نتناول مستوى البرية الأول ، ألا وهو العلاقة الروحية ، العلاقة بالله في سبيل لقائه في البرية كما كـــان يسوع نفسه يذهــب إلى الجبل ليُصلِّي ، وكذلك مواجهة الشرير كما دفع الروح يسوع إلى البرية ليجرِّبـــه الشيطان .
فعندما ذهب أنطونيوس إلى البرية ، قصد لقاء الله من جهة، ومواجهة الشرّير من جهة أخرى، كما سنراه بطريقـة وافية . فيصبح هكذا أنطونيوس في البرية نموذجًا ومثلاً لجميع المؤمنين رهبانًا كانـوا أو علمانيَين الـــذين يتحدون بالله من خلال الصلاة، ويقاومون تجارب الشرير، بل ويُحاربونه في حياتهم وفي حياة البشر .
فلنتناول بالتالي هذين الجانبيـن من العلاقة الروحيّة في حياة البريّة .
1 – لقاء الله في البرية
نختار بعض الشخصيات البارزة من الكتاب المقدس – في عهديه القديم والجديد – لنستشفّ علاقتها بالله في البرّيّة، وذلك في ضوء حياة أنطونيوس. كما أننا نُطبِّق ذلك على علاقـة المؤمنين عامة والرهبان خاصة بالله، سواء في البرّيـّـــة أو في قلب المجتمع.
موسى (خر 1/3-15)
يروي لنا الفصل الثالث من سفر الخروج ترائي الله لموسى في عُلّيقة مُشتعلة، فأوّل لقاء بين الله وموس قد تمّ في البرّيّة والجبل (الاية 1). وفي أثناء هذا اللقاء كشف الله ذاته لموسى :"أنا إله أبيك إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" (4- 6)؛ كما أنه أعلن له اسمه: "أنا هو من هو" (13 – 14).
وفي هذا اللقاء كشف الله لموسى اهتمامه بشعبه أيضا: "إنّي رأيت مذلة شعبي الذي بمصر، وسمعــت صراخه بسبـــب مُسخِّريه، وعلمتُ بآلامه، فنزلت لأنقذه... وأصعده..." (7-9). وفي سبيــل ذلك، أرسل الله موسى: "الآن، اذهب، أرسلك إلى فرعون. أخْرِجْ بني إسرائيل من مصر... كذا تقول لبني إسرائيـل: الربُّ إله آبائكم... أرسلني إليكم" (10 و15).
فخُلاصة قصّة دعوة الله لموسى أنّ موسى قد اختبر الرَّبّ ورسالته التي من الربّ، وذلك في البرّيّة، فالبرّيّة، موضع لقاء الله لقاءً شخصيًّا يُتوَّج بالإرسال إلى الآخرين، هناك إذاً عنصران أساسيّان نجدهما في الحياة الرّهبانيّة وفي الحياة العلمانيّة أيضًا: العلاقة الشخصيّة بالله الإرسال إلى البشر، وكلاهما مُرتبطان بالبرّيّة.
وأمّا أنطونيوس، فمن خلال صلاته ونُسكه، كان يحيا "الإيمان بالمسيح"، حتى إنّ الذين عرفـوه سمّوه "حبيب الله" . وقد أرشد النسّاك الجدد في ضوء خبرته الروحيّة الشخصيّة، موصيًا إيّاهــم.
"ينبغي ألا نضع في العالم شيئا أرفع من محبّتنا للمسيح" . وكان يحثُّ زوّاره على "الإيمـان بالله وعلى محبّتهم له". وفي خُطبة وداعه، إذ أوصى إخوته الرّهبان بالعديد من التوصيات، ختم حديثه بقوله: "حافظوا... قبل كلّ شيء على الإيمان القويم بيسوع المسيح" ؛ وكذلك أوصى الناسكَيْن اللذَيـن خدماه في شيخوخته مدّة خمسة عشر عامًا، قائلاً لهما: "اتّحدا أوّلاً بالمسيح". فإنّ العلاقة بالله، ولا سيـَّـمـــــا بشخص يسوع المسيح، أساسُ الحياة الرّهبانيّة والعلمانيّة وهدفها المُطلــق ومصدر جميع الأعمال التقويّة والنسكيــّـة والخِدَميّة .
وإنّ رسالة أنطونيوس قد تمثّلت باستقبال زُوّاره رغم رغبته الشّديدة في التوحُّد، وبشفاء بعضهم وتحريرهم من قوى الشرّير، وبإرشاد غيرهـم وبالمجادلات مع الهراطقة.
ومع الفلاسفة، وبتعليم تلامذته، حتّى إنّه قطع مرّة خلوته مع الربّ "لأنّ زيارة الإخوة كانت ضروريّة" ، ومرّة أخرى، عند نُشــوب الاضطهادات، ترك الدير قائلا: "لنذهب نحن أيضا كي نجاهد إذا ما دعانا الربُّ أو حتّى نرى المجاهدين"؛ ومرّة أخرى أيضًا عند احتداد البدعة الأريوسيّة: "نزل من الجبل على حسب طلب الأساقفة وجمـيـع الإخوة. وحينما دخل الإسكندريّة... كان يُعلِّم الشعب...". هكذا، فإنّ علاقتـه بالله قد انقلبت إلى إثمار رسالتـه في داخل الكنيسة وفي خارجها، على مثال موسى.
الشّعب العبرانيّ
لقد اختبر الشّعب العبرانيّ الله اختبارًا فريدًا من نوعه في البرّيَّة، حتّى إنّ هذا الاختبار ظلّ في ذاكرته خالدًا توارثته الأجيال.
فكيف تمّ هذا الاختبار؟ من العجيب أنّه تمّ من خلال امتحان الله لشعبه – ولا سيّما من خلال المشرب والمأكل – ومن خلال تعليم الله لشعبه وقطع عهد معه. هذا ما نراه بالتتالي:
تذمَّر الشّعب في البرّيَّة على الله لأنّه لم يجد مياهًا يشربها، ولمّا وجد المياه كانت "مارّة" أي مُرّة.
ومغزى هذا الحادث أن "هناك امتحنهم الربّ"، حتّى يعرف هل هم سيثقون بـه وبعنايته وهذا ما لم يفعلوه.
وإنّ مغزى هذا الإمتحان في الحياة في الرّهبانيّة والعلمانيّة مُتعدِّد المعاني.
فمن جهّة أولى، يتعلّق الإمتحان بضروريّات الحياة التي يرمز إليها الماء. فإن كان الماء لا غنى عنــه للحياة، إلّا أنّ رمز هذا الامتحان هو معرفة هل المؤمن هو على استعداد للتخلّي عمّا يعتقد أنـّه ضروريٌّ لحياته ولا غنى عنه على الإطلاق. ويتمّ هذا الامتحان بوجهٍ خاصّ في البداية – بدايــة حياة الإبتداء، أو بداية حياة الإهتداء – حيث روح الحياة الماضية لا تزال حيّة، فلا يتصـوّر المؤمن نفسه يستغني عن بعض الضروريّات المُلحّة في الحياة.
ومن جهّة ثانية، يدلّ الامتحان على الثقة بالله، فهل الرّاهب أو العلمانيّ يؤمن بأنّ الله هو الذي يهتمّ بسدِّ حاجاته ويشبعها، فيثق به ثقة الابن؟
ومن جهّة ثالثة، فإن تحويل المياه المرّة إلى مياه عذبة يرمز إلى تحويل الربّ حياة المؤمن وقلبه، فقد قال الله لشعبه ليُفهمه معنى ما حدث: "أنا الربّ مُعافيك"، فالربّ يُعيد الصحـّـة والعافية الروحيّة، بعد أن اختبر المؤمن ضعفه واكتشف حقيقته. وإنّ نِعم الله سبّاقة عليه؛ فمثلما وصل العبرانيّون إلى أيليم فوجدوا "اثنتي عشرة عين ماء وسبعين نخلة"، هكذا فإنّ الله يهب نِعَمه الفيّاضة بلا حساب ولا مقابل وفوق كلّ توقُّع بشريّ.
ونرى أنطونيوس قد عاش تجرُّدًا تامًا وتخليًّا كاملًا. فإنّه قد "صمّم على عدم العودة إلى الإهتمام بالأمور العائليّة، وعلى عدم تذكُّر أقربائه، فثبّت كلَّ رغبته وغيرته على قوَّة النسـك".
وقد وضع ثقته الكاملة في الربّ الذي حوَّل حياته إلى حياة جديدة "كان يضع رجاءه – كما كُتب – في الربّ". وجدير بالإشارة إلى أنّ ذلك كلّه قد تمّ في البرّيَّة وفي صمتها.
امتحان المنّ والسّلوى (خر16 / 1 ت)
وتذمّر الشّعب ثانية، حين تذكّر طعام أرض العبوديّة، لمّا جاع في البرّيَّة. وأمّا الله، فأطعمه منـًّا وسلوى وقال لموسى: "لكي أمتحنهم: أيسلكون على شريعتي أم لا". ويتمثَّل امتحان الله بأنّ الشّعب أخذ يلتقط المنّ كلَّ يوم في يومه – ما عدا اليوم السادس حيث كان يلتقط فيه حصّة السبت أيضًا – حتّى يثق بالله وبعنايته اليوميّة، "فتعلمون أنّي أنا الربّ إلهكم"، وهذا ما فعله الشّعب. وأمّا السّلوى، فلقد منّها الله على شعبه مرّة واحدة، لا كلّ يوم.
إنّ مغزى هذا الامتحان في الحياة الرّهبانيّة والعلمانيّة متعدِّد المعاني:
فمن جهّة، يعيش الرّاهب المبتدىء أو العلمانيّ المهتدي امتحان الحنين إلى الماضي: "كنا نجلس عند قدر اللّحم ونأكل من الطعام شِبعَنا". وقد امتُحن أنطونيوس في هذا المضمار، فيروي لنا أثناسيوس – بأسلوب عصره – هذا الامتحان:
"في البدء حاول (الشيطان) أن يهدم حياة أنطونيوس النسكيّة، مُذكِّرًا إيّاه بممتلكاته وبالعناية بأُخته وبمودّة أقربائه وبمحبّة المال وبالمجد الباطل وبالأطعمة وبِمُتع أُخرى من الحياة...".
وأمّا الرّوح، فقد وجّه فكر أنطونيوس نحو المسيح لا نحو الماضي:
"وأمّا هو فكان يُفكِّر في المسيح، وفي نُبله المسيحيّ، وفي روحانيّة النفس".
وكذلك، فإنّ الله يوجِّه ذاكرة المؤمن – راهبًا مبتدئًا كان أو علمانيّا مُهتديًا – لا إلى حياته الماضية، بل إلى عمل الله في حياته الماضية، مِثلما كان يُذكِّر شعبَه بأعماله التي خلّصتهـم، وإنّ الشّواهد الكتابيّة كثيرة حيث ذِكرُ لفظ "اذكُرْ"، أي اذكر أعمال الله الماضية، ولا تذكـر حياة الشعب الماضية.
وقد قال أوغسطينس في هذا الصدّد إنّ الذاكرة البشريّة قد وهبها الله للإنسان لكي يشكر ربّه على كلِّ ما صنعه إليه. ويقول أثناسيوس في خِضَمِّ امتحان أنطونيوس: "أمّا أنطونيوس فشكر الرّبّ".
ومن جهّة أخرى، من معاني امتحان الله لشعبه، ثقة الشعب بالربّ في أنّه يهتمُّ به. وقد علّم يسوع نفسه تلاميذه هذه الثقة حين أورد في الصّلاة الربيّة ذِكرَ الخبز اليوميّ: "ارزقنا اليوم خبـز يومنا" (متى 6 /11)، وقد أضاف: "لا يهمُّكم أمور الغد، فالغد يهتمُّ بنفسه" (متى 6 /34).
وأمّا السّلوى التي لا تُعطى يوميًّا، فهي ترمز إلى عطايا الله المجّانيّة التي لا يحقّ للمؤمن أن ينالها بل يمنّ الله عليه عندما يريد وكيفما يريد، في لحظات غير اعتياديّة. ومن المعروف في الحياة المسيحيّة أنّ إنعامات الله الخاصّة نادرة، فحسْبُ المسيحيُّ أن يختبرها مرّة واحدة ليستنير بها طول حياته. تقصُّ علينا تريزا الآفيليّة كيف أنّ الله أنعم عليها بأن تختبر جهنّم في لحظة خاطفة من حياتها وكيف أثّر فيها هذا الاختبار مدى حياتها، حتّى كانت تُعرِض عن الخطايا العرضيّة.
أمّا المنّ فيرمز إلى ديمومة نِعَم الله، وأمّا السلوى فعلى مجّانيّتها؛ وكلتاهما تُعبِّران عن طريقة الله في معاملة البشر.
خاصم الشّعب موسى مرّة أخرى لأنّه لم يجد ماء؛ غير أنّ موسى تيقّن أنّ الشّعب يُجرِّب هكـذا الربّ ولمّا أروى الله شعبه – عن طريق "عصا" موسى – سمّى موسى المكان "ماسَّة ومَريبة" أي "تجربة ومُخاصمة" الشّعب لله، في الوقت الذي اعتنى الله بشعبه واهتمّ به، وهو "قائم أمام "موسى – ممثِّل الشّعب – على الصّخرة" الثابتة عندما ضربها بعصاه؛ والصّخرة ترمز إلى ثبات اهتمام الله وإلى أمانة عنايته بشعبه.
وقد حدث لجماعة من الرّهبان، كان يرافقهم أنطونيوس، أن "فرغ الماء في الطريق" ولمّا "استولى عليهم اليأس"، "أحسّ الشيخ (أنطونيوس) أنّ الخطر أحدق بهم، فتنهّد بحزن وابتعد عن المكان ورفع يديه وجثى على ركبتيه وصلّى". وحدث للوقت أنّ "الربّ أخرج ماء حيـث وقف أنطونيوس للصّلاة" (عدد 54)؛ فكان تدخُّل الله في واقع حياتهم مِثل تدخُّله في حياة الشعـب العبرانيّ، إلا أنّ الوسيط كان أنطونيوس عوضًا عن موسى.
والمؤمن أيضًا، في وقت الضيق والأزمات، قد يُجرِّب الله ويُخاصمه – مثل الشّعب العبرانيّ – طالبًا إليه علامات حسّيَّة ومادّيَّة إرضاءً لحاجاته؛ وهو يختبر اهتمام الله به بنِعَمه، لأنّ الله يعتني به. وإنّه مدعوٌّ إلى أن يتشفّع من أجل الآخرين – على مِثال موسى وأنطونيوس – حتّى يُفجِّر اللهُ فيهــــم ينابيع نِعَمه الفيّاضة، فلا يحيا لأجل نفسه ولتلبية حاجاته – وإن كانت روحيّة – بل يتشفّع من أجـل العالم والكنيسة والآخرين.
تعليم اللهِ شعبَه، وعهده معه (خر19)
في البّريَّة، علّم الله شعبه من خلال موسى. فلم يهتمّ الله بأكله وشربه فحسب، بل بتعليمه أيضًـا، لأنّه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلِّ ما يخرج من فم الربّ يحيا الإنسان" (تث 8-3).
والمعروف في اللُّغة العبريَّة أنّ لفظ "مِدْبَر" – أي برّيَّة – ولفظ "دَقارْ" - أي كلمة – من أصل واحد. فالبرّيَّة والكلمة مرتبطتان ارتباطًا أصليًّا أصيلاً، والله قد غذّى شعبه بكلمته لا بالمنِّ فقط.
فكان موسى يُعلّم الشعب في البرّيَّة بشأن تاريخهم المقدَّس، ولا سيّما حين اختاره الله شعبًا وقطع معه عهدًا – عن طريق الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب – ومنحه وصاياه العشر (خر20 /1-17).
وبالتالي اختبر الشّعب أنّه شعب الله، وأنّ الله إلهه، وقد منحه وصاياه:
"الآن، إن سمعتم سماعًا لصوتي وحفظتم عهدي، فإنّكم تكونون لي خاصّة من بين جميع الشّـعوب
لأنّ الأرض كلّها لي. وأنتم تكونون لي مملكة من الكهنة وأمّة مقدّسة" (خر 19 /5 - 6).
ثمّ تجلّى الله لشعبه وقد أخرج موسى الشّعب "لملاقاة الله"، فاختبروا هكذا أنّهم شعب الله وأنّ الله إلههم.
ولكنّهم في الوقت نفسه طلبوا من موسى: "كلّمنا أنت فنسمع، ولا يُكلِّمنا الله لئلا نموت". فأتى جواب موسى: "لا تخافوا، فإن الله إنّما جاء ليمتحنكم ولتكون مخافته أمام وجوهكم لئلا تخطأوا" (خر 20/ 19-20). فإلى جانب مُلاقاة الله، "امتحن" الله شعبه الخاصّ بسماعهم كلمته وبحفظهـم وصاياه.
ويُظهر لنا سِفر تثنية الاشتراع كيف أنّ إسرائيل استبطن كلمة الله "اسمع، يا إسرائيل" (6/ 4).
فكلمة الله هي موجّهة إلى إسرائيل لكي يسمعها ويُحقِّقها :"أحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك وكلِّ نفسك وكلِّ قوّتك. لتكن هذه الكلمات التي أنا آمرك بها اليوم في قلبك" (6/ 4-6).
فلم تعُد كلمة الله مكتوبة على ألواح حجريّة، بل أصبحت محفورة في القـلوب. وإنّ نبرة العلاقة بين الله وشعبه تُفيد بأنّها أصبحت شخصيّة، فالله هو "الربُّ إلهك" (6/ 10و13). وعلى الشعب ألّا ينسى أعمال الله الخلاصيّة، ولا سيّما إخراجه إيّاه من أرض العبوديّة وإصعاده إيّاه إلى أرض الميعاد (6/ 12)؛ فعليه أن يتذكّر أعمال الله هذه، وأن يتوارث الإحتفال بها جيلاً بعد جيل في عيد "الذِّكّارون"، أي ذكرى الخروج والخلاص من العبوديّة.
في البرّيَّة، استبطن الشّعب كلام الربّ بالسّماع والذِّكرى. وكذلك فعل أنطونيوس حين كان يتأمّل في الكتاب المقدّس: "كان يُصغي إلى تلاوة الكتاب المقدَّس، حتّى لا يسقط شيء ممّا يقرأه على الأرض، فيحفظه ليكون في ذاكرته بدل الكتاب المقدَّس" وعلى مِثاله، أصبحـت الأديرة في البرّيَّة "تُحبُّ كلمة الربّ". ومِمّا يلفت النظر أن تعليمه كلّه مُشبَّع بالمزامير والأناجيل والرسائل... وهذا ما يدلّ على أنّه قد تأملها واستبطنها وأدمجها في حياته حتى استطاع أن يستشهد بها فيُعزّي ويُقوّي زوّاره وتلاميذه.
وأمّا المؤمن، فهو أيضًا أمام كلمة الله، يقرأها ويتأمّلها لكي تُصبح كلمتَه الشخصيّة لا كلمة خارجة غريبة عنه. فالرّوح القدس نفسه هو الذي يجعله يسمعها ويستبطنها ويتذكّر أعمال الله، فيلتقي الله من خلال أقواله وأفعاله الخلاصيّة، تلك الأقوال الواردة في كلمته المقدّسة، وأفعاله المدوَّنة في تاريخ البشر بعامّة والنفوس بخاصّة.
الخُلاصة
اختبر الشّعب العبرانيّ الربَّ إلهه في البرّيَّة اختباراً حقيقيًا، فقد حرّره الله من أرض العبوديّـة وأدخله أرض الميعاد، وأطعمه وأرواه، ومنحه كلمته في الوصايا، وقطع معه عهده، وامتحنه. لذلك، فهو يعتبر البرّيَّة موضع التقاء الله إيّاه وخلاصه له، موضع عنايته به وعطاياه له؛ ممّا يدعوه إلى الثقة الكاملة به، لأنّ الله اختاره شعبا ً له. فما أبعد هذه النظرة العميقة إلى البرّيَّة من النظـرة السطحيّة التي تجهلها أو تتجاهلها. وإن المؤمن مدعوٌّ إلى أن ينظر إلى البرّيَّة النظرة العميقــة عينهـا.
يوحنّا المعمدان
لقد اعتمد يوحنّا المعمدان في استشهاده بكلام أشعيا: "هاءنذا أرسل رسولي قُدامك ليُعدّ طريقـك.
صوت صارخ: في البرّيَّة أعِدّوا طريق الربّ واجعلوا سُبله قويمة" (مر 1/ 2-3).
إنّ البرّيَّة هي موضع الإعداد للربّ. فكان رهبان قُمران الأسينيّون – وقد يكون يوحنّا أحدهم – في انتظـار مجيء المسيّا المُنتظر – "مُعلم البرِّ" – كما كانوا يُسمُّونه – وانسكاب الرّوح؛ وهذان الحدثان كانوا يعتبرونهما – مع سائر الشّعب – "العهد الجديد".
ففي هذه الأجواء من انتظار تحقيق وُعود الله الثلاثة – العهد الجديد بالمسيّا والرّوح – ظهر يوحنّا وأخذ "ينادي بمعموديّة توبة لمغفرة الخطايا" (مر 1/ 4)، فكان يُحثُّ الشعب – الذي كان ينتظر تحقيق وعد الله - على تغيير حياتهم ومُعاملاتهم (لو 3/ 7-15).
وكان هؤلاء الرّهبان يُكرِّسون حياتهم في سبيل ذلك. فالبرّيَّة، أو بالأحرى الجبال حيث كانوا يعيشون في داخل مغاراتها، هي علامة هذا التكريس لله. ولذلك صوّر لوقا زكريّا أبا يوحنّا وهو في الهيكل، في "مقدس الرّب"، عند "مذبح البخور"، علامةَ تكريس هذا الطفل الذي عاش في البراري. ولذلك أيضًا "ارتكض الجنين ابتهاجًا" وقد "امتلأ من الرّوح القدس في بطن أمِّه" عندما زارتها مريم العذراء وهي حامل يسوع في أحشائها (لو 1/ 5 ت، 39-44).
ويتحقّق هذا التكريس في البرّيِّة بالنسك والتقشـُّف؛ لذلك فلن "يشرب (يوحنّا) خمرًا ولا مُسكرًا" كما تنبّأ به الملاك (لو 1/ 15). وكان بالفعل في البرّيـَّة "يلبس وبر الإبل وزُنّارًا من جلد حول وسطه، وكان يأكل الجراد والعسل البرِّيّ" (مر 1/ 6).
إنّ هذه الأمور – من الإعداد لتحقيق وعد الله، بالتكريس له، والاهتداء إليه والقيام بأعمال التوبة والنسك هي من سمات حياة أنطونيوس النسكيّة والتقشُّفيّة ومن بعده سائر الرّهبان في البرّيَّة أو في المجتمعات البشريّة، فيُذكِّروا جميع المسيحيّين بأهمِّيَّة هذه العناصر في حياتهم المسيحيّة.
يسوع
إنّ يسوع، من بداية حياته العلنيّة – بحسب رواية مرقس – قد اختلى في البرّيَّة:
"قام قبل الفجر مُبكِّرًا، فخرج إلى مكان قفر وأخذ يصلّي هناك" (1/ 35).
فأصبحت البرّيَّة – في التقليد الرهبانيّ – ترمز إلى موضع الصّلاة إلى الله؛ فلذلك خرج أنطونيوس إلى البرّيَّة والجبال، حيث الصّمت الكامل، ليتّحد بالله.
وكما أنّ يسوع قد صلّى قبل الفجر في وقت الصّمت الكامل، هكذا أمضى أنطونيوس لياليه في الصّلاة، ومن بعده فإنّ الرّهبان يستيقظون ليلاً للصّلاة، ويُصلُّون في أوقات مُعيّنة من اليوم ومن السّنة... فيُذكِّروا هكذا سائر المسيحيّين بضرورة تخصيص أوقات للصّلاة.
فهناك إذا رمزيّة المكان والزمان في الصّلاة وهي تحظى بمكانة خاصّة في روحانيّة البرّيَّة: في البرّيَّة وفي الفجر مُبكِّرًا، سواء أكان ذلك عند رهبانيّات البرّيَّة، أم الرهبانيّات التي تعيش في المجتمعات البشريّة، أم عند العلمانيّين. فإنّه يُمكن الصّلاة في مكان آخر وفي زمن آخر.
وفي البرّيَّة نمت "الصلاة المستديمة" – وقد دعا أنطونيوس النسّاك إليها تتميمًا لوصيّة يسـوع "في وجوب المداومة على الصّلاة من غير ملل" (لو 18/ 1) – تتويجًا لصلاة الفجر في البرّيَّة، فأصبحت صلاة الرّهبان في كلِّ وقت وفي كلِّ مكان. وقد تغنّى بها جميع الأجيال الرّهبانيّة، ولا سيّما الشرقيّة منها – فقد قال الأبّا يوساب إلى الأبّا لوط:
"أنت لا تستطيع أن تكون راهباً إن لم تُصبح مِثل النّار التي تحترق".
وإذ أصبحت أصابعه العشرة مثل أنوار من النّار، أضاف قائلاً له: "إذا أردت، استطعت أن تُصبح كُلُّك شُعلة".
فإنّ "صلاة النّار" هذه هي صلاة الرّوح القدس في المؤمن، فهو "يتنفّس الرّوح" (غريغوريوس السينائيّ)، ذلك لأنّ الرّوح القدس نفسه هو "نَفَس" الآب عندما يتلفّظ بابنه "الكلمة" (يوحنّا الدمشقيّ). وقد وصف أحد تلاميذ سيرافيم الساروقيّ الروسيّ المُعاصر مُعلّمَه وهو خارج من الصّلاة ووجهه مُشرق بنور الرّوح القدس، كما نزل موسى من الجبل بعد أن قابل الله.
ونُورد باقة من الأقوال الرّهبانيّة في الصلاة المُستديمة هذه:
ومن التعابير الحديثة للصّلاة المُستديمة تعبيرُ القدِّيس إغناطيوس دي لويولا مؤسِّس الرهبانيّة اليسوعيّة ومُنشئ روحانيّة علمانيّة في القرن السّادس عشر: "الله في كلِّ شيء وكلُّ شيء في الله". فالمؤمن مدعوٌّ إلى أن يبحث عن الله ويجده، وأن يُحبّه ويخدمه وفي جميع علاقاته البشريّة، وفي جميــع ظروف حياته وأحداثها، وفي جميع أفعاله وأقواله وأفكاره...، ولا في صلاته فقط؛ هذا وتـذكر صلاة الليل في الطقس الغربيّ دُعاءً إلى الله أن يعتبر تعالى النومَ امتداداً للصّلاة. كما أنّه مدعوٌّ إلى أن يُرجِع ذلك كلّه، بل والخليقةَ كلّها إلى الله من خلال حياته كلِّها ولا من خلال صلاته فقط. وإنّ يسوع قد عاش ذلك طيلة حياته الأرضيّة في كلِّ كبيرة وصغيرة منها.
الخاتمة
إنّ البرّيَّة موضع اللقاء بالله حقـًا، قبل أن تُمثِّل معنى آخر. ففيها يظهر الله للإنسان ويكشف له ذاته الإلهيّة، وفيها يهتمّ ويعتني به، وفيها يمتحن إيمانَه، وفيها يستغويه ويُخاطب قلبه، وفيها يُحوِّل حياته فيُخلّصه، وفيها يدعوه إلى الاهتداء والتكريس والإعداد لمجيئه، وفيها يجعله يُداوم على الصّلاة. ففي البرّيَّة غنى عجيب، لا للرّهبان فحسب، بل لجميع تلاميذ يسوع المسيح.
كانت البرّيَّة مكان هُروب من البشر: فقد هرب موسى إلى البرّيَّة بعد أن قتل "رجلاً مصريًّا كان يضرب عبرانيّا ً من إخوته" (خر 2/ 11-15) ؛ وهرب إيليّا من إيزابل إلى البرّيَّة (1 مل 19 /1 ت)؛ وهرب داود من شاول إلى البرّيـَّة (1 صم 22 /1 و5، 23/ 15 و24 ت،24 /1ت)....
وكذلك في عصر الإضطهادات، فقد هرب المسيحيّون إلى البراري ... ولكن، عندما ذهب أنطونيوس إلى البرّيَّة، لم يَعُد معناها الهروب من البشر، بل الذهاب للقاء الله؛ وفضلاً عن ذلك، ذهب إلى البرّيَّة لمُواجهة الشيطان، كما نراه الآن.
"معنى البرِّيَّة لزماننا الحاضر"
الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ