عندما نتكلّم عن الحياة النسّكيّة، يَشخُص نظرنا مباشرة الى النسّاك الرُّهبان، الذين إعتزلوا العالم من أجل عيش خوض غمار العشق الإلهيّ. ولكن هل بإمكان العائلة المسيحيّة أيضًا أن تختبر بدورها النسك؟
1- تعريف النسك
يعرّف النّسك، بأنّه العودة إلى الذّات عبر عيش التوبة الدّائمة إلى الله، بالتحرّر من سيطرة الميول والأهواء والغرائز والشّهوات، التي بإمكانها أن تأسر الإرادة فتضعف فيها قوّة الخير والصّلاح، وتشوّه الحبّ وتصيّره حبًّا آثمًا.
يساعد النسك العائلة، في فهم روحيّ عميق لمعنى الإنفصال الحقيقيّ، الذي يكمن في الإبتعاد عن كلّ ما يدّنس ويوسّخ ويلوّث حياة الأزواج، فيسيرون ولا يتعبون في أثر المسيح يسوع شعاع مجد الآب و«صورة جوهره» (عب1: 3) والهدف، تجديد خمرة قانا الجليل التي إرتشفوها في سرّ الزواج المقدّس (يو2: 1- 12) إنّها خمرة عشقه التي تنّقي ذواتهم وتجدّد أذهانهم وتحيي قلوبهم بنعمة الرّوح القدس (2قور4: 16؛ أفس4: 24) فتحوّل فراغهم الى حبّ إلهيّ لا ينضب، وبمعزل عن هذا النسك المسيحيّ – العشقيّ/العرسيّ «لا يسع أحد أن يحقـّق ذاته، أو أن يأتي بمأثرة أو يقوم بمشروع»، وعندها تبقى الحياة الزوجيّة في دوامة اللامعنى ونهايتها اليأس والكآبة والضجر...
من هذا المنطلق بإمكان العائلة المسيحيّة أن تختبر على طريقتها الخاصّة النسك، في حياتها الأسريّة والزوجيّة والإجتماعيّة، ومن الجيّد أن نتأمّل سويًّا في بعض النقاط، لتكون لنا بمثابة خطوطـًا عريضة ترافق الأزواج طيلة هذا الصّوم المبارك.
2- ستة مراحل
أوّلاً الإقتداء: أن تقتدي العائلة بشخص المسيح العريس، والسّير في محبّته على غرار النسّاك القدِّيسين وعائلات القدِّيسين الذين حقـَّقوا في نسكهم الرُّهباني والزوجيّ مسيرة الكمال الإنجيليّ، من هنا أهميّة تخصيص وقت للقراءة الروحيّة التي تتضمن مركزيّة كلمة الله في حياة الأزواج وتطبيقها في أرض الواقع وقراءة سير القدِّيسين، والصَّلاة معاً كعائلة أي تخصيص وقت من النهار، حيث يختبر الأولاد فعاليّة الصّلاة الجماعيّة، فيشاركون مع أهلهم بصلاة التسبيح والتشفع، والشكر لله، المحبّة وتكريم العذراء مريم.
ثانياً الطهارة: عيش الطهارة القلبيّة وممارسة فعاليّة للعفّة الزّوجيّة، من خلال تحرّير القلب من الأنانيّة والخبث والرّياء، والإبتعاد عن روح الزنى في بعده المعنوي والثقافيّ والفعليّ [الإباحيّة الجنسيّة] وأخذ موقف نبويّ من العنف الأسريّ (متى 5: 27- 28)، عندها يتعلّم الأزواج كيف عليهم أن يسيطروا على الذات في منطق نسكيّ بإمتياز، فعندها تشع في قلوبهم مصداقيّة الحبّ الحقيقيّ المقدّس العامل بالرّوح القدس (راجع، 2قور4: 6)، فتنتفي من حياتهم روح المنفعة والرّياء وفي هذا الإطار من المهمّ أن يتكلّم الأزواج مع أولادهم على فضائل أساسيّة، من بينها الطهارة القلبيّة والجسديّة، والإعتدال، والقوّة والعدالة، وإحترام الآخر، وأهميّة الحبّ المفعم بالقداسة، وسرّ الزواج، والطاعة والحوار، والحرّية والمسؤوليّة.
ثالثاً العطاء: كما أنّ الناسك يجسّد في تكرّسه الرّهبانيّ - النسكيّ للكنيسة وللعالم جذريّة أمانته لله المحبّة والتفاني المُحبّ للمسيح حتى درجة بذل الذات والإستشهاد في سبيل خلاص البشر، هكذا الأزواج، يسعون بدورهم وعلى مثال الناسك في عيش جذريّة عطيّة الذات إلى درجة البذل والإستشهاد من أجل الآخر حبًّا بالمسيح يسوع الفادي السّاكن في قلوبهم.
يتحقـّق هذا البذل في عيش قيم سرّ الزواج المسيحيّ: كالوحدة والشّركة واللاإنحلاليّة والدّيمومة (متى 5: 31- 32) والحياة والتربية (متى 19: 13- 15)، فتشّع العائلة حياة إلهيّة تنشر نورها على الأولاد والرعيّة والمجتمع، لذا لا بدّ من أن يتحاور أعضاء الأسرة في كيفيّة عيش الواقع في حياة ملؤها القداسة.
رابعاً: جذريّة الإتّباع للمسيح: يعلّم الناسك العائلة كيف تتبع المعلّم الإلهيّ وكيف تكون له وفيّة (لو 5: 1- 11)، وذلك بالإنفصال عن روح العالم من أجل تحقيق فعاليّة الوحدة الحقيقيّة بالمسيح لذا «يترك الرّجل أباه وأمّه ويلزم إمرأته فيصير الإثنان جسدًا واحدًا» (متى 19: 5) من تلاميذ يسوع (مر 8: 34) إنفصال يتطلّب نبذ التعلّق المفرط في إستعمال المادّة ووسائل الرّاحة، لأنّ أولويّة إتّباع يسوع في العائلة شرط أساسيّ في نجاح الحياة الرّوحيّة فيها، وهنا من المهمّ أن يلقن الأزواج الأولاد ويدرّبوهم بالمثل، على روح الخدمة والكرم والمساعدة والمشاركة.
خامسًا: الشّفاء من قساوة القلب (متى 19: 8)، وذلك بواسطة الرّوح القدس الذي يُدخِل الأزواج إلى مستشفى الرّحمة الإلهيّة، وهناك تنال العائلة من لَدُن يسوع الطبيب وعريسها، الشّفاء من أمراضها النفسيّة والروحيّة وحتّى الجسديّة (لو5: 31 و6: 17- 19) فتتعلّم من معلّمها كيفيّة عيش المحبّة والمغفرة الحقيقيّة. (من الجميل أن نسمع بعضنا كلمات، تعبّر عن حبّنا وشعورنا نحو بعضنا مثلاً: كم أنا أحبك، أحبكم، سامحني، أسامحك، تشجّع، أنا معك، أنت كلّ شيء لي، أنتم أحبّائي...) (لو 6: 27- 36؛ 23: 34) فعندها تتقوى أواصر الشركة فتبني العائلة بيتها – كنيستها البيتيّة، صومعة روحيّة مؤسّسة على كلمة الرّبّ وتعليم الكنيسة فلا تزعزعها الصّعاب ولا التّجارب (لو 6: 46 – 49).
سادساً: تكتشف العائلة في عيشها النسك الروحيّ مصيرها وهدفها تطبيقـًا لوصيّة الرّبّ القائل: «ما من أحدٍ يضع يده على المحراث ويلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله» (لو9: 62). إنّها كالقدِّيسين وجهتها السّماء وغايتها ملاقاة وجه العريس يسوع المسيح، لا يغرّها أي شيء مهما كان قدره وأهميّته، لأنّها لا تريد أن تكرّر خطيئة إمرأة لوط التي عصت أوامر الرّبّ في سدوم (تك 19: 17 و26)، بل تريد السّير في ركب الأبرار والإختلاط بجموع الملائكة والقدِّيسين (وعائلاتهم)، أي إنّها دائماً في الإتّجاه المُعاكس «فتقوّي عطش الوجود إلى حدّ المأساة لتجعل منه العطش إلى الله نفسه، حيث ترى ملء الخلاص» (راتسينغر الكاردينال، ص 88، 2011)، أن نضع السّعي الدّائم في إحراز الحياة الأبديّة من خلال التربية على حياة ملؤها القداسة والنقاوة، تُمكّن الأولاد في كيفيّة أخذ قراراتهم وخياراتهم وأعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم.
ولهذا بإمكاننا القول، إنّ العائلة المسيحيّة وكلّ عائلة، بإمكانها أن تكون عائلة النسك على غرار النّساك، تشهد على مثالهم في عيش حقيقة الحبّ الإلهيّ المتجلّي في "الكنيسة البيتيّة"... لأنّنا جميعنا في يوم من الأيّام سنتحوّل إلى نسّاك متوحِّدين بالآب والإبن والرّوح القدس بشركة تامّة مع القدِّيسين.