على الأرواح النجسة؛ والقدِّيس بولس، الذي غيّرته دعوة الله له من مضطهد للكنيسة إلى رسول للأمم.
الموضوع هنا ليس لكي ننتحب على النقص في الدّعوات ولنبيّن أنّ الكنيسة (خاصةً في أوروبا الغربيّة) قد أصابها الضعف بسبب نقص الدّعوات. وليس الموضوع أيضًا للكلام عن أسباب هذا النقص.
نعم، لم يعُد للإيمان والمُمارسات الدينيّة اليوم المكانة ذاتها التي كانت لها في الماضي؛ نعم، لم تعُد العائلات كثيرة العدد كما كانت من قبل. ومع ذلك فالموضوع هو أن نسأل أنفسنا: هل أجسُر أن أدَع يسوع ينظر إليَّ اليوم؟ لأنّه، بالرّغم من قلّة الاستجابة لدعوته، يستمرّ الله بالدّعوة؛ فالله لا يزال بحاجة إلى النّاس.
يدعو يسوع الإثنيّ عشر، شعبًا جديدًا، شعب العهد: فالإثنيّ عشر رسولاً يمثلون الأسباط الإثنيّ عشر. كيف دعاهم؟ لم يعِدهم على ما يبدو برواتب استثنائيّة، ولم يُعطِهم ضمانات من أجل مستقبلٍ آمِن. فقد قال لهم أن يمضوا دون أن يُحيطوا أنفسهم بكافة الضمانات التي نعتبرها اليوم ضروريّة. بل بالعكس، إنّه يُرسلهم بأيدٍ فارغة؛ بدون طعام، ولا مال، بدون ما يلزمهم من الثياب – بلا ثوب إضافيّ، ولا حذاء صلب من أجل المسير، إنّما فقط نعالاً يشدّوها على أرجلهم.
نتساءل بالتأكيد فيما إذا كانت هذه النصائح لا تزال صالحة ليومنا هذا، فهي تتناقض تمامًا مع عقليّة الإنسان المعاصر. لا يجب أن نرحل بدون ضمانات من مال، وغذاء، ولباس. ونبرّر أنفسنا قائلين: لقد تغيّر الزمن؛ ولا يمكننا أن نعمل أيّ شيء بدون وسائل نتسلّح بها، بدون ضمانات حيويّة.
ومع ذلك فالرّسالة لم تتغيّر: إنّنا مُرسلون لكي نُعلن البشارة، لكي نطرد الأرواح النجسة ولكي نشفي المرضى. والمخاطر هي ذاتها كما في زمن عاموس: المؤسّسة لا تحب الأنبياء المُزعجين. إنّهم يقولون لهم، كما لعاموس: "عليكَ البقاء في بستانك، أيّها الفلاح؛ قُم بحراسة أغنامكَ، أيّها الرّاعي. لا تتدخل في شأننا؛ دَع لنا قيادة الكنيسة".
الباب يُغلَق في وجه الذين يُعلنون البشارة، يقولون لهم: إنَّ رسالتكم لا تهمُّنا؛ فنحن نعرف كيف نشفي مرضانا وكيف نُحارب الشرّ. أعطوا للشَّعب سلاحًا، وخبزًا، وثيابًا وكلّ الأبواب ستُفتح أمامكم.
لماذا تبدو لنا الدّعوة مستحيلة اليوم بشروطها غير القابلة للتطبيق، بينما كان الشَّباب في الماضي مثل عاموس، القدّيس بولس، والرسُل يقتنعون بها. لقد كانت قوّتهم، بالتأكيد، تأتي من انطلاقهم "إثنين إثنين". ولكنّ الأكثر من ذلك، هو أنّهم كانوا مبهورين بيسوع. لقد لمستهم دعوته في عمق أعماقهم. فقد استطاعوا التخلّي عن كلّ تساؤلاتهم البشريّة والتضحية بكلّ ما هو أساسيّ بالنسبة لهم، لأنّ يسوع استغواهم، بشخصه ورسالته.
عندما نظر إليهم، فقدوا توازنهم ووقعوا في الحبّ. ما هو أساسيّ في كلّ دعوة، كما يقول لنا الأب بيدرو أروبيه "الرئيس العامّ السّابق للرُّهبانيّة اليسوعيّة"، هو أن نقع في الحبّ كلّ يوم.
لندع أنفسنا أمام يسوع لينظر إلينا. فلن نتمكّن من أن نتخلّى عن المال والثياب والطعام، إلّا عندما يستغوينا فننفصل عن القيَم الماديّة لنعيش الفقر، والطاعة، والعفـّة بسعادة.
دَع يسوع ينظر إليكَ. وعلى مثال عاموس، لتكن لديك الجرأة فتترك بستانكَ لتصبح بستانيًا للنفوس؛ وعلى مثال الرسُل، لتكن لديك الجرأة فتترك شِباككَ لكي تطرد الأرواح النجسة وتشفي الكثير من المرضى في مجتمعنا المعاصر؛ وعلى مثال القدّيس بولس، صانع الخيام هذا الذي يقول لنا: "إنّه اختارنا فيه قبل إنشاء العالم لنكون في نظره قدّيسين بلا عيب في المحبّة" (أف1/ 3).
فيه يتمّ المُستحيل ويسوع سيجعل منكَ صيّاداً للناس. هل تجرؤ أن تدَع يسوع ينظر إليك وتدعه يستغويك لتذهب وتُعلن البشارة، بدون أيّ سلاح سوى ثقتك بالربّ، وبالمحبّة الأخويّة للذين ينطلقون "إثنين إثنين؟".
الأب هانس بوتمان اليسوعي.