في هذا الأحد الأوّل بعد أحد مدخل الصّوم، نتأمّل في إنجيل (مر 1 /35-45) له بُعْد رمزيّ عميق لصومنا. إنّ هذه الفترة التي نعيشها هي ليست مجرّد انقطاع عن المآكل، إنّما هي بدرجة أولى فترة تطهُّر، فترة فحص ضمير وتأمّل في حياتنا، ندرك أن برص الخطيئة يُبعدنا كلّ يوم عن الله، نصبح مثل هذا الأبرص، دون علاقة مع الله، لأنّنا بإرادتنا قرّرنا الإنفصال عنه وفَضَّلنا الشّر.
نجد أنفسنا منفصلين عن الكنيسة، جماعة القدّيسين، لأنّ الحياة المسيحيّة هي حياة سعي إلى القداسة، واختيار دائم لله في حياتنا. وأخطر ما في الخطيئة هي أنّها تجعلنا ننغلق على ذواتنا، مِثل الأبرص في عزلته، تجعلنا نتقوقع على فقرنا وعزلتنا، على جراحنا وخطيئتنا، على تعاستنا ويأسنا.
نحيا في حالة موت دائم ونعلم أنّ حياتنا هي في المسيح وفي الجماعة، نعلم ولا نبادر، تنقصنا الشجاعة لنعترف بخطئنا، ونعود.
المسيح يريد أن يشفينا، ينتظرنا، كما انتظر كلمات الأبرص فلمسه. الصّوم هو تفتيش عن لمسة المسيح في حياتنا، ننالها من خلال معرفة محدوديّتنا وخطيئتنا، ننالها بفعل ثقة وإيمان.
كلّ واحد منّا يجد ذاته في صورة هذا الأبرص، إنّما كلّ واحد منّا يمارس قسوة الجماعة التي تفصل الخاطئ أيضًا.
كم من الأشخاص هم اليوم مثل هذا الأبرص في حياتنا وفي مجتمعنا؟
كم من الأشخاص نهمّش ونعزل؟ نترك الخاطئ خارج باب قلبنا، لأنّه خاطئ، نُهمّشه بحكمنا الفرديّ والجماعيّ، نزيد ألم جراحه بعزله.
كم من الأشخاص يموتون روحيًّا كلّ يوم لأنّنا نتركهم وحيدين؟ نعزلهم لأنّ في ماضيهم وصمة ما، نتحاشاهم لأنّهم قد اقترفوا خطأ ما، لأنّ المجتمع يَصِمَهم بوَصمة ما، وَصمة غفرها المسيح ولا نزال نذكرها نحن.
نعزل الآخر لأنّه مختلف، لأنّه يخالفني الرأي والمعتقد أو السياسة أيضًا؟ ننتقد مجتمع إسرائيل البدائي ومجتمعاعتنا المتمدّنة تمارس عزلاً وتهميشًا أخطر وأشمل: كم من فقراء يعانون الجوع والبرد؟
كم من أيتام وأرامل لا يُعارون اهتمامًا؟ كم من مرضى في مستشفيات لا يزورهم أحد؟ كم من أشخاص حولنا يحتاجون إلى مجرّد لمسة، إلى كلمة تعزية وتشجيع، إلى أن نذكّرهم أنّهم ليسوا وحيدين في العالم، فالله إلى جانبهم من خلالنا؟
لا نخافنّ حُكْم المجتمع في وقفتنا إلى جانب من وصمه المجتمع بعلامة سوداء، فدينونة السيّد سوف تكون: "ماذا فعلت لإخوتي الصّغار؟".
الصّوم هو فترة تطهّر وتنقية للذات من كلّ برص خطيئة، هو زمن عودة إلى المسيح، هو سماع المسيح يقول لكلّ واحدٍ منّا: "إذهب إلى الكاهن وأرِه نفسك، وأدّ التكفير". إيماننا المسيحيّ لا يكون بمعزل عن الوصايا وعن الجماعة، فالمسيح يقودنا دومًا نحو الجماعة، نحو الكنيسة، نحو الكاهن.
إيماننا ليس إيمانًا فرديًّا، وتوبتنا ليست فرديّة أيضًا، فالخطيئة التي جرحت جسم الكنيسة بأسره تنال الغفران من خلال سرّ الكنيسة نفسه. نجرح الجماعة بِشَرِّنا ونسمع منها، عبر الكاهن، كلمات المغفرة.
لا نخفي كبرياءنا أو خجلنا بستار العلاقة المباشرة مع يسوع، بقولنا: "أعترف بخطيئتي مباشرة لله"، فالكنيسة هي استمراريّة لحضور السيّد، والأسرار هي وسيلة تقديس، والتوبة والإعتراف هما فعل تواضع، فعل ثقة بقدرة الله على المغفرة وبرحمة الإخوة أيضًا.
الكنيسة هي واحة حبّ، ومكان مغفرة دائمة. أنا مدعوّ لأنّ أؤدّي الكفّارة عن خطيئتي، بالصّلاة والتكفير والتوبة، وبعمل الرَّحمة نحو الآخرين: "إنّ الصّدقة، تجعلنا قريبين من الآخرين، تجعلنا قريبين من الله ويمكنها أن تتحوّل إلى أداة حقيقيّة للتوبة وللمصالحة معه ومع الإخوة" (البابا بندكتوس السادس عشر، رسالة صوم 2008).
الصّوم هو انتقال من حالة واحد من مجموعة إلى حالة تلميذ للمسيح.
في فترة الصّوم نفحص معنى إيماننا، ومعنى علاقتنا بالسيّد: لماذا أتبعه؟ ألأنّه قادر أن يشفيني؟ ألأنّه يعطيني ما أريد؟ ألأنّه يصنع المعجزات؟ هي كلّها صفات الجموع، تتركني دون هويّة، دون علاقة شخصيّة بيسوع المسيح.
دعوتي هي أن أكون تلميذاً لا فرداً من مجموعة، التلميذ يثق بيسوع وبمخطّط الله في حياته، يقبل صليب يسوع في حياته برجاء وثقة. الفرد هو تاجر، يؤمن بيسوع يلبّي رغباته، والتلميذ هو صديق، يعلم أن يسوع حاضر دومًا يرافق وينمّي وينير الطريق.
الأب بيار نجم.