كلمة الإنتظار موجودة بغزارة في نصوص المجيء والميلاد في الليتورجية وفي أناجيل الطفولة. فالزمن والنصوص بنوع عام مفعمة بكلمة الانتظار أو بمفردات أخرى مشتقة وتحمل نفس المعنى (الشوق، الرغبة). والإنتظار هو أولاً حالة نفسية. حالة تقف على الحدود بين من هو قائم وما لم يتم بعد. الانتظار إذاً من الحركات الأساسية في حياة الإنسان، وهو مصدر حيوية. إن لم تنتظر فأنت ميت.
هنالك إنتظارات قصيرة الأمد أي يومية (نجاح، مناسبة، موعد...) وإنتظارات كبرى (موت، حياة). هنالك انتظارات المجتمع والكنيسة (السلام والوحدة) وهنالك إنتظارات عالمية وانتظارات كونية (تحقيق ملكوت الله). المهم أن نعيش هذه الإنتظارات. قل لي ماذا تنتظر أقول لك من أنت. انتظاراتنا تعرّفنا. غناك هو غنى إنتظاراتك.
ليس الإنتظار حالة سلبية بل التزام والتزام بالعمل زمن المجيء مناسبة للدخول في عالم انتظاراتي. وهذا عمل يحتاج إلى صدق وجرأة. دخول في عالم انتظاراتي لا سيما تلك الخفية منها وغير المعلنة.
هل المسيح موضع انتظار حقيقي في حياتي؟ كيف؟ بأي شكل؟ ما هو المسيح الذي أنتظره؟
نلاحظ أن الإنتظار في أناجيل الطفولة أمر عملي ومعاش (حتى ولدت ابنها البكر). وإن هذا الأمر العملي والمعاش تحياه جمهرة كبيرة من الأشخاص (مريم ويوسف وزكريا وأليصابات وسمعان وحنه وهيرودس والمجوس والرعاة). شخص يسوع لا يُذكر كثيراً لكن من الواضح أنه في وسط كل هذه الحركة وهو محرّكها غير المنظور.
ميزات هذا الإنتظار المتوقع وغير المتوقع في مسيرة الانتظار:
يحدث ما لم يحدث في الحسبان وما يحدث يقلب كل الحسابات الموجودة (يوسف ومريم مثلاً). لذا يحدث الخوف والاضطراب عند الإنسان، يقابله التطمين من قبل الله (لا تخف يا يوسف، لا تخافي يا مريم...). ثم أن غير المتوقع يكون أقل بكثير من المتوقع (انتظار كبير وتحريك المجوس من آخر الدنيا لرؤيا طفل صغير في المذود).
لكن عند التدقيق يظهر أن غير المتوقع أكبر بكثير من المتوقع (هذا الطفل هو الإبن الوحيد. هو الكلمة). وهذا يفترض مساحة إيمان كبيرة في الحياة. نحن بحاجة إلى قدر كبير من الإيمان لتطبيق ذلك على حياتنا ولنقبل ونرى أنّ غير المتوقع أكبر من المتوقع وأفضل منه. الموضوع موضوع مسيرة إيمان عميقة ومستمرة.
الله شريك في هذا الإنتظار. الله طرف أساسي في هذا الإنتظار وهو موجود في الطريق معنا وبالخصوص في المنعطفات، حيث الرؤيا غير واضحة تماماً. وشراكة الله معنا تصبح حواراً مكوّناً لمسيرة الانتظار. الله شريك لكنه في الواقع أكثر من شريك. هو المحرّك والفاعل الأول في مسيرة الانتظار. وإن غاب الله عن المسيرة فإنها تصبح موتاً لا حياة (هيرودس). هذا يعني أن مركز الانتظار في حياتنا يجب أن يكون الله لا الأشخاص.
وهنا الباب مفتوح للتساؤل عن موقع الله في انتظاراتي... أخيراً الله شريك ومحرك مزعج. يوجه المسيرة إلى ما يريده هو لا إلى ما أريد أنا. هذه هي قصة انتظاراتنا. من هنا ينتج توتر بين ما نريد نحن وما يريد الله. الواقع أنه يجب علينا أن نضع انتظاراتنا على موجة انتظارات الله لا العكس. وهذا أمر يحتاج إلى إمكانية استشفاف مشيئة الله أو قراءة مشيئة الله والتنصت إلى مشيئة الله... وكل ذلك يحتاج إلى قدر كبير من الصمت والهدوء الداخلي والتفكير.
مزايا الإنتظار:
الحركة: عكس ما نفكر. إنتظار أمر ما لا يعني الجلوس ريثما... الإنتظار حركة وما ننتظره يجب أن ندفع ثمنه غالياً. الإنتظار أمر نشط وعامل وحيوي ومتوهج. لاحظ الحركة الجغرافية في أناجيل الطفولة (ناصرة، بيت لحم، عين كارم، مصر، ناصرة، بلاد فارس، القدس، العودة من طريق أخرى...) وترافق هذه الحركة الخارجية حركة أخرى داخلية يسعى الأشخاص من خلالها إلى الارتفاع إلى إرادة الله. هذا هو الأساس: إرتداد مشاريعنا إلى مشاريع الله. الحركة إذاً ليست بدوافع روحية وإلهية، أي البحث عن إرادة الله. نشاط إذاً لكنه نشاط مع الله وفي الله ومن أجل الله (لاحظ الفرق بين المجوس (مع الله) وهيرودس (ضد الله)).
السهر: السهر جزء من روحانية الإنتظار. راجع حارس الليل في نبوءة أشعيا. حارس الليل يعيش حالة ترقب واستنفار وانتباه. سهر لقراءة علامات الأزمنة. سهر عاشه أشخاص الميلاد لقراءة ما يقوله الله لهم في حياتهم. وليس سهلاً أن نقرأ "الشيفرة" الخاصة بالله. ليس سهلاً أن نلتقط موجات الله (راجع إيليا النبي).
والسهر المذكور يسير في اتجاهين: سهر داخلي على ما يجري في داخلنا أولاً. هل أنا ساهر على ذاتي؟ هل أنا حاضر في حركات قلبي؟ هل أعرف أين وكيف تتوجه رياحي الداخلية؟ هذا السهر الداخلي يتطلب الصمت والتأمل والصدق والجرأة في مواجهة الذات. ثم سهر خارجي (عين ثانية) على الله. السهر لسماع ما يريده الله. لسماع "دقة الباب" الخفيفة. وسهر قوي لأن صوت الله ليس ضجيجاً ولا عاصفة بل نسمة عليلة. ومن التفاعل بين السهرين المذكورين تتكون روحانية الانتظار.
الصبر: بذور الإنتظار تنضج دون سرعة. مطلوب في عملية الانتظار الصبر على أنفسنا والصبر على الله. فالله له مواسم وأوقات. تجري رياح الله بما لا تشتهي سفن الإنسان. انظر كم انتظر سمعان الشيخ (كم عمره) وحنه النبية (84سنة). انظر كم عانى المجوس (سفر، تفتيش، رجوع من طريق أخرى...).
ارتداد:أي تغيير اتجاه. وهذا واقع أساسي وملازم في مسيرة الإنتظار. تغيير أفكار وتغيير اتجاه القلب. وهذا الارتداد لا يحصل إلا من خلال الأزمة والتوتر أي من خلال مواجهة الصعاب التي هي أساسية أيضاً في مسيرة الانتظار. انظر ارتداد مريم (فقد كانت لها تساؤلات عميقة قبل أن تقول نعم)، انظر ارتداد يوسف (فقد كانت له مشاريع كبيرة قبل أن يتدخل الله). ثم انظر قصة شخص رفض الارتداد (هيرودس).
أنواع الإنتظار:
- إنتظار مزيّف:مال وسلطة وجاه. لا أحد محصّن أمام هذه الإنتظارات المزيفة. وكثيراً ما نوظف لخدمتها أفضل إمكاناتنا. المجال مفتوح للتساؤل حول انتظاراتي المزيفة.
- إنتظار مشوّه:انتظار خلاص النفوس مثلاً يمكن أن يأخذ أشكالاً مشوّهة. يمكن أن أعتقد أنه يحصل بوسائل بشرية أو بفنون بشرية أو بشكليات أو علاقات بشرية.
- إنتظار بديل: وهذا يحدث عادة بعد خيبة أمل أو فشل أو بعد طول انتظار. انتظر الشعب أن يرجع موسى من الجبل لكنه تأخر فصنع الشعب لنفسه عجلاً ذهبياً وعبده. والبدائل في حياتنا كثيرة (البناء والمدرسة والحركة والتصليحات والمشاريع...).
- موت الإنتظار:هذه هي مصيبة المصائب. اليأس. عندها يتحول الإنسان إلى جثة متحركة. لكن لا حياة فيها. أنظر تلميذا عماوس قبل أن يلتقيا بالمسيح. كنا نأمل أن يخلص الشعب، لكن... المهم أن لا نخف أن تموت فينا بعض الانتظارات، ويجب أن تموت فينا بعض الانتظارات. المهم أن يبقى الانتظار فينا حياً.
- الإنتظار الحقيقي: الانتظارات الحقيقية هي التي يجب أن تبقى حاضرة فينا والتي يجب أن نعمل على نموها وتصحيحها وعيشها. وكل ذلك من خلال التأمل في كلمة الله.
نختم بفرح الانتظار. والفرح سببه المسيح الذي هو مركز وبؤرة ومحرك كل ما قيل عن الانتظار. فرح يتفجر عند مريم بنشيد تعظم نفسي الرب ونشيد تبارك الله على فم زكريا.
- ماذا يعني كل ذلك لي شخصياً، الآن وهنا؟
- ماذا يقول لي الإنجيل بالنسبة لإنتظاراتي؟