"لقد حانت السّاعة التي يتمجّد فيها ابن البشر".
"السّاعة هي ساعة الله، أي دخوله تاريخ البشر. هذا الدّخول حدث تاريخيّ وحدثٌ إلهيّ. وعندما تدقّ "ساعة" الله، على السّاعات جميعها أن تنتظم وإيّاها، أي ينبغي للعالم أن يعيش في العُمق زمنه الحقيقيّ، زمن الله، ساعة الله، هذه السّاعة هي ساعة العهد الجديد، بدم المسيح، بين الله والإنسان. إنّها ساعة أبديّة. ومن ثمّ فلا غروى من أن يؤرَّخ كلّ شيء بالنسبة إلى المسيح، قبله وبعده...
هذه السّاعة مُنتظرة منذ فجر التاريخ: "وأجعل عداوةً بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، فهو يسحق رأسك، وأنت ترصدين عقبه" (تك3/ 15). كما ويقول مار بولس: "الخليقة كلّها تئّن بآلام المخاض. وليست هي فحسب، بل نحن أيضًا نئّن مُنتظرين منزلة البنين، لخلاص أجسادنا" (روم 8/ 22-23).
تلك السّاعة أرهبت المسيح: "نفسي قلقة... يا أبتاه، نجّني من هذه السّاعة!" لأنّه، إن هو أراد أن يحوّل مجرى التاريخ، عليه أن يقبل بأن يكون مجرى حياته كمجرى حياة حبّة الحنطة التي "إن لم تقع في الأرض وتمت، تبقَ وحدها. وأمّا إن ماتت فإنّها تأتي بثمر كثير". حبّة الحنطة، حتّى تبلغ غايتها فتأتي بالثمر الكثير وتصبح طعامًا مفيدًا للبشر، لا بدّ لها من أن تتخلّى عن ذاتها حتّى الموت في الأرض. هكذا إن أراد المسيح أن يأتي بثمار الحياة لبني البشر فعليه أن "يبغض نفسه" متخلّيًا عن ذاته حتّى الموت على صليب الفشل والمذلّة .
لكنّ ذلك مُخيف جدًّا للطبيعة البشريّة التي شاء الله أن يتّخذها كاملة. فانتابه صراع باطنيّ رهيب سوف يُترجَم، في بستان الزّيتون، بعرقٍ من دم (لو22/ 44). وإذا به يصرخ: "يا أبتاه، أنقذني من هذه السّاعة! ولكن، لأجل هذه السّاعة قد جئت". كما وسوف يقول في بستان الزّيتون: "أيّها الآب، إن شئت فلتعبر هذه الكأس عنّي. ولكن لا ما أشاء بل ما أنت تشاء" (لو 22/ 42). لمَ هذا الخضوع؟ لأنّه "يجب على المسيح أن يعاني الآلام، فيدخل مجده" (لو 24/ 26).
وبذلك يكون قد أتّم في العالم رسالة الفداء الخلاصيّ: "هو الذي، في أيّام بشرّيته، قرّب تضرّعات وابتهالات في صراخٍ شديد ودموع، إلى القادر أن يخلّصه من الموت، وإذ استُجيب له (بالقيامة) بسبب وَرَعِه، ومع كونه ابنًا، تعلّم ممّا تألّمه، أن يكون طائعًا. ولمّا بلغ الكمال (بتقدمة ذاته ذبيحة كهنوتيّة)، صار لجميع الذين يُطيعونه علّة خلاصٍ أبديّ" (عب5/ 7-9).
آلام المسيح "علّة خلاص" وحياة. لذا فإنّ ساعة الله ساعة ولادة بشرّية جديدة، ولادة "تؤول إلى الفرح" بعد "البكاء والنواح والحزن"، كما قد يحصل للمرأة التي "إذا ما حان وضعها، لأنّ ساعتها قد أتت، ولكنها متى وضعت الطفل لا تعود تتذكّر شدّتها، فَرِحة ً بأنّ إنسانًا وُلد في العالم" (يو 16/ 20-21).
ساعة الله هذه، ينبغي لنا أن ننتظم وإيّاها، أن نعيش زمن ساعة الله، إذا ما أردنا أن نكون يومًا "حيث يكون المسيح"، فنحظى "إكرام الآب".. أيّ طريق إلى ذلك غير طريق المسيح ومجرى حياته، أي مجرى حياة حبّة الحنطة؟ فالرّبح والخسارة، منذ المسيح، أصبح معناهما ربح حبّة الحنطة لذاتها أو خسارتها لذاتها، بحيث يكون الرّبح في التخلّي عن الذات من أجل الغير، والخسارة في الانغلاق على الذات من أجل الذات.
ساعة الله كانت للمسيح بذلًا للذات حتّى الموت، وهي لن تكون لنا غير ما كانت للمسيح. في ذلك بداية درب الجلجلة، فبداية درب المجد الأبدي. "من وجد نفسه أضاعها ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها". (متى 10/ 39).
الأب جميل نعمة الله السقلاوي اللعازري.