إن اختيار الكنيسة المارونيّة لإنجيل شفاء الأعمى في هذا الأحد السابق لأحد الشعانين هو ليس من قبيل الصدفة، فمسيرة الصوم هي مسيرة تعليميّة، وأناجيل الصوم، ولا سيّما أناجيل الآحاد تقودنا في هذه المسيرة نحو لقاء المسيح القائم من بين الأموات.
فإذا أخذنا أناجيل الآحاد منذ مدخل اليوم ماذا نجد؟
- أحد مدخل الصوم، عرس قانا الجليل، هو إعتلان يسوع وإيمان التلاميذ، أي بدء مسيرة التتلمذ على هدي صوت مريم: إفعلوا ما يأمركم به.
- الأحد الثاني من زمن الصوم، أحد شفاء الأبرص: هي بدء مسيرة التنقّي، البعيد عن المجتمع ينال شفاءه ويعود. هو الشفاء الإجتماعي والمصالحة مع العالم.
- الأحد الثالث هو أحد شفاء المنزوفة: الإمرأة النازفة التي كانت تحيا ألم حقيقتها بعيدة عن الناس، نالت الشفاء الداخليّ جاءت الى يسوع تلمس من الخلف رداءه، خوفاً من أن تنجّس ابن الله بعدم طهارتها، فجلبها يسوع الى الأمام، وقفت امامه، نظرت في عينيه وأعلنت أمام الجميع ما جرى لها. لم تعد ترى في ذاتها مصدر شقاء الآخرين، لم تعد تحيا خجل حقيقتها. هي المصالحة مع الذات.
- الأحد الرابع هو أحد الأبن الشاطر، هي حقيقة الإنسان البعيد عن الله يفتّش عن حريّته فيجد الشقاء في الخطيئة، ويعود الى حضن الآب تائباً. هو الأحد الّذي ينتصف الصوم، هو أحد التوبة والتوبة محوريّة في الصوم. هي المصالحة مع الله.
- الأحد الخامس هو أحد شفاء الكسيح، نال الشفاء بسبب إيمان الجماعة التي تحمله نحو السيّد. هو خلاص الرّب يتجلّى عبر الكنيسة، هي المصالحة مع الكنيسة، مع جماعة الإخوة.
الأحد الأخير هو الأحد الّذي يفتتح أسبوع الشعانين، هو أحد شفاء الأعمى، هي نهاية رحلة التتلمذ، التلاميذ أعجبوا بيسوع مصدر الفرح في قانا وبدأوا مسيرة التتلمذ، مسيرة الشفاء والمصالحة مع العالم والمجتمع، المصالحة مع الذات، المصالحة مع الله، الإلتزام في الكنيسة.
في ختام هذه المسيرة تتفتّح أعين التلاميذ، يصبحوا قادرين على فهم حقيقة معلّمهم. هم مدعوّون الى الدخول معه الى أورشليم عالمين أنّه ملك الكون والمخلّص الأوحد، لا القائد الزمنّي الّذي سوف يهتف له الشعب الّذي لم يفهم حقيقته.
هذا هو صومنا، إنتقال من حقيقة يسوع صانع المعجزات، الى معرفة يسوع الفادي المتألّم حبّاً بنا.
كم هو مثير للإهتمام أن "الجمع الكبير" الّذي كان يتبع يسوع ويهتف له قد "أخذ ينتهر الأعمى ليسكت". ما سبب اتّباع الجموع ليسوع إن لم يؤمنوا بقدرته على تبديل واقع الحياة؟ لقد آمن الأعمى بقدرة يسوع على نقله من عن جانب الطريق وإعادته الى وسط الحياة، من ظلمة العمى الداخلي الى نور لقاء الرّب في حياته.
إن هذه الجماهير تشبه الى حدّ كبير جماهير المؤمنين بيسوع، يتبعون يسوع، اعتادوا عليه، صار في حياتهم أمراً روتينيّاً، أو يتبعونه لأنّهم يريدون أمراً ما، أو لشعور بحماية أو لخوف أو وسواس، إنّما في عمق أعماقهم لا يؤمنون بأن الرّب قادر على تبديل واقعهم وواقع الآخرين، ينتهرون من يؤمن بقدرة يسوع ويسكتونه بطرق شتّى: بالقمع، بالسخرية، بالتهميش أو بالشفقة أحياناً.
لقد اعتادت جموعنا على يسوع في حياتنا اليوميّة الى حدّ جعلنا ننسى جمال لقاءه، ونفقد الإيمان بقدرته.
نقدّم ضمانات عقلانيّتنا على ثقة الإيمان، نخاف أن نبدو حمقى، نخاف أن نصطدم بواقع عدم الوصول الى مبتغانا، نخشى الاّ يجيب يسوع سؤلنا، فلا نخاطر، لا نطلب، نبقى في خط المؤمنين التقليديّين، أي في خطّ من حصر إيمانه بيسوع في مجرّد تطبيق للوصايا وإتمام الواجبات، دون شوق وحبّ ورغبة.
لقد كان هذا الأعمى البصيرَ الوحيدَ بين الجموع، كلّهم كانوا عمياناً أظلم قلبهم وخفتت ثقتهم ونسيوا جمال المغامرة مع يسوع. هو هتف مسبقاً نشيد الدخول الى اورشليم، صرخ: هوشعنا، أي خلّصني، هتف "يا ابن داود"، وألقى رداءه: أعمال سوف نراها تتكرّر بعد أيّام قليلة على يدّ الجموع التي تعلّمت من هذا الأعمى شجاعة إعلان الإيمان.
لقد خطّ هذا الأعمى مسيرة إيمان على كلّ واحد منّا أن يسيرها:
الإيمان هي حالة انطلاق من الهامش الى عمق الوجود، ومن حالة الظلمة الى حالة النور. لقد بدأ الأعمى بالسماع لا بالمعاينة، يسمع عن يسوع، يخبره الآخرون عن قدرته، وهو باقٍ على هامش الطريق.
في ذلك اليوم مرّ يسوع من هناك، عابراً المدينة، فاغتنم الأعمى فرصته الوحيدة. الإيمان يدعونا الى تغيير حالة لا الى اعتناق عقيدة أو ايديولوجيا، هو تغيير حالة وجودنا الإنساني من حالة الثبات في الروتين، من حالة البقاء على هامش طريق الحياة، الى حالة الإنسان "الواثب" مثل الأعمى، يلقى عنه رداء عاداته، ومهنته، رداء حياته الفارغة وينطلق وراء يسوع، معلناً إيّاه المخلّص وطالباً منه الرحمة.
الإيمان هو صرخة تنطلق نحو شخص لا نراه، إنّما نعلم أنّه موجود وأنّه قادر على تغيير واقع حياتنا. الأعمى لم ير يسوع بنور العين الجسديّة، إنّما آمن به، وبدافع من رجائه العميق وثقته بقدرة الرّب صرخ له: إريد أن أبصر.
هي حقيقة إيماننا، لا ننطلق من المعاينة لنفهم، بل نؤمن بإله سمعنا عنه كما سمع ذاك الأعمى عن قدرته، نعلم أنّه يدعونا فنثب وراءه، نسمع صوته، نعلنه مخلّصاً، فنبصر.
مسيرة الإيمان تنطلق من دوماً من عدم المعاينة الى المعاينة، فلو كنّا نبصر ما نؤمن به لما كان إيماناً، لأضحى ضمانة ملموسة وحسيّة.
لا يمكننا أن نفتّش عن الضمانات الحسيّة الملموسة لإيماننا، بل نثق ونؤمن، وعندها نبصر، لا بعين الجسد أو العقل، إنّما بواسطة الحبّ الّذي يبادلنا إياه الرّب.
نلمس عمله في حياتنا، نختبر حضوره معنا، ينتشلنا مروره من هامش عبثية الحياة ليضعنا في صميم العلاقة الإلهيّة، يصبح لوجودنا معنى بدخولنا في علاقة مع السيّد.
العوائق التي كادت تمنع الأعمى من الوصول الى يسوع هي نفسها تمنعنا من التعرّف الى يسوع يمرّ في حياتنا ويدعونا للسير وراءه على طريق أورشليم نحو الجلجلة والقيامة.
لقد أخذ الجمع ينتهره ليسكت، وينتهرنا عالم اليوم لنسكت نحن أيضاً، يخنق منطق العصر فينا الرجاء، يغلقنا على منطق العنف والقوّة والحرب، أو على منطق المادّة والإستهلاك، أو على السعي الى لذّة عابرة تنتهي فنبدأ بالتفتيش عن أخرى. العالم ينتهرنا لأن منطق الإيمان هو لا منطق بالنسبة إليه.
الإيمان هو منطق الضعفاء والحمقى، أمّا الأقوياء بأفكار قلوبهم فيفتّشون عن ضمانات حسيّة. والعائق الآخر كان يمكن أن يكون الثوب الّذي كان يملكه، مُلكه الأوحد. لو تعلّق به لكان خسر يسوع، لو خاف من خسارة من يملك لكان مرّ يسوع وعبر، لو خاف من فقدان المكان على قارعة الطريق أو من رمي الثوب والركض خلف يسوع، لما كان قد شُفي.
هي عوائق إيماننا نحن أيضاً: كم يخيفنا منطق الترك والتغيير؟ كم نرغب بالثبات ولو كان هذا الثبات لا يلذّ لنا. دعوة الإيمان هي الترك والإنطلاق خلف يسوع. ترك أفكارنا الخاطئة، أو عاداتنا السيئة، أو خطايانا اليوميّة، أو منطقنا المغلوط. ترك كبريائنا أو حسدنا أو حقدنا أو كسلنا.
اتّباع المسيح يستلزم كياناً قادراً على الوثب كما وثب ذلك الأعمى، كياناً غير خائف من التغيير، فإن لم نتخلَّ عن ثقل ما نملك، لا يمكننا التتلمذ ليسوع.
لقد أجاب يسوع على صراخ الأعمى فناداه. إن ديناميّة الإيمان تنطلق من نعمة الرّب، من مروره في حياتنا، هو دوماً صاحب المبادرة، مبادرةٌ تبقى عقيمة إن لم يقبلها الإنسان ويستجيب لها. مرور يسوع يجعلنا "ننهض"، نقوم من رتابة واقعنا، ننهض من تحت أثقال حياتنا، صوته يجعلنا نقلب معادلات حياتنا، نتحوّل من أعمى القى بذاته على هامش طريق الحياة الى كائن واثب وثبة الإيمان، كائن شجاع يترك كلّ ما يملك ليتبع يسوع، ليتتلمذ له.
الجموع التي كانت تنهره ليصرخ قد بدّلت منطقها أيضاً، صارت صوتَ يسوع نفسه، تحوّلت بفضل الرّب من حاجز أمام الأعمى الى وسيلة تساعده للوصول الى السيّد: "تشجّع وقم فهو يدعوك"، السبب الأوّل هو دعوة الرّب، دعوة تحتاج لشجاعة في سبيل إتمامها، شجاعة في المغامرة، فيسوع لا يعطي ضمانات ملموسة، يطلب ثقة الصداقة، يطلب حريّة القلب وشجاعة الحبّ. عندها فقط يمكن لكياننا أن يقوم ويتتلمذ، ودون الشجاعة يبقى كياننا ميتاً كجثة تتخبّط في بحر حياة دون هدف ودون رجاء.
الإيمان هو لقاء خاصّ بيسوع المسيح، لم يعد مجرّد سماع عنه، بل هو اكتساب للرؤية من أجل معاينة الرّب وجهاً لوجه: النعمة الحقيقيّة ليست اكتساب النظر، بل هي رؤية يسوع، اكتساب النظر ما هو الاّ وسيلة، والنعمة الحقيقيّة هي رؤية يسوع الّذي سمعنا عنه كثيراً من الآخرين.
اكتساب النظر هو الإيمان، والإيمان وسيلة تنتهي مع انتهاء حياتنا، وسيلة لا نحتاجها في العالم الآخر فسوف نعاين الرّب وجهاً لوجه. ما يبقى هناك هو الحبّ، هو النظر في عينيّ يسوع المسيح دون خجل. ما تمّ مع الأعمى هنا ما هو إلاّ استباق بسيط لما هو مدعوّ اليه في علاقة أبديّة لا تنتهي.
نتيجة الإيمان التتلمذ، فلا يمكننا أن نسمح أن يكون لقاؤنا بالرّب عقيماً، إيماننا هو فعل التزام بالطريق التي يسير عليها السيّد، وهي ليست سهلة. قام وتبعه في الطريق، الطريق التي سوف تقوده الى الجلجلة، الى ألم الصليب، الى ظلمة القبر، والى القيامة. درب إيماننا وتتلمذنا ليسوع لا بدّ أن تنطوي على هذه كلّها.
لا بدّ أن يكون إيماننا سبب ألم لنا، يتطلّب تضحيات وأعمال بطولة، يمنعنا من التفتيش عن الطريق الأسهل، ويجعلنا نسعى الى الخير رغم التضحيات الكبيرة.
إيماننا يقودنا الى طريق الجلجلة، الى سخرية الآخرين كما سخر الجنود من يسوع وضربوه بقصبة على رأسه كعبد حقير.
قد نصل في إيماننا الى ظلمة القبر، كلّ شيء حالك مظلم حولنا، لا نجد أجوبة على اسئلة كثيرة نطرحها، نظن أنفسنا وحدنا دون إله يقودنا ويحمينا، هي ظلمة الإيمان تشابه ظلام القبر حيث يرقد السيّد.
إنّما لا بدّ أن يسطع نور القيامة، لا بدّ أن نخرج من ظلمة قبرنا، إذ تستطع علينا أنوار قيامة. السيّد.
الأب بيار نجم.