"يا معلِّم، أين تقيم؟" (يو1: 38)

متفرقات

"يا معلِّم، أين تقيم؟" (يو1: 38)

"يا معلِّم، أين تقيم؟" (يو1: 38)

 

 

"يا معلِّم، أين تقيم؟" (يو1: 38)

                                 

1. إعلان يوحنا المعمدان عن يسوع أنّه "حمل الله"، إجتذب تلميذَيه لاتّباع يسوع. فالحمل ذكّرهما "بحمل الفصح" الذي كان يجمع العائلة لإحياء عشائها السّنوي في عيد الفصح اليهودي. أمّا يسوع فهو "حمل الفصح الجديد" الذي قرّبه الله الآب ذبيحة فداء عن البشريّة جمعاء. "فمات من أجل خطايانا، وقام من أجل تبريرنا" (روم 4: 25). لم يدرك التّلميذان أبعاد هذا الإعلان، لكنّهما رغبا في الإقامة مع يسوع. فلمّا رآهما يتبعانه، سألهما: "ماذا تريدان؟" فأجابا: "يا معلّم، أين تقيم؟" (يو 1: 38).

 

2. اجتمعا حوله طيلة ذاك النّهار. إنّها صورة إستباقيّة لاجتماع الجماعة المؤمنة، في كلّ يوم أحد، حول المسيح من سرّ الإفخارستيا، حيث يقدّم ذاته ذبيحةً عنّا كحمل، ويقدّم لنا جسده ودمه مأكلًا ومشربًا لحياتنا الجديدة. هذا ما نحن فاعلون الآن، والربّ يقول لكلّ واحد وواحدة منّا، هامسًا في قلبه: "تعال وانظر".

 

3. يُسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيّا الإلهيّة التي تمكّننا من الإقامة مع يسوع المخلّص والفادي. فأرحّب بكم جميعًا، وأحيّي بشكلٍ خاصّ رئيس بلديّة الغابات العزيزة وأعضاء المجلس ومختار البلدة، ومدير عام شركة غرغور-مرسيدس، وإداريّين وموظّفين، ولجان الأهل في المدارس الخاصة، ونقول لهم أنّنا حريصون على حماية الوحدة بين مكوّنات الأسرة التّربويّة: الأهل وإدارة المدرسة والهيئة التّعليميّة، وعلى مصلحة كلّ مكوّن لترابط الثّلاثة فيما بينهم، من أجل خير التّلامذة. ولذا، نطالب الدّولة بدعم المدرسة الخاصّة والمحافظة عليها لكونها ذات منفعة عامّة اسوة بالمدرسة الرّسميّة، علمًا أنّ كلفة الطّالب في هذه الأخيرة تفوق كلفته في المدرسة الخاصّة.

 

كما أحيِّي عائلة المرحوم جرجس فضل ناصيف "ابو فرنسوا" الذي ودّعناه معها ومع أهالي دبل العزيزة منذ سبعة عشر يومًا، وعائلة نسيبتنا المرحومة نهاد الريّس زوجة المرحوم شفيق الرّاعي، وقد ودّعناها مع أولادها وأهلنا في حملايا بكلّ أسى منذ أسبوعَين. نذكر في صلاتنا المرحومَين جرجس ونهاد ملتمسين لهما الراحة السعيدة في السماء، ولأسرتَيهما العزاء.

 

4. تحتفل الكنيسة في هذا الأحد باليوم العالمي للمهاجرين واللّاجئين، وقد وجّه قداسة البابا فرنسيس، كما هي العادة، رسالة للمناسبة. فكان موضوعها أربع كلمات: إستقبال المهاجرين واللاجئين، وحمايتهم، وتعزيزهم، وإدماجهم.

 

فاستقبالهم يقتضي قبل كلّ شيء تقديم أوسع إمكانيّات الدّخول الآمن والشّرعي في البلدان المقصودة.

وحمايتهم تستوجب سلسلة أفعال تحمي حقوقهم وكرامتهم، لناحية إمكانيّة العيش والعناية الصحيّة، وتأمين التعليم والتربية للأولاد القاصرين.

 

وتعزيزهم يعني أساسًا تأمين الشروط التي تمكّن الأشخاص من تكوين ذواتهم بكلّ أبعادها، وفي مقدّمة هذه الأبعاد حريّة المعتقد والممارسة الدينيّة والعمل المنتج.

 

وإدماجهم في المجتمعات المستضيفة بحيث يوظّفون هويّتهم وثقافتهم وإمكانيّاتهم في إغناء المجتمع المستضيف.

 

5. فيما يثمّن البابا فرنسيس في رسالته الجهود المبذولة من قِبل عدد من البلدان في إطار التعاون الدولي والمساعدات الإنسانيّة، يناشد هذه الدول أن يُدرجوا في توزيع المساعدات حاجات الدول التي هي في طور النمو وتستقبل تدفّقات كبيرة من اللاجئين والمهاجرين، مثل لبنان والجماعات المحلّية التي تعاني من نقص مادّي وعوز. ومن بين هذه المساعدات تلك الطبّيّة والاجتماعية والتربوية.

 

وفي خطابه إلى أعضاء السلك الديبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي، في 8 كانون الثاني الجاري، خصّ البابا فرنسيس لبنان بالتفاتة خاصّة، مشيرًا إلى "أهمية تمكين النازحين السوريين من العودة إلى وطنهم، وكذلك أولئك النازحين إلى الأردن وتركيا. واشاد بالجهود التي بذلها لبنان وسواه في هذا الظرف الصعب، مطالبًا الأسرة الدوليّة بالدعم وفي الوقت عينه بالسعي إلى إيجاد الشروط لعودة النازحين السوريّين، بدءًا من لبنان، لكي يستمرّ هذا البلد الحبيب "رسالة" احترام وتعايش، ونموذجًا يُحتذى به في المنطقة كلّها وفي العالم بأسره".

 

6. "يا معلّم، اين تقيم!" (يو1: 38). سألاه عن مكان إقامته"، لملازمته، والبقاء معه، ومشاركته في رسالته. لقد أدركا بالحدس أن في الإقامة معه مصدر السعادة والفرح وملء الحياة.

 

تعلّمنا الإقامة مع المسيح أنّ الإيمان الحقيقيّ ليس "ظرفيًّا" بل هو "إقامة" دائمة معه. ونحن نؤمن أنّ الربّ مقيمٌ في سرّ القربان، ونلتقيه في قداس الأحد، حيث نجلس معه إلى مائدتَيه: مائدة كلام الحياة، ومائدة جسده ودمه. لحياتنا وحياة العالم.

 

7. تميّز الحدث الإنجيلي بالحوار، بدأه تلميذا يوحنا باتّباع يسوع صامتَين، فبادرهما بالسؤال: "ماذا تريدان؟ أجابا: "يا معلم، أين تقيم؟" فقال: "تعاليا وانظرا". وانتهى هذا الحوار بحوار الحياة إذ "أقاما معه طيلة ذاك النهار". وبلغ الحوار ذروته، بأن حملا الشهادة إلى سمعان بن يونا فأتى إلى يسوع، وبدّل الربّ اسمه إلى "بطرس" أي الصخرة التي سيبني عليها كنيسته. هذه هي ثمار الحوار.

 

8. الحوار حاجة الحياة في العائلة والمجتمع، وفي الكنيسة والدولة. الحوار جسر بين الأشخاص، لا نعرف أية ثمار سيُنتج إذا كان صادقًا ومخلصًا. لذا، لا يمكن هدمه أو إقفاله، لئلّا يتسبّب بالقطيعة والانقسام وتعطيل آليات الخير العام. وهذا ما يجري عندنا بكلّ أسف على مستوى الجماعة السياسيّة. فلا يجرؤ المسؤولون السياسيّون على الجلوس معًا وجهًا لوجه، والتحاور بصدق وثقة. أصاغر الأمور عندهم تكبر وتتعاظم، وتُحمَّل تفسيرات وأبعادًا غير واقعيّة، وقد تنطوي على نوايا وخلفيّات سياسيّة. إنّ التصلّب في مواقف اللاثقة، والتحاور عن بُعد بواسطة تقنيات التواصل، والقول كلّ ما يحلو من خلالها، إنما تُسمِّم الأجواء، فتسود ردّات الفعل، وينقسم الأفرقاء بين مؤيّد لهذا الرّأي أو ذاك وبين صامت لا يجرؤ على البوح برأيه. وهكذا تتعطّل القرارات، ويتفاقم الشلل الاقتصادي وتتوقّف مشاريع التنمية، وتتقلّص فرص العمل والإنتاج، فيما الشعب ينوء تحت حاجاته وفقره ومطالبه. أجل، وحده الحوار الصادق، ولو كان مضمونه لا يتلاءم مع مصالحنا الخاصّة، يمكّن السير بالحياة السياسية والوطنية إلى الأمام، وكذلك بالحياة العائلية والاجتماعية والكنسيّة.

 

9. نحن نصلّي كي يدرك الجميع أن الحوار الصادق في ضوء انجيل اليوم يبقى وحده الباب إلى حياة سعيدة وبنّاءة في العائلة والمجتمع والكنيسة والوطن. فالله كشف لنا كلّ ذاته، وكلّ تدبيره الخلاصي، بحوار أقامه مع البشرية جمعاء بواسطة المسيح، "كلمة الله الذي صار بشرًا" (يو1: 14)، وحاورنا بشخصه وكلامه وآياته. فله وللآب والروح القدس نرفع نشيد المجد والتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي - الاحد الثاني من زمن الدنح - بكركي

 

موقع بكركي.