يسوع مَحوَر الصَّوم حول شخصه، حول وجوده وعدم وجوده. هذا يعني أنَّ الصَّوم يستمدُّ معناه من يسوع وليس من أي مصدر آخر. بمعنى آخر يمكننا القول بأنّ المسيح أعطى للصَّوم معنىً جديدًا وجذريًا.
يقول لنا أنّه عندما يكون حاضرًا بيننا فلا حاجة لنا للصَّوم. والكنيسة تقول استنادًا للإنجيل (مرقس 2/ 18 -22)، بأنّ المسيح حيّ بيننا وهو حاضر معنا دائمًا. هذا يعني أنّ المسيحيّ ليس بحاجة إلى الصيام، بما أنّ المسيح «العريس» حاضر في حياته وفيه؛ ولكن المشكلة هي من طرفنا، بمعنى أنّنا نحن بعيدون عن المسيح ونخرجه من حياتنا، وغالباً نعيش كما لو أنّنا لسنا بحاجة إليه، وبالتالي على المسيحيّ أن تكون حياته كلّها صيام، بمعنى أنّها محاولات جادّة لجعل المسيح أكثر حضورًا في حياتنا. وهذا يتمّ بطرق متعدِّدة: الصّلاة، الصيام، الصدقة، الخ...
في البداية نقول أنّه إن أردنا تحقيق ذلك علينا قبل كلّ شيء اختبار غياب المسيح من حياتنا، غياب علاقتنا معه أو على الأقل ضعف هذه العلاقة، وبالمقابل وجود رغبة حقيقيّة في أن يكون أكثر حضورًا فيها، وهنا يأتي دور الصّلاة والتأمّل في الإنجيل. لهذا السبب تدعونا الكنيسة للإكثار من الصّلاة في هذه الفترة المقدّسة بالإضافة إلى ممارسة الصَّدقة. وفي الوقت عينه علينا أن لا ننسى بأنّ المسيح حاضر بيننا من خلال الآخر ونبني علاقتنا معه أيضًا من خلال الآخر، وهنا يأتي دور الصّوم والصّدقة.
إن قبلنا هذا المفهوم، فالصّوم يأخذ آنذاك معنيين على الأقل:
أوّلاً: عندما نصوم نشعر بالنقص المادّي، هذا النقص المادّي يدفعنا للإدراك بأنّه في أغلب الأحيان نسعى وراء الملء المادي معتقدين بأنّه مصدر خلاصنا وضمانتنا وسعادتنا، بينما الإيمان يذكّرنا بأن ما من أحد يملينا ويعطينا معنى لحياتنا إلاَّ المسيح وحضوره فيها. هذا هو البعد الرُّوحيّ للصّوم، هذه هي مكانة الصّلاة والتأمّل والحياة الروحيّة في هذه المرحلة المقدَّسة.
ثانياً: إن كنّا نعيش حضور المسيح في حياتنا من خلال الآخر، فهذا يعني أنّه من خلال الصَّوم أختبر أيضًا نقص حضور الآخر في حياتي، وبالتالي يتحوّل الصّوم إلى السّعي والقيام بكلِّ ما يلزم لجعل الآخر أكثر حضورًا في حياتي، وخاصَّة إلى بناء علاقاتي معه على أساس المحبّة والرَّغبة والمجانيّة وليس على أساس المصلحة الشخصيّة البحتة.
أخيراً إن كان الصّوم المقدّس يقودنا إلى الفصح، إلى القيامة، فهذا يعني أنَّ الصَّوم هو بمثابة مسيرة تحرّر وموت تتكلّل بالقيامة. تحرّر من، وموت عن كلّ ما يمنعني من أن أحقـِّق ما سبق وتكلّمنا عنه، كلّ ما يستعبدني ويسلب حرّيتي ويجعلني غريبًا عن ذاتي، عن حقيقتي؛ يمنعني من تحقيق ذاتي كإنسان حرّ وخلاّق، ابنًا لله على صورته كمثاله.
الأب رامي الياس اليسوعي.