الهويّة والرِّسالة هما جوهر الحياة المسيحيّة، أصلها وغايتها. ينبعان من المسيح، وبالتالي من جسده السّرِّي الذي هو الكنيسة. لقد تنبّأ عنهما أشعيا، وتحقّقا في شخص يسوع، ابن الله الذي صار إنسانًا. هو الذي مسحه الرّوح القدس مكرّسًا بشريّته لرسالة إعلان بُشرى الخلاص السّارة لبني البشر "المساكين". هذا ما ظهر ذات يوم سبت في هيكل الناصرة. (لوقا 4: 14-21)
1. يسوع الممتلئ من الرُّوح القدس، بدأ رسالته الخلاصيّة بقوّة هذا الرّوح، وهو قدرة الله التي تعضد بشريّته. فقبل بلوغه ثلاثين سنة من العمر، عاش حياة خفيّة في الناصرة حيث "كان ينمو بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس" (لو2: 52). ولمّا اعتمد على يد يوحنّا في نهر الأردن "استقرّ عليه الرّوح القدس" (لو3: 22). هذا الرّوح سار به إلى البرّية حيث صام أربعين يومًا وانتصر على تجارب الشيطان (لو4: 1-12). والرّوح نفسه عاد به إلى الجليل، حيث راح يعلّم، ويُذاع خبره في المنطقة المجاورة.
امتلاء يسوع من الرّوح القدس يُسمَّى في الكتاب المقدّس "المسحة". ولهذا دُعِي "المسيح" حامل الرِّسالة الإلهيّة. في العهد القديم كان "يُمسَح" بالزيت الأشخاص المكرّسون لرسالة انتدبهم الله لها، مثل الملوك والكهنة وأيضًا الأنبياء. فجاء يسوع مسيحًا بامتياز وقد كرّسه الآب كاهنًا ونبيًّا وملكًا.
نقول "بامتياز" لأنّه في آن: الكاهن والذبيحة، النبيّ والكلمة، الملك والمملكة.
2. مسحة الرّوح هي هويّته: "روح الربّ عليّ، ولهذا مسحني". وأصبحت هويّة الكنيسة التي هي جسده. فالمسحة التي استقرّت عليه كرأس، إنّما شملت جسده كلّه. وهي هويّة كلّ أبناء الكنيسة وبناتها، لكونهم أعضاءً في جسده، فنالوها بمسحة الميرون.
أمّا رسالة المسيح فهي التي من أجلها تكرّس بمسحة الرّوح القدس وأُرسل: "مسحني وأرسلني". إنّها رسالة البُشرى السارّة لبني البشر "المساكين": "مسحني لأبشّر المساكين". رسالة يؤدّيها ككاهن ونبي وملك من نوعٍ آخر، يختلف عن العهود السّابقة ويكمّلها. هذه الرِّسالة أعلنها أشعيا النبيّ قبل سبعماية سنة بخطوطها العريضة الأساسيّة في هذا النصّ. ونحن بإمكاننا تصنيفها في ضوء الوظائف الثلاث لرسالته:
- ككاهن، يبشّر المنسحقين، التائبين بالغفران.
- كنبيّ، يعزّي منكسري القلوب، ويُنير عميان البصيرة.
- وكملك، يحرّر المسبيِّين، المأسورين، ويعلن زمنًا جديدًا مقبولًا للربّ.
3. المسحة بالزيت، في الكتاب المقدّس، تشمل عدّة معاني: فالزيت علامة الوفرة والفرح، ويُنقّي، ويُحرّك المفاصل والعضلات، وهو علامة الشّفاء للجراح ولتشنّجات العضلات.
ننال المسحة بالزيت المقدّس، في سرّ المعموديّة، فتنقّي من الخطيئة وتُشدِّد، وفي سرّ الميرون (التّثبيت) فتكرّس للرِّسالة المسيحيّة؛ وفي سرّ مسحة المرضى فتشفي وتقوّي؛ وفي سرّ الكهنوت والأسقفيّة فتشرك في كهنوت المسيح المثلّث، وتصوّر المرتسم في كيانه الدّاخلي على صلاة المسيح الرّأس والكاهن والرّاعي والمعلّم.
بالمسحة نمتلئ من الرّوح القدس الذي يهبنا الحكمة والمعرفة والفهم (لاستنارة الإيمان والعقل)، والمشورة والقوّة (للثبات في الرّجاء وقرار الإرادة الحرّة)، والتقوى ومخافة الله (لإذكاء المحبّة لله في القلب).
4. بالمعموديّة ومسحة الميرون أصبح الشّعب المسيحيّ شريكًا في مسحة المسيح وفي كهنوته المثلّث. إنّه الكهنوت العامّ المختلف عن كهنوت الدرجة المقدّسة والخدمة. ذلك أنّ المعمَّدين الذين مُسحوا بالميرون يصبحون مكرَّسين ليشكِّلوا هيكلًا روحيًّا، وكهنوتًا مقدّسًا، كي بمثابرتهم على الصّلاة وتسبيح الله، ومن خلال أعمالهم كمسيحيّين، يقدّمون ذواتهم ذبائح حيّة، مقدّسة، مقبولة من الله (راجع روم12: 1) (البُعد الكهنوتي)، ويعلنوا عظائم الله الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب (البعد النبويّ) (راجع 1بطرس 2: 4-10). ويؤدّون شهادتهم للمسيح بالعمل من أجل إحلال العدالة ونشر السّلام (البعد الملوكيّ).
5. جرى إعلان نبوءة أشعيا النبيّ في يوم سبت، وهو يوم الربّ في العهد القديم الذي أصبح يوم الأحد بعد قيامة المسيح من بين الأموات، وكان في ذلك وفي إطار قراءة من الكتب المقدّسة. "يسوع ذهب كعادته إلى المجمع يوم السبت وقام ليقرأ" (لو4: 16).
إنّه يعطينا المَثَل والقدوة في حفظ يوم الربّ، والذهاب إلى الكنيسة في كلّ يوم أحد للمشاركة في الليتورجيا الإلهيّة مع الجماعة المؤمنة. هذا الالتزام هو من وصايا الله الآمرة "بحفظ يوم الربّ" (الوصية الثالثة من الوصايا العشر)، ومن وصايا الكنيسة الآمرة "بحفظ يوم الأحد والأعياد المأمورة والمشاركة في القدّاس الإلهيّ" (الوصيّة الأولى من الوصايا السبع).
السبت، في العهد القديم، يمثّل يوم اكتمال الخلق الأوّل. وقد حلّ محلّه يوم الأحد الذي يذكِّر بالخلق الجديد الذي بدأ بقيامة المسيح.
الاحتفال بيوم الأحد وبالليتورجيّا الإلهيّة يشكّل قلب الحياة المسيحيّة، لأنّنا نحتفل فيه بالسّر الفصحيّ، سرِّ موتِ المسيح لفدائنا من خطايانا، وقيامتِه لتقديسنا. ويتمّ هذا الاحتفال في الرّعيّة مع جماعة المؤمنين المنتمين إليها، كشهادة انتماء وأمانة للمسيح ولكنيسته في الرَّعيَّة. إنّ جماعة المؤمنين الملتئمين حول الإفخارستيا يولِّفون جسد المسيح السّرّي. فالغياب عن هذه الجماعة هو بمثابة تمزيق لجسد المسيح، كما نبّه الآباء القدّيسون.
6. وكان الإعلان في إطار قراءة من أشعيا. الأمر الذي يعلّمنا أهميّة سماع كلام الله في القراءات أثناء القدّاس. فهي رسائل من الله إلى الجماعة المصلّية. من خلالها يخاطب الله قلب كلّ واحد وواحدة. لذا ينبغي سماعها بإصغاء وانتباه لئلا تسقط كلمة منها خارج الأذن والقلب. يقول أحد معلِّمي الكنيسة: "كما نحتاط، عند المناولة، لئلّا يسقط أرضًا أيُّ جزء من القربان، مهما كان صغيرًا، لأنّ المسيح موجود كلّه فيه، كذلك ينبغي أن نحتاط عند سماع كلام الله، كي لا تسقط منه أيّة كلمة، لأنّ فيها كلُّ المسيح-الكلمة".
هذا الأمر يقتضي من القارئ أن يقرأ بتأنٍّ وبلفظ واضح، وبصوت جَهوري، من أجل وصول الكلمة واضحة إلى السَّامعين. فالقراءة الواضحة والمتأنّية هي علامة الإيمان بكلمة الله. لذا، يجب اختيار القارئ المناسب. فليس كلّ الأشخاص مهيَّئين للقراءة، ولا يجوز تكليف أيّ كان بها.
* * *
ثانيًا، جمعيّة سينودس الأساقفة الخاصّة بالشبيبة
نواصل نقل الفصل الثالث من وثيقة "الخطوط العريضة" وهي بعنوان: "الشبيبة والإيمان وتمييز الدعوات". يتناول هذا الفصل مرافقة الشبيبة في تمييز دعواتهم، مع الأخذ بعين الاعتبار الأشخاص والأمكنة والوسائل. فبعد أن نظرنا في مكوِّنات المرافقة، ننقل اليوم ما يختصّ بالأشخاص. فهم:
1. الشباب كلّهم، من دون استثناء الذين من حقّهم أن ينعموا بالمرافقة في مسيرة حياتهم. فمن واجب الكنيسة والجماعة الاهتمام بالشباب الفقراء والمهمَّشين والمقصيِّين والعائشين في ظروف بؤس وعنف وحرب ومرض وإعاقة وألم.
2. الجماعة المسيحيّة كلّها المسؤولة عن تربية الأجيال الجديدة، وإشراكها في هيئات الأبرشيّات والرَّعايا والمجالس الرَّاعويَّة، بحيث يتمكّنون من تقديم مساهمتهم الخلّاقة وأفكارهم الجديدة.
3. الوجوه الجديرة بالثقة التي تواكب الشبيبة في مسار نضجها الإنساني وتمييز دعواتها. هؤلاء هم مؤمنون موصوفون لهم هويتهم الإنسانيّة الواضحة، وانتماؤهم الكنسيّ الصّلب، وميزتهم الروحيّة المعروفة، وقدرتهم التربويّة على التمييز. فمن الضرورة إعداد مثل هؤلاء الأشخاص ومساندتهم، وبخاصّة الذين يعنون بمواكبة المدعوّين إلى الكهنوت والحياة الرّهبانيّة من أجل تمييز دعوتهم.
4. الأهل وسائر أعضاء العائلة، وفقـًا لتوجيهات البابا فرنسيس في إرشاده الرَّسوليّ "فرح الحبّ" (259-290).
5. رعاة الكنيسة والكهنة المكرّسون والمكرّسات الذين لهم دور أصيل كمسؤولين أساسيّين عن مواكبة الشبيبة من أجل نموّ الأجيال الطالعة، ونمو الدعوات المسيحيّة والكهنوتيّة. وهي مهمّة، يقول عنها البابا فرنسيس أنّه لا يمكن جعلها بيروقراطيّة: "فأنتم عشتم لقاءً غيّر حياتكم، عندما ساعدكم كاهن أو معرّف أو أب روحيّ على اختبار جمال محبّة الله. وها أنتم بدوركم مدعوّون لسماع الشبيبة بصبر ومساعدتِهم على تمييز نبضات قلوبهم، وتوجيههم في خطواتهم.
6. المعلّمون والتربويّون، في المدارس والجامعات، بالإضافة إلى مَن هم في عالم العمل، وفي حقل السياسة. هؤلاء كمؤمنين يكونون مثل العجين في مجتمع يصبح أكثر عدالة.
7. المتطوّعون في الحقل المدني الذين يتفانون في سبيل الخير العامّ وحماية الخلق، ومنشّطو الرياضة المندفعون بسخاء.
جميعهم يؤدّون الشّهادة عن دعوات إنسانيّة ومسيحيّة، مقبولة ومعاشة بأمانة والتزام. إنّهم يوقظون في الذين يرونهم الرَّغبة في أن يكونوا مثلهم: أي أن يلبّوا دعوتهم الخاصّة بسخاء.
صلاة
أيّها الربّ يسوع، لقد أشركتنا بهويَّـتك ورسالتك. فكرّستنا بمسحة الرُّوح القدس بالمعموديّة والميرون، وجعلتنا "مسيحيِّين" حاملي مسحة شعب كهنوتيّ مقدّس، يواصل رسالة إعلان بُشرى إنجيل الخلاص لجميع الناس، كما أعلنها أشعيا النبيّ. وفي الكهنوت والأسقفيّة اخترت بعضًا منّا، وصوّرتهم في كيانهم الداخليّ، بمسحة الرُّوح القدس على مثالك، وأرسلتهم معلّمين للكلمة، وخادمي نعمة أسرار الخلاص، ورعاة المحبّة لشعبك. بارك شبيبتنا وكلّ الأشخاص الذين يرافقونهم، لكي يحسنوا تمييز دعوتهم الخاصّة في الحياة. ومعهم نرفع إليك نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك الراعي - التنشئة المسيحية.