الإيمان هو التزام وصراع روحيّ

متفرقات

الإيمان هو التزام وصراع روحيّ

 

 

 

الإيمان هو التزام وصراع روحيّ

 

 

 

"قامَ الرَّجُلُ وحمَلَ فِراشَهُ في الحالِ وخرَجَ بِمَشْهدٍ مِنَ الحاضِرينَ. فتَعجَّبوا كُلُّهُم ومَجَّدوا اللهَ وقالوا: "ما رأينا مِثلَ هذا في حَياتِنا!"(مر 2 /1-12).

 

غريب أمر هذا الكسيح، لم يفعل شيئاً، لم يطلب شفاءه، لم يُعلن إيمانه، لم يشكر الرّب على عطيّته، جلّ ما فعله هو تنفيذ أمر يسوع له، أن يحمل سريره ويذهب الى بيته.  فالمقصود لم يكن إيمان الكسيح فحسب، بل الجماعة الحاضرة يومها، إنّما خاصّة الجماعة المؤمنة التي تقرأ النصّ وتتأمّل به.

 

 نقطة انطلاق النّص كانت جماعيّة، كنسيّة، ابتدأت في "البيت"، إشارة واضحة الى الكنيسة الأولى، وانتهت بإرسال الرّجل الى بيته، أي أن الإيمان والشّفاء الّذين نالهما هذا الكسيح لا يمكن أن يدفنا في بيت بطرس، أو ينتهيا لحظة مغادرة الجماعة، بل هي رسالة يحملها المؤمن المشفيّ، الّذي غفر له الله خطاياه، بأن ينقل ما ناله الى خاصّته، أن يكون رسول الشفاء والمغفرة.

 

والنّص قد ابتدأ أيضاً بالجماعة التي حملت الكسيح الى يسوع، إنّما انتهى بطريقة معاكسة تماماً: لقد حمل الكسيج الإيمان الى الجماعة "فدُهشوا وتعجّبوا ومجّدوا الله".  لقد كان الكسيح بطلاً صامتاً، لم يتكلّم سوى بحمله إرادة الرّب: شفاه الرّب فشكره بوقوفه أمام الجماعة حاملاً هو السرير بعد أن حمله السرير سنيناً طوال.

 

 كما النازفة والأبرص، يقف أيضاً الكسيح أمام الجماعة ويعلن ما تمّ في حياته، فالشفاء لا يمكن أن يكون فرديّاً، ولا المغفرة أيضاً، بل هما نعمة ننالها لنغيّر من خلالها حياة الآخرين، ودون هذا العمل يكون ما فعله المسيح في حياتنا عقيماً.

 

مغفرة الله هي مصدر كلّ شفاء:  إنّ جسد الرجل الكسيح، غير القادر على الحركة، على أخذ المبادرة، على التحكّم بقراراته أو بمكان وجوده، هو الرجل الّذي انغلق وجوده بأسره على سرير لا يغادره، وعلى صدقة يطلبها، متعلّق كليّاً بحسنة الآخرين يرفعونه وينقلونه، كلّ هذا هو صورة ملموسة عن عمل الخطيئة في حياتنا: فالخطيئة التي غفرها يسوع لها النتيجة ذاتها، تتحكّم بنا، تمنعنا من الوصول الى الجمال الحقّ، والخير والأسمى والسّعادة الأعمق.  

 

الخطيئة تجعلنا كسحاء غير قادرين على النموّ بالرّوح، بل تجعلنا مأسورين دومًا بحالتنا البعيدة عن الله، تعمي ضميرنا فلا نأخذ مبادرة العودة الى الله، نرتبط بواقع الخطيئة ولا نعود نقوى على الخروج منه.

 

 مثل هذا الكسيح، تغرقنا الخطيئة في ظلمة تحيط بنا، تنقطع كلّ علاقة وكلّ حوار مع الله، نلغيه من وجودنا رفضاً أو خجلاً أو يأساً.  

 

هي سواعد الأصدقاء حملت الكسيح نحو يسوع، وهي صلاة الكنيسة تحملنا نحو سماع كلمة الغفران الإلهيّة.

 

 الكسيح المتألّم سمع يسوع يناديه "يا بنيّ"، وبمغفرة الله نسمع الكلمة ذاتها نحن أيضاً.  الله الّذي رفضناه وأغلقنا باب قلوبنا أمامه، هو نفسه ينادينا "يا بنيّ"، فالله لا ينسى محبّته ولا يتراجع في خلاصه، هو المنتظر دوماً.

 

كما حمل الأصدقاءُ الأربعةُ الكسيح نحو السيّد، تحملنا الكنيسة نحن أيضاً نحو الشفاء. هذه السواعد التي ترفعنا هي صلوات القديّسين، إخوتنا الّذين سبقونا الى دار الآب ولا يزالون مصليّن لنا. هي القدّيسة الأعظم بين القديّسين، مريم أمّ يسوع، تضرع عنّا وتحملنا.

 

 

هؤلاء الأصدقاء هم أسرار الكنيسة، أدوات الخلاص الملموسة، بواسطتها يوصل الرّب نعمته لكلّ واحد منّا.  

 

هي المعموديّة التي تدخلنا في حياة المسيح وتجعلنا أبناء لله، هي سرّ التثبيت الّذي يسمنا بالرّوح القدس ويجعلنا جنود للمسيح نعلن الإنجيل بقوّة الإيمان وثبات الرّجاء وقدرة المحبّة، هي الإفخارستيّا التي توحّدنا بيسوع المسيح وبعضنا ببعض وتقودنا الى القداسة، نتحوّل الى صورة من نتناوله.  

 

هو سرّ التوبة يرفعنا عن سرير إعاقتنا الرّوحيّة ويهبنا أن نسمع كلمة المغفرة التي تحتاجها جراح نفسنا لتشفى، نسمعها من فمّ المسيح بواسطة رسوله.  

 

هو الكهنوت الّذي يقدّس عالمنا ووجودنا ويرفع تفاهة يوميّاتنا الى عظمة الألوهة.

 

 هو سرّ الزّواج الّذي من خلاله يقود الزوج زوجته والزوجة زوجها نحو المسيح، يتساعدان لتخطّي قساوة الخطيئة ويسيرا على دروب القداسة ليحملا من ثمّ المجتمع بأسره أمام المسيح ليسمع المغفرة ويتحوّل تدريجيًّا.  سرّ المشحة هو أيضًا صديق يحملنا الى الشّفاء والى نيل المغفرة، هو علامة مشاركة الكنيسة كلّها ألم المريض والصّلاة من أجله والعمل على شفائه.

 

صديقة لنا هي الصّلاة أيضًا، صلاتنا اليوميّة التي تعبّر عن محبّتنا ليسوع، وعلى اهتمامنا لوجوده في حياتنا، هي إعلان دائم أنّنا بحاجة إليه، وأن صداقته ومحبّته أساسيّان بالنسبة لنا، فوجودنا يكون تافهًا وفارغًا إن غاب يسوع عن حياتنا.

 

عائلتنا، أصدقاؤنا، رفاق عملنا، هم كلّهم أصدقاء يمكنهم أن يحملوني إلى المسيح إن سمحت لهم بذلك، إن كان لديّ ما يكفي من التواضع لأسمح لهم بمساعدتي، بحمل سريري والسير نحو يسوع، ليضعوني أمامه فأنال الشفاء.

 

الإيمان هو التزام وصراع روحيّ:  لو عاد الأصدقاء أدراجهم أمام العائق الأوّل لما نال صديقهم الشفاء. لم يخشوا الجمع بل تحدّوه، تسلّقوا البيت وثقبوا السقف ودلّوا السرير أمام يسوع. هذا هو حالنا في حياتنا اليوميّة، عقبات تعترضنا، أسئلة لا نجد لها جوابًا، تعترض على قسوة الحياة تضرب بريئاً فيثور على الله ويتزعزع إيماننا، نمرض أو نفقد عزيزاً فنلقي بالّلائمة على الله، نمرّ بحالات ضيق أو خطر فيُغضبنا عدم تلبية الرّب لرغباتنا وحاجاتنا. هي كلّها عقبات أمام إيماننا كما كانت الجموع عقبة أمام الأصدقاء المؤمنين. هي عقبات نحن مدعوّون لتخطّيها، عالمين أن الله حاضر، وهو ينتظر، ويغفر ويشفي.

 

عقبة أخرى أمام إيماننا هي جموع أيّامنا المعاصرة، كما كانت الجموع مشكلة أمام الأصدقاء والمريض. جموع اليوم يقفون حاجزًا بين عالمنا وبين المسيح، عالم اليوم يمنع الإنسان من الوصول إلى المسيح، بعقليّة المادّية واللّذة والإستهلاك، بمنطق التفتيش عن الأسهل.

 

 ما يهم هو الوصول إلى الهدف بقطع النظر عن طريقة الوصول وأخلاقيّتها. المؤمن هو الّذي يثبت حتى النهاية، لا يتوقّف أمام منطق يعاكس منطق المسيح، بل يسعى إلى تحطيم الحواجز وتسلّق المرتفعات وثقب كلّ حاجز يمنعنا من أن نلقي بذاتنا المريضة أمام المسيح وننال الشفاء.

 

 لقد حمل الأصدقاء الأربعة صديقَهم المريض فنال الشفاء، وحملوا الجموع كلّها فمجّدوا الله، إن مثابرتهم وجهادهم أوصل رسالة المسيح الى الجمع فمجّد الله، وهكذا إيماننا اليوم، نحمل عالمنا المريض ونضعه أمام المسيح، نحمل شكّ إخوتنا وقلّة إيمانهم، ونجعلهم يمجّدون الله حين يرون فرح الشفاء الّذي نلناه من يد السيّد.

 

ابن الإنسان له السّلطان أن يغفر الخطايا على الأرض اليوم، ومن خلال الكاهن: إيماننا هو أن المسيح بعظيم رحمته اختار الرّسل ليكمّلوا عمله على الأرض، واختار الكهنة ليكونوا باسمه خدّام الجماعة، يوصلون كلمة الرّب الى الإخوة، رسالة المغفرة الى الخطأة، شفاء القلب والجسد الى المتألّمين.

 

إن المسيح لا يزال يعلن اليوم عن القدرة التي له على الأرض، فهل نحن فريسيُّون جدد؟ هل نقول "من هو هذا ليغفر الخطايا"؟، وكم من مرّة نقولها بكبريائنا وقلّة إيماننا.

 

 إن الرّب قد أعطانا سرّ التوبة للشفاء الداخلّي، فلا نغلق أبواب قلوبنا أمامه، بل لنفتح له المجال ليعمل فينا، من خلال الكاهن العامل باسمه وبشخصه، وهكذا نكون مثل هذا الكسيح، نقف أمام الجماعة، معلنين بتوبتنا، وبشهادتنا للمسيح في صمت حياتنا اليوميّة، عظمة عطيّة الله، فيمجّدَ العالمُ اللهَ من خلالنا ويعلن "ما رأينا مثل هذا في حياتنا".

 

 

 

 

 

الأب بيار نجم ر.م.م.