الخوف. هذه الحالة التي تقضّ مضاجعنا سواء كنّا نعيش في أوضاعٍ مضطربة سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو في أوضاعٍ مستقرّة. إنّه الشبح الذي يلاحقنا منذ بلوغنا مرحلة الوعي. خوف من المجهول، خوف من المستقبل، خوف من الفشل، خوف من فقدان ما هو غالٍ على قلوبنا... ونحلم بحياةٍ لا خوف فيها؛ نحلم ولكنّ حلمنا لن يُترجَمَ قطّ إلى واقع، لأنّنا كلّما تغلّبنا على خوفٍ ولد فينا خوف آخر. نتغلّب بالغنى على الخوف من الفقر، فيتولّد فينا خوف فقدان الثروة التي جنيناها. نتغلّب بالزواج على الخوف من العنوسة، فيتولّد فينا خوف من الطلاق... وهذا ما جعل علماء الاجتماع يقولون: الإنسان حيوان مهموم، وفي ذلك تكمن عظمته.
ينبع الخوف من شعورٍ مبهم اسمه الفقدان. كلّ خوفٍ يبدأ حين يعي الإنسان أنّه يمتلك، وينمو حين يتعلّق الإنسان بما يمتلكه، فيكتشف أنّه يتعلّق بما هو مرحليّ، فانٍ، مؤقّت، وأنّه سيفقده ذات يوم، فيخاف. فالخوف يولد من التعلّق وينمو في تربة التخيّل القلق. وها إنّ المسيح ينادينا ويقول: «لا تخف أيّها القطيع الصغير». ويضع لعدم الخوف بعض الشروط:
الشرط الأوّل هو الاستعداد الدّائم لقبول الخسارة. وهو ما نسمّيه مرحلة الزهد. أن أمتلك الأشياء وأعيش وكأنّي لا أمتلكها. كيف؟ بخلق مسافةٍ بيني وبينها تمنعني عن التعلّق بها. مسافة حرّيّةٍ تجعلني أتنفّس بدل أن أختنق. وخير طريقة لذلك هي الامتناع المؤقّت. إنّه نوع من الصّوم. أنا أحبّ الشّخص الفلانيّ: فلأمتنع عن الاتّصال به يومًا أو يومين. أنا أحبّ الكمبيوتر: فلأمتنع عنه يومًا أو يومين. فالانقطاع الإراديّ عمّا أنا متعلّق به يخلق فيّ هذه الحرّيّة، ويجعلني أتغلّب على الخوف من الفقدان. هذا ما أراد يسوع أن يقوله في عبارة: من أراد أن يحفظ حياته يفقدها، ومَن فقد حياته في سبيلي يحفظها.
الشّرط الثاني هو التعلّق بما لا يفنى. بتعبير آخر، التعلّق بالله وحده. إنّه الإيمان الذي تتكلّم عليه الرّسالة إلى العبرانيّين (11/ 1-2 ،8 -19). فالإيمان ليس تبنٍّ عقليٍّ لمجموعة من المعتقدات، بل هو إقامة علاقةٍ مع ما أؤمن به؛ علاقة تجعلني أضحّي بكلّ غالٍ ونفيسٍ في سبيله. وإذ طغى الالتباس على كلمة إيمان، دأبت الكنيسة الكاثوليكيّة على التمييز بين كلمتين: التديّن Religion والإيمان Foi – Faith. الكلمة الأولى لا تشير إلى العلاقة، وبالتالي لا تنزع الخوف من الإنسان. فالمتديّن دائم الخوف ومتوتّر. لماذا؟ لأنّه يخاف أن يفقد الجنّة، ويذهب إلى نار جهنّم. إنّه لا يزال إنسانًا خائفًا وكلّ ما تغيّر لديه هو موضوع خوفه. في حين أنّ المؤمن هو إنسان زاهد شجاع. زاهد لأنّه لا يبالي بالجنّة، ولا يطمح لها، وشجاع لأنّه لا يخاف نار جهنّم ولا يرتعد منها. فما الذي يريده إذًا؟ إنّه يريد أن يقيم علاقة حبٍّ مع الله، علاقة تحرّره من الشريعة وما فيها من مخاوف عقابٍ وتهديد حرمانٍ من الثواب، علاقة تجعله يتمتّع بإلهه، يتمتّع بالأوقات التي يقضيها معه، كما يتمتّع المحبّان بأوقات لقائهما ببعضهما بعضًا.
لقد خصّصت الكنيسة هذه السنة لموضوع الإيمان. إنّه الوسيلة الوحيدة للتغلّب على الخوف. لكنّ الخلل يكمُن في فهم الإنسان لما تعنيه كلمة إيمان. خلاصة القول: أقِم علاقة محبّة مع الله، أحبِبه كما يُحبّ العشّاق بعضهم بعضًا، اعشقه، وسترى خوفك يزول.
بقلم الأب سامي حلاّق اليسوعيّ