عقدت ندوة صحفيّة في المركز الكاثوليكيّ للإعلام، بدعوة من اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام، حول الرِّسالة العامَّة السَّابعة لصاحب الغبطة والنيافة الكردينال مار بشاره بطرس الرّاعي "الحقيقة المحرﱢرة والجامعة"، وثيقة لاهوتيّة توضيحيّة حول مواضيع من تعليم الكنيسة، وهي الندوة الأولى من سلسلة الندوات التي ستقام، تناولت الفصل الأول من الرسالة.
شارك فيها رئيس أساقفة بيروت للموارنة ورئيس اللّجنة الاسقفيّة لوسائل الإعلام المطران بولس مطر، رئيس جامعة الحكمة الخوري خليل شلفون، مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الخوري عبده أبو كسم، وحضور أمين عام جمعيّة الكتاب المقدّس الدكتور مايك بسوس، أعضاء من اللجنة، وعدد من الإعلاميِّين والمهتمِّين.
بداية تحدّث الخوري عبده أبو كسم وقال:
"نفتتح اليوم سلسلة ندوات حول الرِّسالة العامَّة السَّابعة لصاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي تحت عنوان: "الحقيقة المحرِّرة والجامعة".".
تابع "وقد أتت هذه الرِّسالة لتجاوب على تساؤلات المؤمنين حول بعض المواضيع اللاهوتيّة والعبادات التقويّة، ودور السلطة الكنسيّة في التّعليم عليها لتنوير المؤمنين وإزالة الإلتباسات حول بعض المفاهيم اللاهوتيَّة، كوجود جهنم والمطهر أو بعض الصَّلوات، كالتعزيم والتقسيم وغيرها". أضاف "ننتهزها مناسبة لنتوّجه إلى جميع المؤمنين، والمسؤولين، والكهنة والرهبان والراهبات وندعوهم إلى الإلتزام بمضمون هذه الرّسالة، وأن يكفوا عن المبارزة التي تستند في غالب الأحيان إلى الإجتهادات الشخصيّة. التي في بعض الأحيان وللأسف تشتت أفكار المؤمنين، خاصةّ وأن هذه المبارزات تنشط على وسائل التواصل الإجتماعي". وختم قائلاً "وإننا إذ نشكر أصحاب السيادة والآباء اللاهوتيِّين، الذين ساهموا مع صاحب الغبطة في تحضير مضمون هذه الرِّسالة. نسأل الله أن تكون لخير النفوس ولتمجيد الله تعالى".
مطر
رحب المطران مطر بالحضور وتكلّم عن الوحي ونقله ووديعة الايمان فقال:
"أودّ أن أذكر أنّنا في السنة الماضية مثل هذه الأيّام، إجتمعنا حول الرِّسالة السادسة لغبطة أبينا البطريرك الرّاعي وكانت بموضوع "الكنيسة وخدمة المحبَّة". في الرِّسالة السابعة الموضوع يتمحور حول الكنيسة وخدمة الحقيقة، وهذه خدمة جوهريّة وأساسيّة، وأذكّر بما لا يعرفه الكثيرون بأن اللاهوتيِّين الكبار مثل مار توما الأكوينيّ عندما كان يكتب اللّاهوت كان يركع أولاً أمام القربان ويصلي، لأنّ الحقيقة المسيحيّة لا تأتي إلّا من المسيح. لذلك نحن لا نقترح هذه الحقيقة ولا نتفلسف على هذه الحقيقة نحن نقبل هذه الحقيقة التي أتتنا من الله".
تابع "المسيحيّة نسمّيها دين الوحي، أي أن الله الذي خلقنا افتقدنا وتكلم معنا وكشف لنا ذاته وإرادته ودعانا إلى أن نلبي هذه الإرادة ونكون في صحبته ونكون من أبنائه ونكون سعداء. المبادرة هي مبادرة إلهيّة، لذلك نحن نتلقى هذه الحقيقة، نتلاقاها نستقبلها في عقلنا وقلبنا نؤمن بها لأننا نثق بمن قالها نعمل بالفكر لنفهم أكثر وأكثر معانيها وأبعادها، لذلك اللاهوت هو الإيمان الذي يفتش ليفهم الحقيقة التي أتت من المسيح "فأنا لا اخترع المسيحية"."
"سيدنا البطريرك بمقدمة الرسالة أعطانا أهمية هذه الحقائق التي كشفها سيدنا يسوع المسيح وكان كشفها مفيدًا ومنيزاً لنا جميعاً، أعطى مثلا عن نيقوديموس رئيس اليهود، قصد الرّب يسوع في ظلمة اللّيل والضّياع، وفي قلبه شعلة البحث عن الحقيقة قائلاً: "يا معلّم، نحن نعرف أنّ الله أرسلك معلّمًا". فعلّمه يسوع أكبر الحقائق: الولادة الجديدة من الماء والرّوح الّتي تُدخل المولود ثانيّة في شركة ملكوت الله. هذا كان كشفاً للمسيح، الولادة الثانية، هذه الكلمة أصبح لها أبعاداً في حياتنا ، كلمة من المسيح نوّرت حياتنا".
أضاف "أيضًا جاء في رسالة البطريرك، لمّا أتى الفريسيون ليجرِّبوا المسيح قائلين: "هل ندفع الجزية لقيصر"، أجابهم قائلاً "أعطوا ما لقيصر وما لله لله". فقال هذه القاعدة الذهبيّة التي أنارت حقيقة العلاقة بين الكنيسة والسياسة. ويوحنّا المعمدان عندما خامره الشّك، وهو في السّجن، بشأن المسيح، أرسل بعضًا من تلاميذه يسألون يسوع: "أأنت الآتي أم ننتظر آخر؟ فأزال الرّب شكّه كاشفًا حقيقة مسيحانيّته ورسالته، إذ صنع عددًا من الشّفاءات على مرأى منهم، وقال: "إذهبوا وقولوا ليوحنّا ما رأيتُم وسمعتُم: العميان يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصّم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشَّرون. طوبى لمَن لا يشكّ فيَّ". نوّرالمسيح الناس ونوّرنا جميعاً، هكذا بعض أفكار قالها لنا البطريرك "المسيح يكشف لنا الحقيقة والحقيقة تبني."، لأكون إنسان حقيقي عليَّ العمل على نفسي، فكلمة الحقيقة تعني تحقيق وتعني بناء هذا الكون".
وقال "بعد مقدمة البطريرك ولماذا هذه الرّسالة، لأنّ هناك لغط لدى المؤمنين الكلّ يغنّي على ليلاه باسم المسيح: عن الشياطين عن الظهورات عن الإيمان عن العقائد، وهذا حرام، الحقيقة يجب أن تعلن، ونحن مسوؤلون، رجال الدين والأساقفة هم السلطة المعلّمة في الكنيسة، لذلك كأباء ولاهوتيين علينا نشر تعليم المسيح ليحرّر الناس وينوّر عقولهم ويكونوا سعداء في حياتهم: "كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي".
تابع "هذه الرّسالة كما قال غبطة البطريرك الرّاعي موجَّهة إلى كلّ المؤمنين بيسوع المسيح لتضع الأمور في نصابها ولتكون الحقيقة مفرحة. وأريد أن أنوِّه بقداسة البابا فرنسيس الذي يضع دائماً في كلِّ رسائله الفرح "فرح الإنجيل"، في العائلة تكلّم عن "فرح الحبّ"، عن "فرح الحقيقة"، وفي الأرشاد الرسوليّ الأخير "إفرحوا وابتهجوا حول الدّعوة إلى القداسة في العالم المعاصر""، فحقيقة المسيحيّة تعطي الفرح، نحن نتلقى الحقيقة فقط من المسيح".
أضاف "لذلك تذكّر الرّسالة في القسم الأوّل أن الدين المسيحيّ هو دين الوحي، ألله كشف أوّل دعوة واضحة لإبراهيم. أعطانا الوزنات وهذا ما نسميه تكليف، لذلك لا نخاف من الحساب، والذي لا يحاسب الطفل والمجنون. وأعطى الربّ موسى الوصايا العشر، موسى أعطانا العهد القديم، حتى يبدأ العهد الجديد بدم يسوع المسيح "هذا هو دمي للعهد الجديد الذي يهرق عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا".".
أردف "نحن نقول كمسيحيِّين كلام الأنبياء كلام يوحي مشيئة الله شيئاً فشيئاً، إرادته أن يجمع كلّ الناس إلى واحد في كنيسته التي هي جسد يسوع المسيح. هذا الوحي تكامل شيئاً فشيئاً إلى أن ظهر الابن. الحقيقة التي ظهرت عند الإنبياء واكتملت بيسوع المسيح، هذه هي الحقيقة المسيحيّة، فيها فهمنا يسوع المسيح المتجسِّد الذي افتدانا بدمه وبنى الكنيسة، مشروعه في الكون هو أن يجمع كلّ أبناء البشر إلى واحد متصالحين مع الآب ومع بعضنا البعض، هذا ما معنى التاريخ وما معنى المستقبل ومعنى عملنا، وكلّ واحد منّا مكلف بشيء من بنيان هذا الملكوت، أنا تلقيت إذاً وهذا ما عاشه الرّسل، والرسل الاثني عشر هم الذين عاشوا مع المسيح وشاهدوا قيامته ودوَّنوا الإنجيل، الكتاب المقدّس هو الذي ثبّت حقائق وكلام المسيح".
وختم بالقول "الحقيقة المسيحيّة وديعة الإيمان" أي الأرث "وممنوع التفريط بها، الكنيسة مسؤولة عنها وهي امتداد ليسوع المسيح، وهي التي تفصل بأي خلاف بين الناس. بالنتيجة إجماع الكنيسة الآتي من الرّوح القدس، وهو وحده هو الذي يحافظ على حقيقة الإنجيل، لذلك فإنّ السّلطة الكنسيّة هي المسؤولة عن الحفاط عن التراث وتفسيره وإعطائه للناس صافيًا صافيًا".
شلفون
ثمَّ تحدَّث الخوري خليل شلفون السُّلطة التعليميّة، العقيدة وتفسيرها، والظهورات أو الرؤى فقال:
"تتمثل السُّلطة التعليميّة في الكنيسة بشخص قداسة البابا، غبطة البطريرك والسَّادة الأساقفة، وهم في شركة فيما بينهم جميعًا، سواءً عملوا منفردين، أم مجتمعين في المجامع الخاصَّة والمسكونيَّة أو المحليَّة أو سينودوس أساقفة الكنيسة البطريركيّة المارونيّة. فإنّهم كخلفاء للرّسل مقلِّدون سلطان الحلّ والرَّبط وهم يسهرون على الإيمان ويحموه من الأضاليل، يفسِّرونه ويضعون حدًّا للتجاوزات".
وكلّ من يُسيء وينتهك كرامتهم وقدسيَّة الأشخاص المقامين في الدرجة المقدّسة إنْ في الأسقفيَّة أو في الكهنوت، وينعت هذه السُّلطة بالهرطقة وبالعداوة للكنيسة، يرتكب خطيئة جسيمة ضدَّ وصيَّة المحبّة والإكرام، تعاقب عليها الكنيسة في قوانينها الجزائيَّة.
تُعنى السُّلطة الكنسيَّة بالمحافظة على نقاوة الإيمان وحمايته من تأثير البدع والأيديولوجيَّات المتعدِّدة، وعلى حفظ الهويَّة المسيحيَّة المارونيَّة من الانعزاليَّة والتقوقع والأصوليَّة.
على ضوء تعاليم المجامع، وخاصَّة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وكتاب التعليم المسيحيّ، ومجموعة قوانين الكنائس الشرقيَّة، تصدر هذه السلطة التعليميَّة في الكنيسة المارونية هذه التوجيهات الرعوّية الضروريَّة، لضبط هذا التعليم المتجذّر في الكتاب المقدّس والتقليد الرسوليّ الحيّ وآباء الكنيسة، وللمحافظة على روحانيَّة الكنيسة في مقاربة المسائل التي يشوبها بعض الالتباس. وهي التي تستطيع أن تفسّر مدلول الظهورات والرؤى.
ليست الظهورات أو الرؤى موضوع إيمان أساسيّ كالحقائق الموحاة، وهي لا تحتل المكان الأوّل المحفوظ لموت المسيح الوسيط والكاشف حقيقة الله، والذي يحتوي مضمون كلّ رؤيا ويتخطاه. أمّا المعيار الأهمّ فيبقى في الثمار الرّوحية التي تحمِلها هذه الكشوفات إلى الكنيسة.
لتفسير الظهورات والرؤى تعتمد الوثيقة اللاهوتيّة على تفاسير الكاردينال جوزف رتزنغر، رئيس مجمع العقيدة والايمان، (البابا بندكتوس السادس عشر لاحقًا) في شرحه اللاهوتيّ لسرِّ فاطيما[1]. فهي تميّز بين ثلاثة أشكال من الإدراك الحسيّ أو الرؤيا: رؤيا الحواس، أي ما تدركه الحواس الجسديّة الخارجيّة، والرؤيا الداخليّة، وهي ما يراه الإنسان انطلاقًا من داخله، والرؤيا الروحيّة أو الروحانيَّة المعروفة بالصوفيَّة.
إنَّ الظهورات لا تخضع للرؤيا كحسّ عادي جسديّ خارجيّ. فهي لا توجد في عالمنا الماديّ كبقيّة الأشياء الماديّة والمحسوسة والملموسة، كالشجرة أو البيت. وهي تتطلّب تنبّهًا داخليًا في القلب يكون في الغالب غير موجود عند الكثيرين، بل عند القلائل الذين يختارهم الرّب، بسبب ضغط الأشياء الخارجيّة القويَّة، وبسبب الصُّور والأفكار التي تملأ النفس. هكذا يمكن أن نفهم لماذا يكون الأطفال هم الأشخاص المميَّزون لمثل هذه الظهورات ومن السَّهل لديهم الانتقال من رؤيا الحواس الخارجيّة إلى الرؤيا الداخليّة، كما في ظهورات فاطيما ولورد على سبيل المثال.
لا تُمثّل الظهورات أو الرؤى في الإيمان المسيحيّ المكان الأوَّل كأحداث موت وقيامة يسوع الوسيط الوحيد والكاشف حقيقة الله وظهورات أو تراؤيات القيامة. كما يساهم حسن الإيمان الموجود عند المؤمنين في تمييز السلطة الكنسيَّة لصحّة الظهورات والرؤى، انطلاقًا من المبدأ القائم على قبول إمكانية تدخّل الله في التاريخ عبر الظهورات، وهي لا تمسّ بكمال الوحي في المسيح الذي أُعطي لنا بشكل نهائي في الكتاب المقدّس.
يتطلّب من الكنيسة أن تُحقّق في صحَّة الظهورات، وأن تُميّز إذا كانت الرؤى تحمل رسائل لخير المؤمنين في الزمن الحاضر. وبإمكان الظهورات أو الرؤى أن تكون دافعًا لتغيير الحياة والتوبة بحسب الإنجيل. فكلمة السرّ هي في الدَّعوة إلى "التوبة". إنّ فهم علامات الأزمنة يعني قبول ضرورة التوبة بحسب متطلّبات الإنجيل والنموّ أكثر وأكثر في الإيمان والرَّجاء والمحبَّة. وكلّ ما تبقى لا يعني إلّا البلوغ إلى التوبة الحقيقيَّة. هذا ما نراه يحدث في لورد وفاطيما ومزارات لبنان حيث نشهد معجزات كثيرة في التوبة وتغيير الحياة".
المركز الكاثوليكي للإعلام.