"الإفخارستيا، في الواقع، هي الحضور الحقيقي، الفعلي، والجوهري للمخلّص، الذي يُحوّل الخبز إلى ذاته، لكي يُحوّلنا نحن إليه" هذا ما قاله قداسة البابا لاوُن الرابع عشر في عظته مترئسًا القداس الإلهي بمناسبة عيد جسد الرب ودمه
ترأس قداسة البابا لاوُن الرابع عشر عصر الأحد، في بازيليك القديس يوحنا اللاتيران، القداس الإلهي الاحتفالي بمناسبة عيد جسد الرب ودمه، بمشاركة حشد كبير من المؤمنين والكهنة، تلاه تطواف إفخارستي مهيب في شوارع العاصمة. وفي عظته، التي تأمّل فيها بإنجيل تكثير الخبز، شدّد الأب الأقدس على أن شفقة يسوع على الجموع الجائعة ليست فقط علامة رأفة بشرية، بل هي إعلان حيّ عن حضور الله القريب، الذي لا يترك الإنسان في عوزه، بل يُشركه في خبز الحياة الذي لا يفنى. وأكّد أن "الجوع ليس مجرد حاجة جسدية، بل هو أيضًا علامة على توق قلب الإنسان إلى المعنى والمحبّة والحياة"، مشيرًا إلى أن الإفخارستيا هي الجواب الإلهي على هذا التوق.
قال البابا لاوُن الرابع عشر أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، ما أجمل أن نكون مع يسوع! هذا ما يشهد عليه الإنجيل الذي تُلي علينا للتو، إذ يخبرنا أن الجموع كانت تمضي ساعات طويلة معه، بينما كان يكلّمهم عن ملكوت الله ويشفي المحتاجين إلى الشفاء. إن شفقة يسوع على المتألمين تُظهر قرب الله المحب، الذي جاء إلى العالم ليُخلّصنا. فعندما يملك الله، يتحرر الإنسان من كل شرّ.
تابع الأب الأقدس يقول ومع ذلك، حتى الذين نالوا من يسوع البشرى السارة، لم تُعفهم ساعة المحنة. ففي ذلك المكان القفر، حيث أصغت الجموع إلى المعلّم، حلّ المساء ولم يكن هناك ما يؤكل. إن جوع الناس وغروب الشمس علامتان على محدوديّة العالم وكل خليقة: فاليوم ينتهي، وكذلك حياة الإنسان. وفي هذه الساعة، ساعة الحاجة والظلال، يبقى يسوع في وسطنا.
أضاف الحبر الأعظم يقول تمامًا عندما بدأ النهار يميل واشتدّ الجوع، وبينما طلب الرسل منه أن يصرف الجموع، يفاجئنا المسيح برحمته. فهو يشعر بالشفقة على الشعب الجائع، ويدعو تلاميذه للاعتناء به. إن الجوع ليس مسألة ثانوية لا علاقة لها بإعلان الملكوت والشهادة للخلاص، بل بالعكس، هو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلاقتنا مع الله. خمسة أرغفة وسمكتان لا تبدو كافية لإطعام الجمع: فمع أن حسابات التلاميذ كانت معقولة، إلا أنها كشفت عن قلّة إيمانهم. لأن الحقيقة هي أن مع يسوع يوجد كل ما نحتاج إليه ليعطي لحياتنا القوة والمعنى.
تابع الأب الأقدس يقول أمام نداء الجوع، يجيب الرب بعلامة المشاركة: يرفع عينيه، يتلو البركة، يكسر الخبز ويقدّمه للجميع. إن أعمال الرب لا تدشّن طقسًا سحريًا معقدًا، بل تعبّر ببساطة عن الشكر للآب، وصلاة الابن البنويَّة، والشركة الأخوية التي يعضدها الروح القدس. ولكي يُكثّر الخبز والسمك، قسم يسوع ما كان موجودًا: فكان كافيًا للجميع، بل وفيرًا. وبعد أن أكلوا حتى الشبع، رفعوا ما فضل عنهم: اثنتا عشرة قفة من الكِسَر.
أضاف الحبر الأعظم يقول هذا هو المنطق الذي يُخلّص الشعب الجائع: يسوع يعمل بحسب أسلوب الله، ويعلّمنا أن نعمل مثله. واليوم، بدلاً من الجموع التي تحدث عنها الإنجيل، نجد شعوبًا بأكملها تُذلّ، لا فقط بسبب الجوع، بل أيضًا بسبب جشع الآخرين. أمام بؤس الكثيرين، يشكّل تكديس القليلين علامة على كبرياء لامبالية تُنتج الألم والظلم. وبدلاً من المشاركة، يهدر الغنى ثمار الأرض وعمل الإنسان. ولا سيما في هذه السنة اليوبيلية، يبقى مثال الرب معيارًا مُلحًّا لعملنا وخدمتنا: فمشاركة الخبز من أجل مضاعفة الرجاء، تعلن مجيء ملكوت الله. بإنقاذه الجموع من الجوع، يُعلن يسوع أنه سيُخلّص الجميع من الموت. هذا هو سرّ الإيمان الذي نحتفل به في سرّ الإفخارستيا. فكما أن الجوع هو علامة على فقرنا العميق إلى الحياة، كذلك كسر الخبز هو علامة على عطية الخلاص الإلهي.
تابع الأب الأقدس يقول أيها الأعزاء، المسيح هو جواب الله على جوع الإنسان، لأن جسده هو خبز الحياة الأبدية: "خذوا وكلوا منه جميعكم!". إن دعوة يسوع تعانق خبرتنا اليومية: فلكي نعيش، نحن بحاجة إلى أن نتغذّى من الحياة، التي نأخذها من النبات والحيوان. ومع ذلك، فإن أكل شيء ميت يذكّرنا بأننا، مهما أكلنا، سنموت أيضًا. أما عندما نتغذّى من يسوع، الخبز الحيّ والحقيقي، فإننا نحيا له. وإذ قدّم ذاته بالكامل، يسلّم لنا المصلوب القائم من بين الأموات نفسه، فنكتشف أننا خُلقنا لكي نتغذّى من الله. إن طبيعتنا الجائعة تحمل في داخلها علامة فقر لا يُشبعه سوى نعمة الإفخارستيا.
أضاف الحبر الأعظم يقول وكما كتب القديس أوغسطينوس: "حقًا إن المسيح هو الخبز الذي يُشبع ولا ينفد، خبز يمكن أكله، لكنه لا يُستهلك". فالإفخارستيا، في الواقع، هي الحضور الحقيقي، الفعلي، والجوهري للمخلّص، الذي يُحوّل الخبز إلى ذاته، لكي يُحوّلنا نحن إليه. إن جسد الرب الحي والمحيي يجعلنا نحن، أي الكنيسة، جسد الرب. لذلك، وبحسب كلمات الرسول بولس، يعلّمنا المجمع الفاتيكاني الثاني أن "بالسرّ الإفخارستي، تتمثّل وتتحقّق وحدة المؤمنين، الذين يشكّلون جسدًا واحدًا في المسيح. فجميع البشر مدعوون إلى هذا الاتحاد مع المسيح، الذي هو نور العالم: منه أتينا، وبه نحيا، وإليه نتّجه".
تابع الأب الأقدس يقول إن التطواف الذي سنبدأه بعد قليل هو علامة لهذه المسيرة. معًا، رعاة وقطيع، نتغذّى من القربان الأقدس، نعبده، ونحمله في الشوارع. وبهذه الطريقة، نقدّمه لنظر الناس، وضميرهم، وقلوبهم: إلى قلب المؤمن، ليؤمن بشكل أقوى؛ وإلى قلب غير المؤمن، ليطرح على نفسه أسئلة عن الجوع الذي في أعماقه، وعن الخبز القادر أن يُشبعه.
وختم البابا لاوُن الرابع عشر عظته بالقول إذ تغذّينا بالغذاء الذي يهبه الله لنا، لنحمل يسوع إلى قلب الجميع، لأن يسوع يشمل الجميع في عمل الخلاص، ويدعو كل واحد منا للمشاركة في مائدته. طوبى للمدعوين، الذين يصبحون شهودًا لهذا الحب!
إذاعة الفاتيكان