بين ارتفاع الصّليب على الجلجلة وارتفاعه نارًا على قمم الجبال وارتفاعه علامة انتصار في السّماء، دربٌ طويلٌ محفوف بألفِ إكليل من الأشواك، وكأنّ أزهار المُعاناة لا تتفتّح إلاّ مُرتوية بدماء الشّهداء ومعطّرة بأريج الإيمان الثّابت، مهما عصفت رياحُ الشّرّ وعتت أمواجُ الظُّلم.
وبين رمح ذاك الرُّومانيّ الّذي دخل جنب المسيح على صليبه، ورماح الفاتحين الغُزاة الّذين فاخروا بنهب عود الصّليب، موعدُ لقاءٍ جَمَعَ العداوة والتّباغض والأحقاد، وتَمَظهرَ حرْقـًا ونهبًا وقتلاً، وكأنّ المحرّك الأوّل الّذي ألبس الرُّومانيّ الخوذة والرّمح وأنطق اليهوديّ صارخًا اصلبوه، ودفع الفارسيّ إلى بيت المَقدِس ليسلب الصّليب إذلالاً لأتباعه، ما زال ناشطًا في مَن يهدم اليوم كنائس النّاس ومعابدهم ويحطّم رموزهم مُعلنًا بلسانٍ خالط فيه الباطل الحقّ كما لا يستطيع إنسانٌ أن يخلط بينهما، إنّه يفعل ذلك مرْضاةً لله، مُحقّقـًا كلام السّيّد المسيح النّبويّ حين قال ستأتي أيّامٌ كلّ مَن يذبحكم يعتقد أنّه يقدِّم لله قربانًا.
هذا هو الصّليب، كان وما زال آلة تعذيب وطريقـًا للموت، ولكنّ الجاهل والكافر والحاقد وفاعل إرادة الشّيطان، نَسيَ أنَّ هذا الصّليب بالذّات باتَ، بعد سرِّ الفداء، علامة غلبة وانتصار. مع المسيح المصلوب مات الموت والخطيئة والشيطان، وأَصبح هذا الصّليب بفعل المصلوب عليه، جِسر عبورٍ من الموت إلى الحياة، مِن وادي الجوع والألم والظُّلم والعطش والحزن والبكاء، إلى جنَّات نعيمٍ لا يستطيع الموت إليها سبيلاً.
هذا هو الصّليب الّذي إذا ما رآه الشّيطان ارتعد وأرغى وأزبد وراح يعيثُ في الأرضِ فسادًا وفي النّاسِ يزرع الضّلال ويمتهن الموت حرفة، ما زال هذا الصّليب يفعل فعله في نفس كلّ مَن يَسعى إلى مرضاةِ الشّيطان منجرِفًا خلْفَ حيله واقعًا في أحايله، عن جهل أو عن عِلم، فيقوم مقامه في فعل ما شاء أن يفعله وقصَّر عن فعله، فاستعان ببعض النّاس يصلون إلى مَن مِن المفترض أن يكونوا إخوَةً لهم في الإنسانيّة وإن اختلفوا عنهم ثقافة ً ودينًا، وينفِّذون ما يأمرهم الشّيطان بفعله تحت ستار العبادة والدِّفاع عن حقّ الله بالوحدانيّة، وكأنّ الله بحاجة إلى مَن يُدافع عن حقّه، لضُعفه أو عجزه أو نقصه، وهو الّذي برَّأَ الدُّنيا مِن العدم وأنبت الجبال وشقّ البحر وفجّر الماءَ مِن الصَّخر.
هذا هو الصّليب، صورة الوعد بأنّ مَن يتبع الّذي صُلِبَ عليه، سيلقى في العالم ضيقـًا، مع وعدٍ آخر مرافق له، بأنّ الغلبة ستكون للصّليب، ومهما اشتدَّت عتمة العقول لا بدَّ مِن أن يخترقها شعاع الحقّ وتهتدي.ِ
الأب كميل مبارك.
ِ