التجلي بالألم

متفرقات

التجلي بالألم

 

 

 

 

 

التجلي بالألم

 

 

 

كيف يتجلّى الشّخص بالألم؟ فالألم للوهلة الأولى يشوّه ويُحزِن. إنّه قاسٍ ومرّ. ونعتقد أنّ الألم يطفئ النّور في حين أنّ التجلّي ظهور للنّور.

 

 

فلنتأمّل المشهد لندرك أنّ تجلّي يسوع هو في وسط الألم. إنّ تجلّيه محصور بين إعلانَين لما سيعانيه من الآلام. الإعلان الأوّل قاله يسوع بعد اعتراف بطرس الإيمانيّ: «يَجِبُ على ابنِ الإِنسانِ أَن يُعانِيَ آلامًا شَديدة، وأَن يَرذُلَه الشُّيوخُ وعُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَلَ ويقومَ في اليَومِ الثَّالِث» (لو 9: 22). ويعلن الأمر نفسه ثانيةً عند النزول من جبل طابور: «إِنَّ ابنَ الإِنسانِ سيُسلَمُ إِلى أَيدي النَّاس» (لو 9: 44).

 

بالإضافة إلى ذلك، كان موضوع حديث موسى وإيليّا معه هو «رَحيلِه الَّذي سَيتِمُّ في أُورَشَليم» (لو 9: 31). لو كنتُ حاضرًا لقلتُ لموسى وإيليّا: غيّروا الموضوع. إنّه ليس الوقت المناسب للتكلّم على الألم. إفرحوا ببهاء مجد التجلّي!

 

وأنا واثق من أنّ يسوع سيجيب: الطريق الوحيد إلى تجلٍّ يدوم هو طريق حبّة الحنطة الّتي تقع على الأرض وتموت لتأتي بثمر (يو 12: 23-24). وحين أرفَعُ عن الأرض أجذب جميع الناس (يو 12: 32). لأنّه لا قيامة بدون موت.

 

ويؤكّد الشّاهدان موسى وإيليّا هذه الحقيقة. فلكليهما وجه منير لا نتيجةً للصّلاة وحدها وحسب، بل لأنّ كليهما تألّم آلامًا شديدة.

 

فعلى الرّغم من كلّ الجهود الّتي بذلها موسى ليحرّر شعبه من العبوديّة، لم يجد سوى الاستياء والنبذ. فقد اعتبر شعبه أنّ الأكل والشرب أهمّ من الحرّيّة الّتي عليه أن يضحّي من أجلها «بأمان العبيد». وكلّما كان يصعد إلى الجبل ليتشفّع من أجل شعبه ناكر الجميل، كان الله يؤنّبه ويقول: أنت وشعبك رقابكم غليظة! وأنت لم تقدِّس اسمي كما يجب؛ وسأحرمكَ من فرحة إدخال الشّعب إلى أرض الميعاد.

 

كان موسى يتلقّى الضّربات من شعبه والعتاب من الله، وظلّ وفيّاً لله ولشعبه. وصعد إلى الجبل ليتشفّع لهم أمام الله ونزل من الجبل ليدافع عن حقوق الله. فكان بين المطرقة والسندان، ينال الضربات من الجهتين حتّى صار شفّافاً. يقول الكتاب المقدّس إنّ موسى كان أكثر مَن عرفته الأرض تواضعًا.

 

أمّا إيليّا، فإنّ رسالته لم تكن سهلة. لم يكن يصعد الجبل وينزل منه مثل موسى، بل كلّما فتح فمه ليُعلن كلمة الربّ يُرسَلُ إلى المنفى. وحين يعود بعد ثلاث سنواتٍ ونصف ويقول للملك آحاب: عليك أن تختار الآن، يهرب ثانيةً إلى البرّيّة ليفلت من غضب إيزابِل ( 2 مل 17-19).

 

الصّليب موجود في حياة كلّ واحدٍ منّا. إنّه واقع يمكننا أن نتّخذ تجاهه أحد الموقفَين: نرفض الصّليب أو نقبل بإيمان. إذا رفضناه لن يزول، بل سيزداد ثقلاً بسبب غضبي. وستشوّهني المرارة الّتي أحملها بقلبي. إذا تألّمتُ بشكلٍ رديءٍ أتشوّه. وإذا تألّمتُ وأنا أقبل مشيئة الله أتجلّى.

 

ففي حين أنّ ديانات أخرى تحاول تفادي الألم أو تحصّن الإنسان تجاهه، يقف الإنجيل منه موقفاً آخر. الألم والصّلب ليسا تبذيرًا وخسارة وشرًّا يجب تفاديه، بل يمكنهما أن يكونا ربحًا وفيرًا ووسيلة للتجلّي بدل الغيظ. كم رجل وامرأة صاروا حكماء ومتواضعين وأنقياء وحتّى قدّيسين ومتجلّين بسبب الألم وبوساطة الصّليب!

 

تقول سيمون ڤاي Simone Weil: «إنّ عظمة المسيحيّة ليست في أنّها تعطي مهدّئاً للألم بل في أنّها تعطي الألم معنى». ويقول الإنجيل ذلك بوضوح: لكي تكون تلميذ المسيح، عليك أن تحمل صليبك وتفقد حياتك. فالمسيح لم يصبح مخلّصنا ولم يقدنا إلى التجلّي والقيامة بنزوله عن الصّليب بل بقبوله الموت على الصّليب.

 

ملايين من الناس البسطاء عرفوا كيف يعطون حياتهم معنى ووجدوا قوّةً في قبول آلامهم بضمّ صليب يسوع إلى صدورهم. فرسالة «الصّليب والمجد» هي رسالة تجلّي. وما من وسيلةٍ ألمع من مجد الصّليب لنكون شفّافين ومشعّين.

 

يقول جبران خليل جبران بلغته الشعريّة: «الألم يحفر في كياننا ليكون فيه مكانًا للفرح». ومن بين الأعداد الكبيرة للأقوال عن الألم أذكر هذا القول: «هناك أشياء لا نستطيع أن نراها إلاّ بعيونٍ قد بكت».

 

 

 

 

الأب هانس بوتمان اليسوعيّ