النبيّ حبقوق يرى مرتعشًا نتيجة قساوة قلوبنا، يرى مجتمعه يسير إلى الإنهيار والنّاس مطمئنّون غير مبالين (حبقوق 1/ 2-3. 2/ 3 -4). يذكّرني بأشخاص أعرفهم لهم من التمييز ما يجعلهم يرون المواربة والكذب في قلوب النّاس، فيقلقون ويضطربون حيث نحن نتفاءل ولا نكترث. مثل أنبياء العصور القديمة يتألّمون في نفوسهم ويسألون الله أن يحجب عنهم ما يرونه، لأنّ صفاء نظرهم يجعلهم في صراع مع الناس الّذين لا يفهمونهم.
يسأل النبيّ الله أن يغيّر الأحوال، ولكنّه يجيب: البارّ بإيمانه يحيا. ليست صعوبات حياتنا عقابًا من الله، ولا الظروف غير المؤاتية علامة غضبه، وإلاّ لكان المصلوب أكثر الناس خطيئة. لا بدّ من العواصف، ولكن من يصمد؟ من يبقى واقفـًا؟ من الّذي بنى بيته على الصَّخر فما عاد يخاف تقلّب الظروف؟ هو المؤمن، "قلبه ثابت" كما يقول المزمور. يقودنا الإيمان إلى مواجهة مخاوفنا. لسنا أشخاصًا تتقاذفهم الظروف، والأفكار، والتيّارات.
لسنا لعبة الأقدار ولا خاضعين لقوى العالم. بل حين نقول: نؤمن بإله واحد، نحن أكثر النّاس حرّيّة. لا أقول "لا نخاف"، بل أقول نواجه مخاوفنا. من لا يصمد أمام خوفه يصبح عبدًا له. أليس سباق التسلّح مثالاً محزنًا على هذا الأمر: أطلب السّلاح لأضمن أمني، فأصبح مخيفـًا لغيري الّذي يسعى للتسلّح ليضمن أمنه، مع أنّه بذلك يزيد من المشكلة، لأنّ خوفي يصير أكثر إقناعًا، فأستمرّ في دوّامة الخوف. الإيمان تغلّب على الخوف. بالإيمان "يحيا" البارّ، أن يكون أمينًا لذاته، لا يدع الظروف، ولا الآخرين، يتحكّمون في قراراته.
هذا ما يؤكّده بولس لتلميذه طيموتاوس: "إنّ الله لم يعطنا روح الخوف، بل روح القوّة والمحبّة والفطنة". (2 طيم1/ 6 -8 ،13 -14) لا يعد بولس تلميذه بالرّخاء والهناء، بل بتحمّل المشقـَّات. إن لم يواجه تلميذ الإنجيل خوفه من المشقـَّات، عبثًا يحمل الإنجيل. أمّا إن كان "متّكلاً على قدرة الله"، وهذا لا يعني الاتّكاليّة والتفاؤل، بل يعني المواجهة والصراع، فهو يظهر بإيمانه أنّه ليس عبدًا لخوفه.
ليس إنجيل المسيح دعوة إلى فرح رخيص وسطحيّ، بل إلى فرح مكلف وعميق، الفرح الّذي يأتي حين يغلب الإنسان خوفه، بقوّة ومحبّة وفطنة. نمرّ بظروف غير إنسانيّة. تدعونا مخاوفنا إلى التحصّن. نعلّق طاعة الإنجيل بسبب الظروف، كما لو أنّ الإنجيل يصحّ في زمن الازدهار وحسب. بل الإنجيل كُتب في زمن الاضطهاد، وقُرِئ في كلِّ الأزمنة. لأنّنا نمرّ بظروف غير إنسانيّة، يجب علينا أن نواجه مخاوفنا، وإلاّ لاستعبدتنا حتّى نهاية حياتنا. الخوف يحبس الحبّ في سجن الشكّ. ولكنّ البارّ بإيمانه يحيا.
يطلب التلاميذ في إنجيل لوقا (17/ 5 -10) أن يزدادوا إيمانًا. يظنّون أنّ التغلّب على الخوف ممكن أن يأتي بدون المواجهة. كما في أيّام الامتحانات الدراسيّة، نتمنّى لو أنّنا ننتقل بسحر ساحر إلى ما بعدها بدون المرور بها. الإيمان نعمة وعطيّة من الله، ولكنّ عطايا الله مجّانيّة ومكلفة في آن واحد، لأنّ النعمة ما هي إلاّ حياة الله فينا. ليست شيئًا يمتلك، بل هي تغيير حقيقيّ، مع كلّ ما يحمله التغيير من فقدان ومن مكسب.
أن نحيا حياة الله يعني أن نستقبل روح القوّة في جسد مطبوع بالضعف، وأن نستقبل روح المحبّة في قلب معتاد على الأنانيّة، وأن نستقبل روح الفطنة في عقل يهوى هناء الغباء. عطيّة الإيمان مكلفة لأنّها تجعلني أواجه مخاوفي العميقة لكي لا تعود تستعبدني. فكيف ينبّه يسوع تلاميذه إلى قصر نظرهم؟
يُريهم أوّلاً أنّ الإيمان لا يُحصّل دفعة واحدة، وليس من اكتفاء فيه. فلو بلغ الأمر بي أن تطيعني التوتة حين آمرها أن تنقلع وتنغرس في البحر ما ذلك إلاّ إيمان بقدر حبّة الخردل، "أصغر البقول جميعًا" كما يقول الربّ. من يطلب الإيمان يناله في قلب المواجهة، لا بتوفيرها. ليست السّلطة على الظروف وعلى العناصر علامة الإيمان. وإنّما في جرأة خوض الواقع، خوض تحدّيات حياتنا، نجد الإيمان. من طلب أن يزداد إيمانًا لكيما يغتني بالإيمان فلا يطلبه بعد ذلك لم يفهم ما هو الإيمان. بل هو طلب نطلبه بقدر ما نناله، ونسأل الله الإيمان أكثر فأكثر حين نناله منه أكثر فأكثر.
يكمل يسوع تعليمه عن طريق مثل الخدم الّذين بعد أن تعبوا في الخدمة يقولون: نحن خدم لا خير فيهم... هذا المثل يستعيد التعليم نفسه: لا مجال للاكتفاء... لا يسعنا أن نقول: قمنا بالواجب، وبقي أن ننال المكافأة. نقيض الإيمان هو منطق الاستحقاق، منطق الحسابات الضيّقة الّذي يقول: قمت بواجبي وهذا يكفي. يسود هذا المنطق العلاقات التجاريّة والتشريعيّة بين البشر، وهذا جيّد ونافع... ولكنّه لا يصلح لعلاقات الحبّ والإيمان.
لكلّ شيء منطقه، ومنطق الإيمان، كما الحبّ، هو أنّه يطلب المزيد دومًا. تبدأ علاقة الإيمان "الآن"، بغضّ النظر عن الماضي. كان أنطونيوس الكبير يشدّد على تلاميذه أنّ من أراد المثابرة في حياة الفضيلة عليه أن يعتبر كلّ يوم أنّه اليوم الأوّل في مسيرته. الآن أبدأ!
ويعلّم غريغوريوس النيصيّ التعليم نفسه حين يقول إنّ في طريق معرفة الله نحن نسير من بداية إلى بداية، إلى بدايات لا نهاية لها.
ليس المقصود بمثل الخدم الّذين لا خير فيهم تواضعًا زائفـًا أنكر فيه تعبي وجهدي كما لو أنّه لم يكن شيئًا، بل المقصود هو اعتبار كلّ جهد وتعب على أنّه استجابة لحبّ الله، جواب على جهده هو وعمله هو، امتنان للحياة الّتي يهبني إيّاها، وهي حياته نفسها.
منطق الامتنان لا يطلب حسابًا، ولا يناقش استحقاقـًا، ولا يطالب بمقابل، وإنّما يكشف إيمانًا قديرًا بأنّ حياتي أسمى من ظروفها، وأنّ البارّ بالإيمان يحيا. أمّا كيف يرى الله عمل خادمه، فيصفه يسوع في موضع آخر: "طوبى لأولئك الخدم الّذين يجدهم سيّدهم عند عودته ساهرين. الحقّ أقول لكم: إنّه يشدّ وسطه ويدعوهم إلى المائدة ويدور يخدمهم." (لو 12: 37).
الأب داني يونس اليسوعي.