ما هي قُدرتنا على الإنتظار؟
مصيبتنا عدم أو ضعف القدرة على الإنتظار... الولد، مثلاً، لا يعرف ما هو الإنتظار. فحالما يشعر برغبةٍ ما، يريد أن تُلَبَّى حالاً. يعطش؟ لازم يشرب حالاً. يجوع؟ لازم ياكل حالاً (مثل دعاية "السيريلاك": ما تكاد أُمّ الطفل تسحب الملعقة من فمه، حتّى تلعب يداه وعيناه طالبةً الملعقة التالية)... إن أنتَ أردتَ توزيع شيءٍ ما على أولاد، عليك أن توقفهم بالصّف، وإلاّ داسوا بعضهم بعضًا وهم يتسابقون... لا، الولد لا يعرف ما هو الإنتظار.
كلُّنا أولاد، في الكثير من المجالات. ومَن لا يصدِّق، فلْيذهب ويراقب الناس في الدّوائر الحكوميّة، أمام الأفران ومحطّات البنزين في الأزمات، على الطرق ساعة يتعرقل السّير.
إنْ تاجرنا، نريد الإغتناء بأسرع ما يمكن. إنْ مَرِضنا، نريد الشّفاء بأسرع ما يمكن. إنْ ذهبنا إلى الكنيسة، نريد أن يقدّس الخوري بأسرع ما يمكن، وأن يمتنع عن الوعظ لئلاّ يطول القداس. إنْ طلبنا من الربّ نعمة، نريد أن يستجيب بأسرع ما يمكن. إنْ تأخّر ولدنا في دروسه، نريد أن يعوّض بأسرع ما يمكن، حتّى لو عقّدناه بملاحقتنا. إنْ سَلَكَ ولدنا طريق السّوء، نريد أن يعمل حالاً بنصائحنا، ويمتثل حالاً لتهديداتنا.
إنّنا لا نعرف ما الإنتظار، ولا ما قيمته.
إذنْ، فلنسأل المزارع. إنّه يزرع وينتظر... ولْنسأل الصيّاد، لا سيّما صيّاد السّمك بالصنّارة... والمعماريّ... والبحّار... والفنّان بالموسيقى أو الرّسم أو النحت... ولْنسأل الطيور، والزهور...
ولْنسأل الإنجيل: "إسهروا، لأنّكم لا تعلمون في أيّة ساعة يأتي سيّدكم... كونوا مستعدّين لأنّ ابن الإنسان يأتي في ساعةٍ لا تخالونها" (متّى 24/ 42، 44). "كونوا متشبّهين بأُناس ينتظرون سيّدهم. حتّى إذا جاء وقرع، يفتحون له حالاً" (لو 12/ 36 - 37). "من يصبر إلى المنتهى يَحْيَ" (متّى 10/ 22، 24/ 13). "يُشبه ملكوت السّماوات رجلاً زرع في حقله زرعًا جيّدًا... فجاء عدّوه وزرع بين القمح زؤانًا... فلمّا ظهر الزؤان، دنا عبيد ربّ البيت وقالوا له: أتريد أن نذهب فنجمعه؟ فقال لهم: انتظروا زمنَ الحِصاد، لئلاّ تقتلعوا مع الزؤان القمحَ أيضًا" (متّى 13/ 24 - 30).
مصيبة كبيرة أن لا نعرف قيمة الإنتظار... ومصيبة كبرى أن نعود لا ننتظر شيئًا من الله! لأنّ قلب الإنسان واسعٌ وُسعَ المدى وأكثر، فما من شيء يستطيع أن يملأه، إلاّ الله: "يداي صغيرتان يا ربّ، يقول طاغور، يداي صغيرتان، ولكن اسكُبْ. فلسوف تفنى الأجيال، ويظلّ في يديّ فراغ". والقدّيس أغسطينوس: "لقد أوجَدْتنا لك يا ربّ. وإنّ قلبنا سيظلّ حيران إلى أن يستقرّ فيك يا رحمان!" والمسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله". هذه الكلمة هي كلمة الحبّ والعطف والحنان. وما أحوج الإنسان إلى هذه الكلمة!.. إسألوا المرأة التي يُغْدِق عليها زوجُها كلُّ ما في وسع امرأةٍ أن تشتهي من مال وجواهر وفساتين...، لكنّه يحرمها كلمةَ الحبّ والعطف والحنان...
لا، الدنيا وحدها لا تُشبع. المال وحده لا يُشبع. الجمال، النجاح، الصحّة، اللّذة، الوجاهة، العمر الطويل... كلُّها أمور لا تُشبع شوق الإنسان إلى أكثر ممّا يوفّره كلُّ ذلك. وما الذي يوفّره كلُّ ذلك؟ ما توفّره نُتَفٌ من الفرح لا تتعدّى كونها نُقَط زَيْتٍ تُسكَب من وقت إلى آخر على دواليب مَكَنة لئلاّ تَصدأ فتَئِزّ.
قال أحد الأُباء: "نحن الجائعين إلى أكثر من الخبز، لا نَشبع ولو جلسنا على كلّ ما في الأرض من موائد. نحن العطاشَ إلى أكثر من الماء، لا نرتوي ولو وَرَدْنا كلَّ ما في الأرض من ينابيع". كما ويقول: "لذّةُ الحبّ في الحرمان"، أي في الأمل، في الترقّب، في الإنتظار...
فالله، ذلك الحبّ المطلق والأب الرّحوم، يستطيع وحده أن يُشبع قلب الإنسان حتّى في قلب انتظاره، إذا كان انتظارُه رغبةً في المزيد من المحبّة.
يقول أديبنا: "الحياة بحرٌ، أمواجُه الأعمار، أمّا شاطئه فقلبُ الله". هذا الشاطئ الإلهيّ، في وسعنا أن نَحطّ عليه منذ الآن، فنشعر بقرب الله "بما يشعر به الولد في حضن أُمّه". ولا عجب، "فكما أنّ شوقنا إلى الخبز يقودنا حتمًا إلى الرّغيف، هكذا هُيامُنا بالله يقودنا حتمًا إلى الله".
فهل من المستغرب بعد ذلك أن نسمع ناثر هذا الكلام يعبّر عن انتظاره، في آخر صفحةٍ خطّتْها أنامله، بهذا الكلام في الموت: "قليلاً وأُغادركِ أيّتها الصّحراءُ القاحلة... قليلاً وأُحطّمكِ أيّتها القيود... لقد قضيتُ عمري منتظرًا هذه الساعة، فدَعوني أتمتّعُ بلقائها... طيلةَ إقامتي في هذه الدّيار، لم يكن شوقي للعودة إلى ذاك العالم يفارقني لحظةً واحدة. وها قد حانت ساعةُ الرّجوع... فهاتوا أيديكم وصافحوني مهنّئين...".
"قضيتُ عمري منتظرًا..."
العذراء أيضًا قضت عمرها منتظرةً... ولا تزال.
القدّيسون قضوا عمرهم منتظرين. ومنهم القدّيسة تريزيا الطفل يسوع، تلك المستحبسة في الدّير، والتي قضت عمرها تنتظر وتنتظر. مُجملُ كتاباتها موضوعٌ بصيغة المستقبل...
نعم، حياة الإنسان انتظار مستمرّ...
لذّة الحبّ في الحرمان؟ لذّة الإنتظار في أن يكون مُفعَمًا بالرّغبة والمحبّة. "توكّلنا على الله، فهو ملجانا. توكّلنا على الله، لا نخاف السّوء". حتّى لو نال السّوء منّا، لا نخاف، إنْ نحن وَضَعْنا اليد في يد الله، إنْ نحن اتّكلنا عليه، إنْ نحن آمنّا حقًّا بأنّ مشيئته هي الفُضلى. فلْنجرّب!.. شرط أن، عندما نفكّر بالمسيح، لا ننزع عنه الصّليب، ونجعل في يده عصًا سحريّة، لأنّه قيل: "من يبحث عن مسيحٍ بلا صليب، يجد صليبًا بلا مسيح!"...
اتّكلنا كثيرًا على ذواتنا، فكثيرًا ما خابت الآمال، وظللنا حائرين...
اتّكلنا على الأصدقاء والإخوان لحل مشكلة لبنان، فخابت الآمال، وظللنا حائرين...
نتّكل على الوسائل الطبيعيّة لإبعاد مرض، لنسيان خيبة، لسلوان حزن أو أسى، وكثيرًا ما تُخيَّب الآمال، ونظلّ حائرين...
الحيرة قتّالة. فلماذا لا نتبنّى قول القدّيس أغسطينوس: "أوجدتنا لك يا ربّ، وإنّ قلبنا سيظلّ حيران إلى أن يستقرّ فيك يا رحمان؟" هكذا فعل إبراهيم ويهوديت وأيّوب ومريم ويوسف، وكلّهم توكّلوا على الربّ وانتظروا منه الفرح، فنَعِموا بالطمأنينة. ألم يقل مار بطرس: "أَلقوا كلَّ اهتمامكم على الله، لأنّه حريص عليكم" (1 بط 5/ 7)؟ والنبي داود: "ألقِ على الربّ همّك وهو يعُولُك ولا يَدَعُ الصدّيق يتزعزع إلى الأبد" (مز 55/ 23)؟ فالربّ، إن هو لا يُزيل أسباب الهمّ، يجعلنا بحضوره وحنانه نشعر بقربه "بما يشعر الولد (المعذّب) في حضن أُمّه". حضن الأُمّ لا يُزيل الوجع. حضن الأُمّ يبلسم ويُطمئِن ويُشبع الأمل. فلْنفعل إذن كما فعل إبراهيم وأيّوب والعذراء ويوسف، وكما فعلت تلك الفتاة الجامعيّة في الجزائر:
رفيقة لها قالت يومًا لأحد الآباء اليسوعيين:
- أبتِ، أَسرِعْ وقُمْ بزيارة إحدى صديقاتنا. إنّها مُشرفة على الموت.
- طالبة مثلك؟
- إنّك لا تعرفها.
- إذنْ استدعي لها خوري رعيّتها.
- لا. لا تريد أن تواجه الكهنة، ولا أن يحدّثوها عن الدين. إنّها تعيش كالوثنيّين، ولكنّها "طيّوبة". تعال، أبتِ!
- كيف أذهب وهي لا تريد أن ترى كاهنًا؟ أُتركوها!.. سوف أُصلّي لأجلها.
- لا، أبتِ. قلنا لها إنّك ستأتي. وهي ترضى بك. تعالَ...
فذهب.
أثناء الحديث قالت المسكينة:
- كنتُ كثيرة المواهب. لكنّ الشّلل أقعدني منذ ثلاثة أشهر. حالتي ثقيلة جدًّا، وإنّي سأموت حتمًا بعد يومين... أَتيتُ من الكلّ الأكبر، وسأَنحدر إلى الكلّ الأكبر. ثمّ أَهترئ في الأرض مثل البهائم والشجر وكلّ شيء...
- لو لم أَكن مسيحيًّا، لكنتُ وافقتُ على كلامك هذا اليائس. لكنّي مسيحيّ. وبهذه الصّفة، اسمحي لي بأن أقول لك رأي يسوع المسيح. لمّا نزل إلى بستان الزيتون لكي يتعذّب قال: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان، والكرّام أبي. فعندما يرى غصنًا نشيطًا وجميلاً، ينقّيه، لا ليعذّبه بل ليُعطي ثمارًا أكثر وأجمل" (يو 15/ 1 - 2)...
هذا الغصن الجميل هو أنتِ يا صغيرتي، والآب ينقّيك لكي تعطي ثمارًا أجمل...
- أين تعلّمتَ ذلك؟
- في الإنجيل حسب يوحنّا، الفصل الخامس عشر. تفضّلي، هذا هو إنجيلي. خُذِيه، واطلبي من صديقتك أن تقرأه عليك... لا أُريد أن أُثقّل عليك أكثر من ذلك. بخاطرك...
في الغد، زار القربان المقدّس وخاطب يسوع قائلاً: "اصطفل! أنت المسؤول الأكبر. عليك تدبّرها مباشرة، منك إليها، طالما أنّها لا تريد مواجهة الكهنة". بعد قليل من التأمّل، شعر بأنّ المسيح يقول له من داخل بيت القربان: "لو أنّك تحملني إليها! إنّها معمَّدة، كما تعلم".
وحمل إليها القربانة...
رأته يدخل من الباب فقالت:
- كنت ناطِرْتَك. ولَكَم خِفت من أن لا تجيء... (وبعد أن تفرّست به مليًّا): أبتِ! كيف صار أنّ الآب أحبّني إلى هذا الحدّ؟
- أجهل كيف. الأكيد الأكيد هو أنّه يحبّك حبًّا لا متناهيًا.
- (بعد أن ضمّت يديها): إلهي، أيّها الآب، أشكرك لأنّك أحببتني إلى هذا الحدّ... أبتِ، ماذا يجب أن أفعل؟
- معي أنا، لا شيء. شغلك معه هو. تفضّلي. جـِبْت لك القربانة. هو بالذات آتٍ إليك، خذيه!
- أتريد أن أتناول؟
- نعم. أنتِ معمّدة.
- ولكن، هَيْك؟ دون اعتراف؟
... بعد الإعتراف ومنح الغفران قال لها: "الآن اطمئِنّي، ولا تخافي. ها هوذا. اصْطفلي منك إليه".
في اليوم التالي، ماتت... قالت أُمّها للكاهن: "ماتت، ولكن يصعب عليّ أن أبكيها. كانت لا تفتأ تردّد وتقول: إلهي، أيّها الآب، أشكرك لأنّك أحببتني إلى هذا الحدّ... أُمّي، أنا ذاهبة إلى الآب السّماوي..." (عن الأب مُونيه، في كتابه "أيّها الربّ إنّي أبحث عن وجهك"، 157 - 159، سلفاتور 1972).
بعد التأمّل بهذه الحادثة، لا يسعني إلاّ أن أستنتج وأقول إنّ الله ينتظرنا أكثر ممّا نحن نتنظره. ولا عجب، فالإنتظار، والترقّب، والشوق، على قدر المحبّة... ألله ينتظرنا في الصلاة، في الإفخارستيّا، في اللّقاءات، في القريب، في الأحداث، على أبواب قلوبنا. "ها أنا، يقول الربّ في سفر الرؤيا، واقفٌ على الباب أقرعه. فإنْ سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، دخلت إليه، فأتعشّى معه وهو معي" (رؤ 3/ 20)... "إنْ سمع أحد صوتي". من يسمع أحسن من الذي يكون منتظرًا الزائر؟... عسانا جميعًا نلبّي انتظار الربّ، فيلبّي انتظارنا... "طوبى، يقول المسيح، لأولئك العبيد الذين يجيء سيّدهم فيجدهم متيقّظين، منتظرين. الحقّ أقول لكم إنّه يشدّ وَسْطه ويُتْكِئُهم، ويقوم على خدمتهم" (لو 12/ 36 - 37).
فيا مريم، يا سيّدة الإنتظار، صلّي لأجلنا.
الأب جميل نعمةالله السقلاوي
مرسل لعازري