إنّ مسيرة الكتاب المقدّس، من سفر التّكوين وحتّى ميلاد الطفل يسوع حُبلى بهذه اللّحظة: ولادة العمانوئيل، الله - معنا. إنّها تتويج لقصّة حُبّ طويلة، لأنّ الله الذي سار مع شعبه منذ إبراهيم يصُبح، هو بالذات، شعبه بواسطة مريم.
لقد أزهرت شجرة اللّوز في ربيع حياتنا، فالبشريّة تنتظر مسيحها بفارغ الصبر، وقلب المعمدان قد عاين النّور. لكن... عند ميلاده، كانت أبواب المضافة مُغلقة. جاء إلى أهل بيته بعد أن حضَّرهم لقرون عديدة "لكن العالم لم يعرفه، ولم يقبله أهل بيته" (يو 1: 10-11).
وقبل أن نتساءل في ما إذا كان الله لم يستطِع أن يُقدّم علامة مُقنِعة أكثر من "طفلٍ مُقمَّط ومُضجعًا في مِذوَد"، دعونا نتأمّل أوّلاً في سرّ هذا الميلاد، وفي كلّ ٍ من الأشخاص الموجودين في هذا المشهد، لنعترف بالحقيقة المليئة بالفرح "فرح الشّعب كلَّهُ، وُلِدَ لكم مُخلِّص وهو المسيح الربّ" (لو 2: 11). والنعمة التي سنطلبها اليوم: أعطِني يا رب أن يُزهِر في قلبي فرح حضورك بيننا.
يوسف
دون يوسف وتيقُّظه الصّامت لإرادة الله الذي يُنيرهُ في قلب الليل المُعتِم، عندما كان مُضطربًا يحاول معرفة كيف سيتصرّف تجاه خطيبته الحامِل، فدون قبوله الاعتناء بامرأة لم تحمَل منه، وتبنّي طفل لم يأتِ من ثمر زرعه، وإنّما من زرع الرّوح القدس، دون إخلاصهِ ومحبتّهِ لهذه المرأة التي يعرف سِرَّها وحُبَّها لله، والتي لا يمكنه أن يشُكَّ بها ولو للحظة، دون تفهُّمهِ وعنادهِ لكي يجد مكانًا ملائمًا لامرأتهِ، التي أوشكت أن تلِد ابنها البكر، بعيدًا عن الأنظار لا في صالة عامّة بمضافة، لم يكن ذلك الطفل سيتمكّن من أن يولَد.
أتأمل بيوسف، الشّريك المثالي لمريم، رائعٌ في تواضعهِ، في تواريهِ الفعّال، في تيَقُّظهِ لإرادة الله وسرعتهِ في الاستجابة لها دون أن يُداخلهُ الشَك، دون تردُّد وحتّى دون أن يطرح أيّة أسئلة.
مريم
إنّ فرح مريم بالولادة يختلط بالكثير من الألم، لا لعدم وجود الرفاهيّة خلال السّفر وفي ساعة الولادة، لكن خاصّةً بسبب هذا الشّعور بالعجز لعدم إمكانيّة تقديم الرفاهيّة والحماية لطفلها والتي كانت ترغب بتقديمها له. لكنّها عادت فقالت "نعَم" وكانت "تحفظ جميع هذه الأمور وتتأمّلها في قلبها". لقد قال لها الملاك: "سيكون عظيمًا وابن العليّ يُدعى، ويوليه الربّ الإله عرش أبيه داود" (لو 1: 32)، وها إنّهما لم يجدا له قصرًا سوى ملجأ للبهائم، وعرشًا له، المذود. لقد تذكّرت مريم على الأغلب كلام أليصابات "طوبى لمَن آمنَت، فسيتمّ ما بلغها من عند الرّب" (لو 1: 45). وبعد أن تأمّلت في كلّ هذه الذكريات في قلبها، اكتشفت مريم "بعد أن عُجِنَت بالرّوح القدس" مَن هو ذاك الذي ولدتهُ.
أتأمّل أنا أيضًا في قلبي بتواضع وفقر، في اختيار الله بأن يُرينا ذاته طفلًا مُضجعًا في مذوَد.
"هوذا مسكن الله بين الناس" (رؤ 21: 3). لقد صار الله إنسانًا بهيئة طفلٍ مولود، عاجزًا، متروكًا تمامًا. تلك هي هوية إله - محبّة، وعلامة لُطفهِ تجاه البشَر. لذلك يسأل صاحب المزامير: "ما الإنسان حتى تذكرهُ، دون الإله حطَطَّتهُ قليلاً" (مز 8: 5-6). لا بُدَّ من أنّه عظيمٌ للغاية لكي يُصبح بهذا الصِغَر والقُرب. هل كان من الممكن لله أن يكون أقرب إلينا أكثر من قُربهِ في هذا الطفل الذي يمكننا أن نلمسهُ، نُقبِّلهُ ... الذي يحتاج إلى الإنسان لكي يكبر ويتغذّى؟!
ومع ذلك أغلقنا أبواب بيوتنا في وجهه، ولم يجد له مكانًا في مضافاتنا. لقد أراد أن يولَد في مكانٍ بلا أبواب، ليكون حاضرًا للفقراء والمشرّدين لأن "ابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالك فيُخلّصهُ" (لو 19: 10). إن لم يكن لله مكان في مضافات هذا العالم فهناك مكان في قلب الله لهذا العالم الذي لا يُحبّ الاستقبال. إنّه رجاء مَن ليس لهم رجاء ومأوى لمَن ليس لهم ملجأ. البُشرى السارّة، المُعلَنة للفقراء، للرّعاة، في ليلة الميلاد هذه، ولاحقـًا للخطأة والعشّارين.
الرّعاة
إنّ أوّل المدعوّين إلى هذا العيد السماويّ هم بالتأكيد، الرّعاة، فقراء يسهرون بقرب قطيعهم، في الليل والبرد القارس. "طوبى لأولئكَ الخدَم الذين إذا جاء سيّدهم وجدهم ساهرين" (لو 12: 37). إنّهم أفضل مَن يمكنهم التعرُّف على "حمَل الله"!. "فجاؤوا مُسرعين" ولم يروا شيئًا خارجًا عن المألوف: مريم و يوسف، والطفل المولود مُضجَعًا في مِذوَد. لكنّهم عرفوا، مثلما عرف سمعان في وقتٍ لاحق، في طفل الفقراء هذا، نور العالم؛ فمجَّدوا وسبَّحوا الله.
وأنا أيضًا أنظر إلى نور العالم وأرنّم مع الملائكة والرّعاة: المجد لله في العُلى والسّلام في الأرض للناس أهل رضاه.
الطفل المولود
هذا الطفل هو "صورة الله الذي لا يُرى" (قول 1: 15) لكي نقبل قدرة الله وحكمته في ضعف طفل مولود، يجب أن نملك أعيُنًا مميّزة. إنّ الآية التي أعطاها الله في ذلك الزمن لم تكن ما ينتظرهُ الشّعب اليهوديّ. فقد كانوا ينتظرون، مع يوحنّا المعمدان، مسيحًا يأتي بقوّة تُبهر الجميع. مَن سيقتنع بهذه الآية "المُعرّضة للرّفض"، بالأمس وفي يومنا هذا؟
ألّم يكن على الله أن يجد علامة أُخرى لتجسُّدِهِ وحضورهِ في ما بيننا أفضل من طفلٍ مولود، "حماقة للوثنيين، وعُثار لليهود" إنّ الله لن يُغيِّر من استراتيجيّتهِ في هذه الألف الثالثة. يشترط الله علينا في حال أردنا الدّخول في علاقة حميمة معهُ: "إن لم ترجعوا فتصيروا مثل الأطفال، لا تدخلوا ملكوت السّموات" (متى 18: 3).
خلاصة
ماذا يمكن للطفل أن يُعلِّمنا؟...
لم يكن لدى الطفل يسوع أيّة وسيلة للضغط: لا يمكنه أن يغصُبني، ولا أن يفرض ذاته عليَّ. في مجيئه طفلًا، يدعوني الله لأن ألتزم بمجّانية، الحُبّ من أجل الحُبّ، وبذلك يدلُّني على الطريق الوحيد نحو الحرّية: الحُبّ المجّاني، وهو أعلى من كلّ سُلطة، ومال، ولذّة. هل لا يزال هناك مكان للمجّانية في عالمنا الذي يسعى إلى الرّبح؟ تدُبُّ الحياة في كلّ شيء أمام نظرة الطفل، تولَد من جديد. "هاءنذا أجعل كلّ شيء جديدًا". وفي مجيئه طفلًا أراد الله أن يدعونا لأن نخلع الإنسان القديم، لنصبح خليقة جديدة.
عندما أذهب للقاء طفل، أنسى أن أجلب معي أسلحتي، وأذهب إليه بيدين فارغتين. إذا ذهبتُ للقاء الآخر، أضع قناعي، فعليَّ بالأخص ألّا أُظهر ضعفي. لكن عندما أكون أمام طفل أُصبح أنا الآخر طفلاً، فهو ينزع عنّي قناعي، و يكشف لي عن حقيقتي.
إن كان هيرودوس قد جُنَّ جنونهُ من الإعلان عن ولادة طفل ملِك، فذلك لأنّ الطفل يُخيفُهُ. أمام الطفل لدينا خياران: أو أنّنا ننزل عن العرش ونعود إلى حالة الطفولة، أو نقتل الطفل لأنه يهدّدنا أكثر من اللازم. لذلك اختار هيرودوس الحَلّ الثاني وقرّر أن يقتل الأطفال.
إن كانت لدينا القدرة لأن نكون أطفالاً في عالم السُلطة والمال، سيستمّر تجسُّد الله، والعلامة التي أعطاها لولادته، "ستجدون طفلاً مُقمّطًا مُضجَعًا في مِذوَد" ستبقى حاضرة دومًا وتجعل العالم قادرًا على أن يتجدّد ويولَد من جديد.
تأمل
لقد وُلِدتُ عريانًا
لكي تتعرّى من ذاتك.
ووُلدتُ فقيرًا
لكي تعتبرني غِناك الوحيد.
ووُلدتُ في مغارة
لكي تُقدِّس كلّ مكان.
لقد وُلدتُ ضعيفًا
لكي لا تخاف مِنِّي أبدًا.
لقد وُلدتُ من أجل الحبّ
لكي لا تشكّ أبدًا في محبّتي.
لقد وُلدتُ ليلاً
لكي تؤمن بأنَّني قادر على تنوير جميع الحقائق.
لقد وُلدتُ مُضطهدًا
لكي تقبل العقبات
لقد ولدتُ في البساطة
لكي تكُفّ عن تعقيد أمورك.
لقد وُلدتُ في حياتك
لكي أصعد مع جميع الناس إلى بيت الآب السماويّ".
لامبِرت نوبين - موقع Jespro