هو الأحد الأوّل، لقد قام السيّد منذ ثمانيّة أيّام وانتهت بهجة القيامة لمن لا يفتّش عن القيامة إلاّ في هذا العيد.
لقد عبرنا فصح الرّب ودخلنا في حقيقة صعوبات حياتنا المسيحيّة: أن نؤمن بما لا يمكن لعقل أن يفهمه، أن نصدّق أن الرّب قد قام، وأنّه قام من أجلي أنا.
صعوباتنا الإيمانيّة هي صعوبة توما نفسه، أحبّ كثيراً فخاف أن يكون كلام الرّسل مجرّد أوهام، خاف من الأمل الخادع، خاف أن يعود إلى ألم موت المسيح مرّة أخرى إذا اكتشف أنّ ما تقوله النسوة والرسل هو مجرّد وهم عابر. (يو 20 /26-31).
هي قصّتنا نحن، قصّة خوفنا من المجهول، نفضّل عدم التصديق، نفضّل أن نعتبر المسيح غائباً عن حياتنا لئلاّ نتألّم من فقده مرّة أخرى.
هي قصّة اتّكالنا المبالّغ به على عقلنا وقوانا العاقلة وتفتيشنا عن حقيقة الله من خلال المنطق الإنسانيّ والدلائل العلميّة. هي قصّة قلب خفت حبّه تحت وطأة عقل كثر شكّه.
هي قصّة مجتمع لم يعد يؤمن إلاّ بما هو ملموس، وبما هو في متطاول يده....
كلمات يسوع لتوما: ألأنّك رأيت تؤمن؟ هو توبيخ قاسٍ للتلميذ الّذي عايش معلّمه وسمعه يقول للرَّجل الّذي جاء يلتمس شفاء فتاه: "أنتُم قوم لا تُؤمنونَ إلاَّ إذا رأيتُمُ الآياتِ والعَجائِبَ" (يو 4، 48). فالتتلمذ يعني الدخول في علاقة حبّ، والحبّ لا يبحث عن ضمانات، الحبّ يثق ويرجو ويعرف الإنتظار ليفهم حين يحين الأوان.
لقد قبل يسوع تحدّي توما حبّاً به، جاء يتمّم مطلبه ليجعله مؤمناً، وفي عمل يسوع هذا استمراريّة لما تمّ على الصّليب، فهو جاء يفتّش عن الخروف الضّال، والخروف الضّال هو واحد من تلاميذ الرّاعي المقرّبين، يجتذبه إليه من جديد لكيما من خلاله يجتذب الكثيرين إلى الإيمان والدّخول في صداقة مع السيّد.
طلب توما هو تعبير عن رفضه لشكّ الصّليب: لقد رأى التلميذ معلّمه يُصلَب، ومع المعلّم رأى وعود الله كلّها تضمحل. بموت يسوع تبدّدت آمال توما وطموحاته، سقط في لحظة الصّلب أملَ إعادة المُلك إلى إسرائيل. لقد آمن توما كثيراً لذلك كان رفضه قاسياً: آمن بمعلّم على قياسه، بربّ جاء يحقّق مشاريع توما الخاصّة، أو يتمّم إنتظارات جماعة الغيورين السياسيّة.
طلب رؤية آثار الرّمح والمسامير، لأنّ الرّمح مزّق لا قلب يسوع فحسب، بل أحلام توما أيضًا، والمسامير خرقت، مع يدّي المخلّص، آمال التلميذ ومشاريعه الزمنيّة.
قبول يسوع لتحدّي توما كان لإعادة الإبن إلى أحضان أبيه. لم يستجب الرّب لتحدّيات الصَّالبين الصَّارخين: "إن كان ابن الله فليخلّص نفسه نازلاً عن الصّليب" كما لم يستجب لتجارب الشيطان الثلاثة. فتوما يختلف عن الباقين، لقد طلب الضمانة لأنّه أحبّ كثيراً، والرّب جاء يعيده لأنّه حضّر لتوما مشروع حياة، مشروع حمل الإنجيل الى أقاصي المسكونة.
إن قيمة إيمانِنا لا تظهر في المحتوى الفكريّ والقدرة على التحليل المنطقيّ لما آمنّا به، إنّما هي تكمن في القدرة على الدّخول في علاقة شخصيّة مع يسوع المسيح، الحاضر، القائم في وسط الجماعة، والعامل في حياتنا.
أن أومن لا يعني بالضّرورة أن أفهم فكر حبيبي وأخضعه لنور المنطق، أن أومن يعني أن أحبّ هذا الشخص الّذي أدخلني إلى حياته، أن أثق به وأن أنمو في معرفته. هذا لا يعني أن الإيمان لا علاقة له بالعقل، فالقدرة العقليّة هي أساسيّة في الإنسان، تساعدني على فهم محتوى الإيمان، إنّما حين يفشل العقل في إعطاء أجوبة شافية، عندها أستسلم بين يديّ الربّ كإبن له، أثق به، أفتّش عنه.
أن أكون مسيحيّاً لا يعني على الإطلاق أن أكون كائناً يهمّش عقله وذكائه والمواهب الفكريّة التي أعطاني إيّاها الله، بل أنا مدعو للتعرّف إلى خالقي بكلّ أبعاد إنسانيّتي. إنّما الفارق بين الإيمان المفتّش عن الفهم وبين الإيمان الّذي يشترط الفهم ليستمرّ هو أن الأوّل يعرف أن لا إمكانيّة لعقلنا البشريّ أن يدرك سرّ الله بعمقه، إنّما يسعى إلى التعرّف إليه أكثر فأكثر، معرفة سوف تستمرّ مدى الأبد، إنّما حين يدرك المفتّش الحدّ الأقصى لقوّته العقليّة، عندها يرتمي بثقة بين يديّ الله، يؤمن به لأنّه يحبّه ويثق به، ويقدر أن يعرف أسراره بواسطة الحبّ لا بواسطة العقل فقط.
أمّا الإيمان الطالب الفهم كشرط لإستمراريّته فهو إيمان وُلد ميتاً، هو إيمان مشروط، ينقصه الحبّ والرّجاء، تنقصه الثقة، هو إيمان مبنيّ على عقليّة تجاريّة، بقدر ما أفهم بقدر ما أؤمن، عندها لا ضرورة للإيمان، لكان الإيمان أضحى يقيناً، ولكان الله أصبح مجرّد ثابتة علميّة لا تحتاج للإيمان.
لقد فتّش توما عن الفهم كما نفتّش نحن كلّنا، إنّما علم أنّ الرّب يطلب الصداقة والثقة، ويقدر أن يعطي الأجوبة والضمانات. ويا لها من ضمانات نالها توما فآمن: جراح وآثار مسامير. هذا هو سرّ إيماننا كلّه، لا يكفي أن نؤمن بإله تجسّد وهو مالك على الكون بأسره، نحن مدعوُّون لنؤمن بإله تألّم من أجلنا، إله صار ضعيفاً، متألّماً، لا يعطينا أيّة ضمانة أننّا لن نتألّم، بل بالعكس، يعدنا بالألم والتضحية والصعوبات على هذه الأرض، لنعيش شخصيًّا مسيرة آلامه وصولاً إلى القيامة.
الضمانة الوحيدة التّي يقدّمها المسيح لنا هي جراحه، هي آلامه وقيامته، لتصبح لنا برنامج حياة، نقبل إلهاً تألّم بسبب الحبّ، فنقبل نحن بالتضحية بأنفسنا حبًّا به وبالآخرين.
توما هو مثال للكائن المؤمن الموجود في كلّ واحد منّا:
"توما، أحد الإثني عشر والملقّب بالتوأم، لم يكن معهم حين جاء يسوع (يو 20، 24). لقد كان الغائب الأوحد، علم بما جرى حين عاد إنّما لم يشأ أن يصدّق بما سمع. لقد عاد السيّد مجدّداً وكشف للتلميذ غير المصدّق جنبّه ليضع الإصبع، أظهر له يديه وآثار المسامير، وشفى جراح عدم إيمانه، شفى جرح خيانته.
ماذا تجدون أيّها الإخوة في هذا كلّه؟ هل ظننتم أنّ بالصدفة كان هذا التلميذ غائباً، وحين عاد سمع، وحين سمع شكَّ وحين شكَّ لمسَ وحين لمسَ آمنَ؟. لا، لم يتمّ هذا صدفةً، إنّما بتدبير إلهيّ.
لقد شاءت الرّحمة الإلهيّة أن هذا التلميذ غير المصدّق، وبواسطة لمس معلّمه، يشفي فينا نحن جراح الخيانة. لقد أتى عدم إيمان توما علينا نحن بفائدة أكبر من إيمان سائر الرُّسل، لأنّ بلمسه السيّد عاد إلى الإيمان، ومن خلاله خلعت نفسنا عنها كلّ شكّ وتثبّتت في الإيمان؟ لقد سمح الربّ أن يشكّ التلميذ بقيامته، إنّما لم يتركه في شكّه. لقد صار التلميذ الّذي يشكّ ويلمس لمس اليد شاهدًا لحقيقة القيامة، كما كان خطيّب العذراء الأمّ حاميّاً للبتوليّة الأكمل" (البابا غريغوريوس الكبير، العظة 26).
من خلال شخص توما نُدرك كم هي عظيمة الرّحمة الإلهيّة، التي تحتفل الكنيسة الكاثوليكيّة بعيدها أيضًا في هذا الأحد الأوّل بعد القيامة. فالرحمة التي رفضت أن تتركنا في موت الخطيئة، وخلّصتنا بواسطة آلام الفادي، هي نفسها تأتي لتساعدنا في مسيرة إيماننا.
نحن بالنعمة الإلهيّة مخلّصون، وبالنعمة الإلهيّة نثبت على إيماننا، وبمعونة الله نحافظ على معموديّتنا. الإيمان نعمة من الله نحافظ عليها بسعينا، بصلاتنا، بالتزامنا، بثقتنا بكلام الله لا سيّما في أكثر الأمور تعقيداً وصعوبة. حين نرفض أن نصدّق أنّ يسوع قد قام ويقيمنا معه في كلّ مشكلة تصادفنا نكون مثل توما، ويسوع يأتي ليُظهر لنا رحمته ومحبّته غير المحدودة.
حين تصبح الآلام والصُلبان في حياتنا علامة شكّ وسبب رفض، يأتي يسوع ليظهر لنا جراحه وآلامه، يقول لنا أنّنا تلاميذ معلّم تألّم من أجل أحبّائه، ومات ليخلّصهم، وقام ليعلّمهم أن لا موت، ولا ألم ولا مشكلة ولا صعوبة يمكنها أن تكون عائقـًا أمام من آمن بموت السيّد وبقيامته، فنحن دُعينا إلى الرّجاء وإلى الإيمان دون أن نرى ونلمس، فنسمع صوت السيّد يقول لنا: "طوبى للّذين آمنوا دون أن يروا"، فعين الجسد لا تنفعنا شيئاً، لقد عايّنا ونعاين الرّب كلّ يوم بعين الحبّ الّتي لا تخطئ.
الأب بيار نجم.